لا أزعم أن باكثير كان يولي كبير عناية للإسقاط المباشر “من التاريخ إلى الحاضر”، بل كان يرى في عبرة التاريخ ما هو قمين بالتأمل، وكان يرى أن خرائب الماضي مازالت تنوء بكلكلها على الزمن العربي الذي عاشه الروائي والمسرحي والشاعر علي أحمد باكثير. لكن الأهم من هذا وذاك والذي قصدت الإشارة إليه تمثيلاً لا حصراً، أن باكثير لم يكن بعيداً عن الحداثة المعرفية والذوقية، بل وظّف العناصر الدرامية السينمائية في هذه الرواية كغيرها من أعماله، وبطريقة تشي بالاستيعاب والذائقة الجمالية الراكزة، وهذا دليل آخر على أن الإحيائيين النهضويين لم يكونوا بعيدين عن حاضرهم ومستقبل الإبداع العربي أيضاً. نموذج باكثير لا يعني غياب نماذج مُقابلة، استعادت التاريخ بطريقة مُتخشِّبة، فالمعلوم أن التردي الثقافي التاريخي تعبير عن بُعد مجتمعي لا يُنكر، غير أن التعميم هو الخطر الأكبر، فتباين الآراء حول تلك المرحلة لا تجعلنا بحال من الأحوال نقلل من مكانة أسماء مثل الجواهري أو البردوني كما تجرأ أدونيس في مقاربته المخاتلة حول الحداثة في الشعر العربي، فالبردوني والجواهري لم يسطعا فقط في بيان التاريخ الجمالي والشعري، ولكنهما واكبا العصر، فقد كان البردوني من أكثر المُتَّصلين معرفياً وذوقياً بكل شاردة وواردة في الشعر العربي المعاصر، وكان مُجدداً بالرغم من اعتماده العمود والقافية، تماماً كما كان أبو نواس أو المتنبي، فلماذا يجوز لأبي نواس ولا يجوز للبردوني أن يطور وفق قالب استوعبه وأدرك أسراره، وعرف مغاليقه؟. في منتصف القرن العشرين المنصرم شهدت الساحة الثقافية العربية روحاً إحيائية نهضوية، وكان علي أحمد باكثير امتداداً لتلك الروح، وكان التوق لمعانقة المستقبل أصلاً أصيلاً في ثقافة الإحياء النهضوي، وذلك من خلال استعادة جواهر الماضي التاريخي ومكنوناته، وقد اختلف النقاد حول تقييم مرحلة الإحياء النهضوي التي تلت الحرب العالمية الأولى، فمنهم من اعتبرها مجرد تكرار لثقافة الأسلاف، ومنهم من رأى فيها إحياءً مقروناً بالتطور، وذلك عطفاً على فيوض العطاء الثر خلال الفترة ما بين الحربين الكونيتين الأولى والثانية، ثم تمددها بحضور وافر طوال القرن العشرين، وللحديث ختام. [email protected] رابط المقال على الفيس بوك