حرضتني مقالة في الجمهورية الأربعاء الفائت على العودة إلى شيءٍ من الماضي، وإن كنت أعتقد أن موضوع المقالة ليس ماضياً بالدلالة المطلقة للكلمة وإنما هو في بعض وجوهه ماثل ومرئي الآن.. ذلك أن التاريخ حلقات متصلة لاتنفك عن بعضها وإن تغيرت الألوان والايحاءات من البريق إلى الظلال ومن الأسى إلى العتمة تبعاً لما يتمخض عنه الصراع بين إرادة التقدم وكوابح التخلف، وبمعنى ما فإن الشق الإيجابي في مجمل الأوضاع الراهنة هو طرف باهت الضوء. من دفق كثيف تجلى في ذلك الزمان. إن الوحدة بوضعها المنهك والديمقراطية بشكلها المهلهل هما حاصل تراكم نضال وتضحيات القوى الوطنية وليس من فعل الهمجية القبلية التي تصدرت المشهد، وبمعنى آخر فإن الحوادث المزلزلة التي هزت البلاد منذ اغتيال إبراهيم الحمدي ومقتل سالم ربيع علي وإعدام قادة حركة 15أكتوبر ما تزال تداعياتها تتتابع حتى ليجوز القول، دون تجنٍ على التاريخ، إن أسوأ الفظائع في اليمن اليوم هي ثمرة طازجة المرارة للبذر الخبيث الذي ألقاه أعداء اليمن على تربتها في تلك الأيام السوداء من عامي 1977 - 1978م. وكذلك فموضوع المقالة راهن وماثل من زاوية اقترابه من مرض مستعصٍ في اليمن وهو ضمور الذاكرة الوطنية بما يعنيه من انقطاع عن التاريخ وقطيعة معه. المقالة المحرضة كتبها الأستاذ محمد ناجي أحمد عن كتاب وضعه الأستاذ/عبدالله عبدالقادر الأغبري عن«عيسى محمد سيف». ومحمد ناجي ناقد لديه الكثير من ملكات التفكير وأدوات البحث بما ينبىء بمفكر قادم إذا تابع وثابر على هذا الدرب ونجح في اجتياز المضيق الخانق الذي يصيب ذوي المواهب في اليمن بالشيخوخة والجدب المبكر، وعبدالله عبدالقادر مناضل وسياسي مثقف عركته الأحداث إلى درجة الإعياء وصهرته التجربة الحزبية حتى غيض في رماد المآسي الوطنية. وأما عيسى محمد سيف، فهو بالحق كله وبالصدق أجمعه قائد ناصري كبير وقائد حركة أكتوبر بحسب عنواني الكتاب الرئيسي والفرعي، لكنه يفوق هذا كله ويتعالى فوق الأوصاف والصفات وبلاغة الكلمات التي تقال في أفذاذ الرجال. لسوف يتضجر من لم يعرفه مما يظن أنها مبالغة في التقدير والتمجيد، لكن الذين عرفوه سيتأسفون من عجز التعبير عن استيعاب القيمة والقامة، وسوف يقولون إن الكلمات التي لم أقلها والكلمات التي لم يخترعها العقل بعد هي الأروع والأصدق دلالة، ولو استطعت أن أدنو من الإصابة لقلت إنه لو قدر لمشروعه النجاح لحفر مجرى آخر للتاريخ في هذه البلاد وفي محيطها الداني والقاصي. أنا والكلمات عاجزة، فقد كان من حُسن الصنع أن يكتفي صاحب الكتاب باسم عيسى عنواناً ففيه الحمولات والمعاني كلها. على أنني لست في مقام صاحب الحق في إطلاق الأحكام حتىأشهد للناقد وأزكي المناضل وأصعب منه أن أسبح في بحر الأضواء المبهرة التي أشعت من تلك العبقرية وليس هدفي الأساسي أن أعلق أو أعقب وإن كان فيما كتب ما يوجب ويستدعي، إلا أنني سأرجىء إلى مابعد الإفضاء باليسير من مخزون الذاكرة، وأزعم أن فيها الكثير، وهذا الكثير على أي حال إنما هو غرفة كف من نهر دافق، فلم يكرمني الحظ مثلما فعل مع آخرين عاشوا معه وعايشوه شهوراً وسنوات، وما ذهبت للدراسة في مصر إلا بعد أن