تحت التعذيب قد يعترف إنسان ما بجريمة لم يرتكبها، وتحت الضغط المفرط يمكن لآخر أن يتفوه بمفردات لا يؤمن بها وليس مستعداً لتنفيذها لكنها تجره إلى عالم آخر لم يكن ليتوقعه، أحياناً يصبح الصمت دواءً لأدواء عديدة وتصبح كلمة الحق عبئاً على حاملها والنصيحة التي كانت تشترى بالمال تبقى أرخص ما يمكن بل إنها اليوم سلعة بلا ثمن، كثيرون في هذه الحياة يمضون بلا هوية، بلا هدف، بلا زاد وبلا راحلة، يظنون أن الطريق آمنة من أي مخاطر لكنهم سرعان ما يقعون في شراك الأرض طالبين النجدة، يسيرون بعيداً في صورة استغناء كاملة، ثم لا يلبثون أن يعودا بحثاً عن كلمات تضمد جراحهم الغائرة. وتحت طائلة القهر والتنكيل والبطش يولد في داخل البشر مخلوقات أخرى يغذيها الغل ويسير في عروقها الجحود ويغطي أجسادها شيء من اللؤم ولها أذرع متعددة من السفة والانحلال.. يحدث هذا كثيراً وكل يوم وفي كل مرة نحاول أن نكون شيئاً آخر بعد أن تلفظنا أمزجة الآخرين كفكرة وضيعة لنبقى صوراً معلقة على حائط النسيان عاماً بعد عام، يصبح الاعتراف أسوأ الأدلة حين ينعم المجرمون بالحرية بين يدي عدالة غائبة ويقع الأبرياء أسرى طبائعهم الساذجة حتى بعد أن يحاولوا مراراً الظهور بسرابيل الفطنة وأثواب الدهاء، وقليلاً فقط تظهر الحقيقة بينما تبقى في صناديق السرية دهراً وبينما يذهب الأبرياء ضحايا لها وسواهم ممن وجدوا من يخفي عيوبهم الناتئة طلقاء، أحراراً، لم يذوقوا مرارة الوقوف خلف القضبان دون ذنب يذكر، الفقراء ضعفاء وفي لحظة ما قد يجبرهم ضعفهم على بيع بعضهم الذي لا يباع ولا يقدر بثمن، وحتى يقتنوا الشبع ويسكتوا صوت الفاقة في دواخلهم ويبيتوا دون أن يفتت الجوع أوصالهم فهم يزهدون بما يملكون من أجساد يسكنونها القبور أو السجون هروباً من حياة قست عليهم حتى أجبرتهم على الهروب منها إلى الموت قبل أن يأتي أوانه وتحل ساعته، يصبح الاعتراف أسوأ الأدلة حين يكون الفقر هو الجريمة والجوع هو المتهم والأغنياء هم المحققون والمخبرون والقضاة والسجانون، وهم أيضاً من ينفذ حكم الإعدام في أبشع صوره، فمن حق هؤلاء أن يواروا سوءاتهم التراب بينما تبقى سوأة الضعفاء ظاهرة لا تخفيها إلا مخالب الوحوش الضارية، عن أي عدالة يمكن أن نتحدث بعد أن أصبح الظلم أنشودة كل صباح وترنيمة كل مساء، الفقراء والضعفاء ومن لا حيلة لهم ولا يسمعون عن العدالة إلا كحلم جميل لا يتحقق إلا في بلاد بعيدة خلف السحاب حيث تغسل الأمطار هموم البشر كل يوم. يصبح الاعتراف أسوأ الأدلة حين نفقد القدرة على التمييز بين ما هو متاح وما لا يمكن أن يكون إلا كفرصة نادرة الحدوث ثم تجبرنا قوة الانتقام من أنفسنا أن نقدم فرصة الموت على الحياة دون أن نستوفي شروط الرحيل إلى عالم آخر، الضعفاء حين يأكلون لا تتساقط دون أقدامهم أطنان الغمز واللمز كما يحدث على موائد الكبار الذين يجعلون من فرصة الجلوس إلى الطعام سوقاً للاستضعاف والامتهان وتحقير كل معاني الآدمية، هؤلاء هم من أجبروا بسوط المال شباباً وشيوخاً ونساءً على ارتياد قاعات المحاكم كمتهمين وأودعوهم زنازن الوحدة كمجرمين وكل كبير بما فيه ينضح!.. على أبواب المحاكم ودون منصات القضاة وفي غياهب السجون يعيش أبرياء تلفعوا بثياب الإجرام رغماً عنهم وسقوا من عين الظلم في لحظة ضعف كبل فيها الطغاة إرادتهم ودخلت بينهم المساومة كوسيط غير معلن ولم يكن هناك شاهد إلا القدر، وفي الضعفاء تحديداً تستفيق كل مكامن الخوف، خوف من الله، خوف من الناس، خوف من الحياة، لا من الموت..، خوف قد يدفع بالبعض منهم إلى القبول راضياً ومجبراً بصفقة رخيصة لحمل أوزار من الذنوب لم يقترفها يوماً، يعترفون دون أن يلحظ عين القضاة ملامح الصدق والانكسار وهم يغادرون أرض الحرية الفطرية ويطئون دهاليز الاحتضار المُر رغماً عنهم حتى يعيش آخرون أحراراً لا يقيدهم الفقر ولا ترغم أنوفهم الحاجة ولا يدعوهم اليأس إلى بيع أعمارهم في سوق الكبار ممن اعتادوا أن يبيعوا ويشتروا كل شيء، كل شيء حتى مخادع نسائهم، حتى أوطانهم، حتى ضمائرهم، فلكل سوق عندهم بضائعه ولكل بضاعة سوقها..!