فيما مضى من أيام أنظمتنا العربية كان التشبث بالحكم شيئاً قريباً إلى الجنون والتخلي عنه أمراً أشبه بالمستحيل، لا شيء يشبههم في هذا المسلك الجنوني إلا طفل صغير بيده لعبته المفضلة التي يصعب التنازل عنها إلا بالقوة. ولقد رأينا شيئاً من هذا التشبث بكرسي السلطة على نحو أكثر وضوحاً لدى خروج بعض الشعوب العربية تطالب حكامها بالرحيل.. حاول البعض تقديم اغراءات مثل الإعلان عن الوظائف الحكومية وامتيازات أخرى لقاء تخلي الشعوب عن المطالبة بالرحيل، طبعاً بجانب استعمال القوة المفرطة ضد المتظاهرين والمحتجين؛ حتى لقد سالت دماء غزيرة في هذا السبيل. لعين هذا الكرسي إذاً.. يقول العقل والمنطق، لذيذ شهي، يقول الحكام. اليوم وبفضل هذا الحراك الثوري بدأت هذه العقدة تتفكك حلقاتها شيئاً فشيئاً؛ إذ لم يعد التمسك بالمنصب أياً كان مظهراً شائعاً يصعب التخلي عنه. بالأمس القريب قدم رئيس وزراء تونس حمادي الجبالي استقالته على خلفية مقتل أحد قادة اليسار. يحدث الشيء نفسه في ليبيا لأكثر من مرة كان آخرها استقالة رئيس الأركان في الجيش الليبي يوسف منقوش على خلفية اشتباكات في العاصمة خلّفت عشرات القتلى والجرحى، وقبله قدم المقيريف أيضاً استقالته من المؤتمر الوطني غداة مطالبة البعض بالعزل السياسي؛ على أن الرجل كان من أشد المناوئين لحكم القذافي وإن كان قد شغل بعض المناصب العليا إبان حكمه. هذه الروح الجديدة التي بدأت تسري في أجهزة الحكم العربية، لم تكن لتحصل لولا ثورات الربيع العربي.. على أن هذه الاستقالات تحتاج أيضاً إلى حذر شديد، ولاسيما في هذه المرحلة؛ إذ قد تعمد بعض الأنظمة المطاحة بها إلى اللعب على هذا الوتر، فيحشدون الناس بطرقهم المعروفة والأكثر دناسة للمطالبة برحيل من جاءوا من رحم الثورات، وهنا تتجلّى شخصية القيادة الجديدة على نحو ما يحصل الآن في مصر الكنانة. أجزم أن الأمر هناك يخلو تماماً عن المقاصد الشريفة؛ إذ يعمد البعض إلى محاولة إنقاذ الفلول ومحاولة إعادتهم أو إعادة البعض منهم وراء ستار إنقاذ الثورة، وتماماً كما يفعل بعض اليساريين والعلويين في تركيا. إن الفرق واضح بين شعوب خرجت للإطاحة بأنظمة مستبدة ومغتصبة للحكم لعشرات السنين؛ وبين خروج البعض على أنظمة منتخبة ديمقراطياً في الحالة الأخيرة يبدو الأمر أقرب إلى العبثية والفوضى منه إلى المطالب المشروعة البريئة وطالما والصورة على هذا النحو فيعد المتظاهرون ليسوا أكثر من أدوات لتحقيق مآرب غير مشروعة يقف خلفها خصوم الديمقراطية والمتربصون بمصائر الشعوب، وعلى الأنظمة المنتخبة أن تفعّل القانون دون خوف أو وجل. رابط المقال على الفيس بوك