استقر في صنعاء ثم مارجعت صنعاء إلا بعد أن غاص في الشهادة، لكن لقاءات عديدة جمعتنا في تعزوصنعاءوالقاهرة تكفلت بتكوين الصورة، إنما ما الحاجة للرفقة الطويلة لكي تعرف امرءاً يأسر من اللحظة الأولى، وبعد ذلك فقد كانت عصارة فكره زادنا الأسبوعي في الاجتماعات التنظيمية. ولئن لم يكرمني الحظ، فلاشك عندي أن الصديق الأستاذ سمير اليوسفي سوف يتفضل كريماً بإتاحة النشر لما قد يبدو للبعض اهتماماً يخص الناصريين وحدهم وماقد يراه آخرون نوعاً من الذكريات والسيرة الشخصية، بينما أعتقده شديد الارتباط بتاريخ اليمنيين وبهمهم الحالي. وإن أستعيد وأتذكر فلن أبدأ من معرفتي الأولى به في تعز سنة1971م وكان لم يزل طالباً في مصر وكنت في السنة الثالثة إعدادي، حتى انتهي مع صوته في المحاكمة فارساً من نبلاء القرون الوسطى الذين يجمحون إلى الموت بكبرياء وكرامة. سأبدأ بملامة مريرة قالها الدكتور«عصمت سيف الدولة». وكان مساء قاهري دافئ صيف 1980م وقصدته مع الصديق «غازي أبوبكر» في مكتبه بمبنى عريق من مباني وسط القاهرة بشارع قصر النيل على ناصية قريبة من ميدان طلعت حرب، إنه مكتب للمحاماة يديره الدكتور عصمت، ولكنا جئنا نطلب المفكر عصمت سيف الدولة لاستضافته في المحاضرة الأسبوعية برابطة طلاب اليمنبالقاهرة. ولتقديم نفسينا بادر غازي وقال يا «أخ عصمت» واستسمحه بأن نخاطبه مجرداً عن الألقاب والصفات، فقد كانت هذه سمة يمنية قبل إعادة إحياء مفردات صاحب المعالي والدولة والفخامة وقبل أن تنهمر الشهادات العليا عندنا حتى كتب على أمثالي أن يصحح لبائع القات ونادل المقهى وعابر السبيل «لا، لست دكتوراً». لم يوافق الدكتورعصمت«لا يا ابني.. يبقى إيه الفرق بيني وبين السمكري وسائق العربية» لبثنا وقتاً غير قصير في حديث عن أمور شتى وتكلمنا عن أحوال اليمن والناصريين وحركة اكتوبر وقال عصمت:«عيسى ليه عمل بنفسه كده.. حرام عليه.. ده عيسى خساره على الأمة العربية، إزاي محسبهاش صح، حتى لو نجحت الحركة، ماكنش شايف إن السعودية قدامه في الشمال والماركسيين في الجنوب وكلهم مش حايسبوه». إن كانت هذه شهادة مفكر عرف عيسى وأصغى له وحدثه، فالحكاية الطريفة الآتية لاتخلو من معنى ، وصاحبها مصري بسيط «العم هارون» الفراش والحارس لمقر رابطة طلاب اليمن في القاهرة.. قدم لي هارون صينية عليها فنجان قهوة وكأس ماء «تفضل القهوة والماء النقي» قالها بنبرة خطابية ورفع قدمه وضرب الأرض. علقت«الدكتورالشهاري» وكان الدكتورمحمد علي الشهاري-رحمه الله- يتردد على الرابطة محدثاً وسامعاً في الندوات الثقافية فإذا تكلم حرك جسده وأطلق الإشارات من يديه وضرب الأرض بقدمه على طريقة زعماء الثورة البلشفية «لينين وتروتسكي تحديداً». وقد وافقني هارون على أنه يقلد الشهاري وتابع «عاد في عيسى.. تعرف عيسى.. ده كان بحر لا يعام لما يتكلم يجبها من الفراعنة والألمان.. هو يعرفهم منين، هو عاش معاهم وإلا إيه». خسارة على اليمن، خسارة على الأمة العربية، هل أوفاه عبدالله عبدالقادر حقه؟ يكفيه أنه كسر الاهمال، لكن هل تتيح لي الجمهورية وبإذن سمير اليوسفي بأن أواصل.. سأحكي ما أسعفتني الذاكرة. رابط المقال على الفيس بوك