هناك لحظات تاريخية مُهيّأة للخروج باليمن من أزماته إذا نجح اليمنيون في استثمارها بالمكان والزمان المناسبين وبالفعل المناسب؛ لأن اليمنيين - للأسف - أكثر شعوب العالم هدراً للفرص التاريخية التي تجلّت مرات ومرات، وهم اليوم أمام لحظة تاريخية جديدة ومواتية تمثّل الفرصة الأخيرة أمامهم إذا توافرت لديهم الإرادة القوية والنيّات الصادقة والمسؤولية الوطنية، هذه اللحظة التاريخية أو الفرصة الأخيرة تتجلّى في مؤتمر الحوار الوطني الشامل الذي دُشّن يوم أمس والذي يأتي تطبيقاً للمبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية المزمَّنَة لإجراء التسوية السياسية في اليمن، وأيّدتها قرارات وبيانات مجلس الأمن الدولي ذات الصلة بالأزمة السياسية في اليمن، وباركتها دول مجلس التعاون الخليجي والمجتمع الدولي، وهو الحوار الذي من شأنه أن يكسر حالات الاحتقان والجمود السياسي، ويفتح أمام اليمنيين أبواب الأمل في ولادة عهد جديد ومُعالجة كل الإشكالات والأزمات التي توالت على اليمن منذ خمسين عاماً مضت، وتضع اللبنات الأساسية للواقع الجديد الذي ينشده اليمنيون وكل قواهم السياسية والحزبية والاجتماعية ويحافظ على وحدة وأمن واستقرار اليمن. ما من شك أن القوى السياسية والحزبية وكل قوى المجتمع الحيّة باختلاف أطيافها الفكرية والسياسية مؤهلة أكثر من غيرها لإدراك أهمية وأبعاد هذه اللحظة التاريخية، وحاجة الوطن الماسة لجهود كل أبنائه في إنجاح الحوار كسبيل أمثل ووحيد لحل كل الإشكالات ومُعالجة كل الاختلالات والاختلافات بدلاً من العنف والاقتتال والحروب التي ستأكل الأخضر واليابس - لا سمح الله - وذلك بعد أن جرّب الجميع كافة خياراتهم، واستنفدوا جميع أوراقهم وأسلحتهم وقواهم، وأوصلوا البلاد إلى ما تعيشه من أوضاع متردية ومتدهورة في كل المجالات بفعل الأزمة الخانقة التي شهدتها اليمن ولاتزال تعاني آثارها وتداعياتها حتى اليوم، وتقتضي المسؤولية الوطنية والدستورية والأخلاقية من كافة أطراف العمل السياسي والاجتماعي ومن كل قوى المجتمع الفاعلة قبل غيرها التقاط هذه اللحظة والفرصة التاريخية، والتعامل معها بمسؤولية تؤكد انحيازها إلى الوطن والمستقبل، وتحويلها إلى منطلق لحراك وطني سياسي اجتماعي يُسهم في إنهاء معاناة اليمنيين وتدهور أحوالهم المعيشية، وتحقّق لهم الأمن والأمان والحياة الحرة الكريمة، ويحافظ على وحدة وطنهم، من خلال الحرص على إنجاح الحوار الذي لم يعد أمام اليمنيين أي خيار غيره للخروج باليمن من عنق الزجاجة. ولا يمكن لهذه الأطراف السياسية والحزبية والاجتماعية الانتقال بفعلها وقناعاتها إلى مستوى متطلبات الحوار الوطني المُثمر والناجح إلاّ إذا استطاعت مغادرة مستنقعاتها الآسنة وتطهّرت من كل ما علق بها من أدران وطفيليات وسموم قاتلة، وتحرّرت من نوازع الحقد والكراهية فيما بينها أولاً؛ وفيما بينها والشعب الذي أصبح مصيره بيد هذه الأطراف تتحكّم فيه كيفما أرادت وفي أي اتجاه تريد وبما يخدم أهدافها وأطماعها في الحكم والجاه والسلطة والنفوذ، فتطهير الذات من كل ما هو سلبي ومن كل تفكير عدمي لا يؤمن بحق الآخرين في التفكير والفعل، أولوية لابد منها لحماية الاختلاف الفكري والتعدُّد في إطار الوحدة واحترام الآخر وعدم التخندق مع طرف ضد آخر، أو مع الذات والحزب ضد الوطن والشعب. نجاح الحوار الوطني الشامل معقود قبل كل شيء على النُخب الوطنية وعلى قدرتها في الانحياز إلى الوطن وحماية وحدته وأمنه واستقراره، وفي قدرتها على صياغة رؤية وطنية علمية جامعة تجسّد فيها أفضل الخيارات والآراء والأفكار والتصورات الوطنية العلمية، لتكون دليلاً يسترشد به الفرقاء السياسيون والمتصارعون على السلطة في حوارهم وتحاورهم للوصول إلى اتفاق من أجل المستقبل. المعيار الحقيقي الأول لقياس مدى حرص وصدق ومسؤولية كافة الأطراف في استثمار هذه الفرصة التاريخية يتمثّل في خطابهم السياسي الإعلامي الجديد والمُنتظر والبديل لذلك الخطاب الذي اعتاد عليه اليمنيون الذي عمّق الفُرقة والاختلاف وصراع المصالح الذاتية والحزبية على حساب مصالح وحقوق الأغلبية العظمى من أبناء الشعب، حيث سعى - ولايزال - كل طرف إلى فرض مشروعه السياسي دون أدنى اعتبار للثوابت والمصلحة والهوية الوطنية. اليمنيون يتطلّعون إلى خطاب سياسي إعلامي وثقافي يُسهم في تعزيز الانفتاح نحو الحوار والوفاق الوطني ويتمترس في كنف الدفاع عن الثوابت الوطنية، ومصالح الشعب والوطن العليا، وممارسة الحقوق المشروعة في إبداء الرأي والأطروحات المتباينة، ونشر المعلومات وتقديمها إلى الرأي العام المحلي والخارجي في إطار من المسؤولية التامة والشفافية والصراحة بعد التثبُّت والتيقُّن من مصداقيتها وحقيقتها. كما أن الحوار الذي يتطلّع إليه اليمنيون اليوم يعني التنوُّع الذي يرفض كل أشكال التنميط السياسي والجمود الفكري، وادعاء احتكار الحقيقة، وهذا يقتضي - كما أسلفنا - إنتاج خطاب سياسي وإعلامي موجّه لإعادة تشكيل قناعات الناس ومواقفهم المتناقضة والمتناحرة بشكل سليم؛ تنمو وتزدهر فيه قيم التوحُّد والولاء الوطني، وتتعايش فيه كل التباينات الفكرية والسياسية والاجتماعية والإبداعية ضمن إطار الوحدة، خطاب يلبّي مُقتضيات واشتراطات التغيير والإصلاح بالوسائل السلمية المشروعة، ويواكب العصر، قادر في الوقت ذاته على استلهام خصوصيات وتعقيدات الواقع وممكناته العملية المُتاحة للخروج من هذه الأزمة بأقل قدرٍ من الخسائر والتبعات السلبية. أمل الوطن ورهانه لايزال معقوداً على نُخبه الوطنية، وعلى إدراكها حقيقة الدور والواجب المطلوب منها في هذه المرحلة الحاسمة، فالوضع لا يقبل المزيد من التسويف، فالجميع يبحرون على قارب واحد، ومصيرهم جميعاً مرهون بسلامة هذا القارب في الوصول إلى شاطئ الأمان. رابط المقال على الفيس بوك