كانت مراهنات الشعوب العربية كبيرة على القوى السياسية ذات التوجه الديني لقيادة عملية التغيير التي أعقبت الإطاحة بعدد من الأنظمة في الوطن العربي بفعل الثورات الشعبية التي قادها الشباب وقدموا ضحايا من أجل نجاحها.. وكانت هذه المراهنات تنطلق من اعتقاد الشعوب أن معاناة هذه القوى وما تعرضت له من ملاحقات واعتقالات طيلة عقود مضت خاصة في مصر من قبل تلك الأنظمة المطاح بها قد اكسبها خبرة الحكم من خلال معارضتها السياسية الطويلة حيث كان الأمل أنها ستأتي بخطط اقتصادية وبرامج تنموية لحل مشاكل الشعوب ويكون أفقها أوسع بكثير ممن سبقها في الحكم لتقبل الآخر والتعامل معه.. لكن كانت المفاجأة كبيرة حينما وجدت الشعوب نفسها تعود إلى الوراء بسبب ما أتت به هذه الجماعات السياسية من خطط لإحلال نفسها محل الأنظمة السابقة والتركيز على مصالحها الخاصة وانتهاج نهجها واحتكارها لكل شيء فارضة توجهها على كل من يختلف معها فكراً وسياسة واذا لم يقبل به فإنه يصبح في نظرها عدو.. إضافة إلى أنها استخدمت من الشعارات الدينية للتستر خلفها ودغدغة عواطف العامة ما جعلها تخلق صراعات جانبية بهدف إشغال الشعوب بها مثل تغذية الخلاف المذهبي وتكفير الآخر وهدم القبور ونبشها وكأن الناس في نظرها قد تحولوا من عبادة الله إلى عبادة الأوثان معتبرة نفسها مجددة في الإسلام ليتوب الناس على أيديها. وما يجري في ليبيا وتونس وسورية وحتى في مصر واليمن إلا دليل على الأفق الضيق الذي يعكس ما تحمله هذه الجماعات من أفكار متحجرة عفا عليها الزمن لا تمت إلى تعاليم الإسلام الصحيحة بصلة فأساءت بهذه التصرفات إلى الدين الإسلامي الحنيف دين الحرية والعدالة والتسامح والمساواة قبل أن تسيء إلى الإنسان نفسه غير مستوعبة ومدركة للمتغيرات التي يشهدها عالم اليوم في القرن الواحد والعشرين وعدم التماشي معها ومواكبتها وهو الأمر الذي جعل القوى العلمانية المعارضة لنهجها تتحفز للسيطرة من جديد مستغلة تشدد وأخطاء القوى الحاكمة ذات التوجه الديني ونقص خبرتها الإدارية وجعل منها سلماً للصعود عليه وتحذير الشعوب منها وانها تريد العودة بها عشرات السنين إلى الخلف وهو ما جعل الشعوب تندم على التسرع في إيصال هذه القوى المتشددة إلى الحكم وتحن للعودة إلى عصر حكم الأحزاب القومية أو حتى العسكر رغم ما صاحبه من ديكتاتورية وتكميم للأفواه لأن الشعوب أساساً كانت تتطلع إلى بناء مجتمعات مترابطة تقودها دولة القانون والمواطنة المتساوية في ظل خيار واحد هو أن يتعلم الناس جميعا كيف يتعايشون مع بعضهم ويقبلون بمن يختلف معهم سياسة وفكرا ومذهبا وهو الوضع الذي كانت الشعوب العربية تطمح إلى تحقيقه بعد نجاح ثورات الربيع العربي.. لكن مع الأسف الشديد فالقوى السياسية التي اعتبرت نفسها حاملاً سياسياً لهذه الثورات قد حولت هذا الحلم الجميل إلى كارثة مستفيدة من الأغلبية العددية التي حصلت عليها في المجالس البرلمانية المنتخبة بفعل حماس الشعوب للتغيير والتصويت لها فاستغلت هذه القوى السياسية ذات التوجه الديني ثقة الشعوب بها لإنتاج حكم فردي جديد حصرته في نفسها واتباعها وأنصارها بهدف السيطرة والهيمنة التي كانت سبباً في قيام الثورات على الأنظمة السابقة وإسقاطها شعبيا وهو ما يذكرنا بقول حكيم اليمن القاضي عبدالرحمن الارياني رئيس المجلس الجمهوري الأسبق رحمه الله في مذكراته التي صدرت مؤخراً تعليقاً على تصرفات رجال ثورة 26 سبتمبر والدخلاء عليها: (بأننا قد تخلصنا من إمام واحد بالثورة عليه وأتينا بأربعين إماماً )..وكأن هذه القوى السياسية الحاكمة تدعو الشعوب من خلال ما تقوم به من أفعال تفتقر إلى الحكمة ولا تخدم مصالح الأوطان للثورة عليها من جديد لتصحيح مسار ثوراتها خاصة وأن الصبر على ما تقوم به من تصرفات قد بدأ ينفد لدى الشعوب وبعد أن وصل التذمر على أشده في أوساطها الذي كاد أن يصيبها بالإحباط. وهنا يطرح السؤال الكبير نفسه: لماذا لا تتنازل هذه القوى السياسية التي ساعدها الحظ ودعوة الوالدين للوصول إلى الحكم ووثقت فيها الشعوب ولكنها لم تكن أهلاً لهذه الثقة عن مصالحها الخاصة ولو مؤقتا وتعمل بإخلاص لخدمة مصالح الأوطان ، وبذلك تستطيع أن تثبت نفسها وتكسب ثقة الشعوب بها من خلال ما تقدمه لها من خدمات لقضاياها تشعرها أن هناك تغييراً قد حدث فعلاً على أرض الواقع.. لكن لأن هذه القوى فاقدة للشيء وغير واثقة من نجاحها بسبب نقص خبرتها في العمل الإداري وتخشى من إسقاطها شعبيا في الفترة القادمة فقد ركزت جل اهتمامها لخدمة مصالحها الخاصة وجعلت من الحكم بالنسبة لها مغنما لا مغرماً وهو ما يذكرنا بتلك الحركة التي قام بها رماة جبل أحد وتسببت في هزيمة المسلمين في ثاني معركة يخوضونها في صدر الإسلام بقيادة النبي محمد عليه الصلاة والسلام حيث ما كادوا يشهدون انتصار المسلمين ضد مشركي قريش في غزوة أحد حتى تخلصوا من أسلحتهم واندفعوا لجمع الغنائم مخالفين بذلك تعليمات النبي الكريم عليه الصلاة والسلام وهو الأمر الذي جعل المشركين ينقضون عليهم ويكسبون المعركة وتسببوا في كسر ثنية النبي محمد صلوات الله وسلامه عليه لأن تفكير هؤلاء كان في الغنائم وليس في انتصار الحق على الباطل وكذلك في يوم حنين إذ أعجبتهم كثرتهم فتعرضوا في بداية المعركة لهزيمة كبيرة كادوا أن يخسروها.. وهي دروس وعبر لو استفادت منها هذه الجماعات الحاكمة ذات التوجه الديني وابتعدت عن العنجهية والغرور وعن حصر توجهها وتفكيرها في جمع الغنائم لاستطاعت أن تقلب المعادلة وتحقق مالم تستطع الأنظمة المطاح بها أن تحققه خلال عقود طويلة من الزمن كانت فيها المسيطرة على الحكم والمتحكمة في مصائر الشعوب..! رابط المقال على الفيس بوك