تقاربت خطوات الفعل الثوري مع أهداف الثورة الشعبية في أكثر من محطة على مدى أيام وشهور المد الثوري، وحاصرت النظام في صحراء الضعف والارتباك والتشويش، والوقوع أسيراً لمشنقة القمع والقوة في ردات فعله مما جعله أكثر عزلة، فتتقلص يومياً مساحات الوقوف لأقدام فلوله ومليشياته وبلاطجته، ويغدو وجوده متمحوراً بالصوت المهدد بالفزاعات المدفونة في جرابه وبالقبض بالأيدي على مقبض السلاح وتثبيت الأيدي المرتعشة بالمال وفتح آلة القتل بما يسيطر عليه أركان النظام من سلطة ووظيفة دولة جيرها للدفاع عن بقائه ومعها تكبر الأماني وترتسم التطلعات المتفائلة في أركان مساحات الثورة المترامية في ثرى الأرض اليمنية وتبدأ الحسابات ونبش فواتير السقوط ومحاكمة أركانه وتنطلق الأفكار والقراءات إلى شاشة ما بعد الثورة. عند هذا الحد تنبري من تحت الأرض ومن خلف الثورة قوى سياسية (محسوبة على الثورة) متدثرة رداء الساحات ومتحدثة بلسان الهدف الثوري تكبح جماح الزخم والتوهج داخل الساحات وتمد بقصد أو بغير قصد النظام المترنح بأثمن الفرص للخروج من حصاره وتمويله بالوقت والأكسجين الذي بدوره يقوم بالتقاطها بأسرع وقت وبأكثر سعادة وانشراح لتدخل الثورة فترة الكمون وتنتعش من جديد روح النظام القمعية وحساباته الوحشية وترصداته القاتلة خلف مظلة الحوار و من ثم يقوم بإسقاط الخصوم (أطراف الحوار) بسرابية الخداع والمكر والمراوغة والتسويف لتعود بعد أيام وأسابيع (استقطعت من زمن الجسد الثوري) الساحة إلى دوامات الدماء والقتل والمجازر واختلاق نتوءات وأورام جديدة يفجرها النظام حول فضاءات الساحات يشتت بها الفعل الثوري الذي يتراجع للدفاع والإمساك بحبال الضوء المسلطة عليه إعلامياً محلياً ودولياً بعد أن عمدت أجهزة الحاكم ومكينة الدعاية السوداء له إلى سحب تلك الحبال واحدة تلو الأخرى من شباب الثورة وتوجيه ضوئها على ما خلقه من واقع وأحداث جديدة .. وبين هذا الكر والفر الحادث وصنيعة من يبحث عن مصالح ومصالحة وعن تحقيق غايات ذاتية سلطوية تحاذيها غايات عليا (في كياسة حسن النية).. تقف الثورة اليمنية ثابتة صامدة ولكن إلى متى؟!..
ما وراء الأكمة السؤال هنا والذي حير المراقبين والمتابعين للحالة اليمنية هو: لماذا تضع تلك القوى السياسية المحسوبة على المعارضة نفسها بهذا الوضع؟ ومن ثم ما هي الأسباب التي تدعو تكتل اللقاء المشترك للانتفاض فجأة في أوقات يترنح بها النظام ويعيش أسوأ لحظات السقوط السياسي والأخلاقي؟ وما هي الدوافع التي تقف خلف كل هذه الوقفات غير الموفقة لتلك القوى السياسية مع النظام ؟، للإجابة على تلك الأسئلة يتوجب علينا قراءة الوجود السياسي لتلك القوى السياسية من خلال علاقتها بالسلطة والحكم وعلاقاتها البينية ونظرتها للأمور المستقبلية، فالمتابع للشأن اليمني ومنذ إعلان الوحدة اليمنية وتوأمها النظام الديمقراطي يعي تماماً بأن العملية الديمقراطية ومرادفاتها التعددية السياسية والتبادل السلمي للسلطة وحق تكوين الأحزاب والرأي والرأي الآخر أوجد تكويناً مختلفاً للنظام اليمني (شكلياً) بانتقال الشطرين من نظامين شموليين وحكمين منفصلين إلى نظام واحد موحد وديمقراطي وهو ما كان يجب أن يستمر وتتواصل فيه الخبرات والتراكمات للعمل الديمقراطي للوصول بالتجربة الديمقراطية اليمنية الناشئة إلى مرحلة أوسع من النضج والفتوة، إلا أن ذلك لم يحدث بل على العكس تماماً واتضح بأن للأحزاب ( الحاكمة) دوراً هاماً في هذا الفشل فمن هي الأحزاب الحاكمة في اليمن خلال 21 عاماً من التجربة الديمقراطية ؟ بالنظر إلى خريطة السلطة خلال تلك الأعوام سنجد بأن حزب المؤتمر الشعبي العام ( الحزب الحاكم) والحزب الاشتراكي ( الحزب المطرود من الحكم ) ظلا ينعما بحكم اليمن حتى حرب صيف 94م والتي فضت الشراكة للشعبي العام، وكان للتجمع اليمني للإصلاح دور الشراكة الفعلية بطرد الشريك الاشتراكي وبالتقاسم السلطوي بصورة أو بأخرى مع المؤتمر ليدخل معترك الحكم بعد 94م وإن كان من قبل الوحدة لا وجود له كمسمى حزبي إلا انه كان شريكاً فعالاً في السلطة وقوة يحسب لها حساب في أروقة "المؤتمر" كتجمع سياسي حاكم في الشطر الشمالي قبل الوحدة سواء بركنه القبلي الممثل بالشيخ عبدالله بن حسين الأحمر أو بركنه الديني الممثل بجماعة الإخوان المسلمين وكلا الركنين كانا وما زالا من أهم أعمدة حكم صالح حتى بعد الوحدة ، إضافة إلى التواجد الأسبق والأقدم في السلطة للتنظيم الوحدوي الشعبي الناصري في الشطر الشمالي خلال أوائل السبعينات، هذه القوى السياسية الأبرز في تكتل اللقاء المشترك خرجت بالأصل من رحم الحاكم والبيت السلطوي وليس ببعيد منها وإن كان بدرجة أقل لحزبي الحق واتحاد القوى الشعبية كأفراد وقيادات دخلت بعضها معترك الحاكم وكانت من القوى الأساسية في السلطة الحاكمة.. إذاً علاقة المشترك بالحاكم أو بالحكم علاقة تاريخية ورئيسية في أجندة الوجود السياسي على الساحة اليمنية ومن ذلك يتضح الشغف والحنين والاندفاع والإصرار للبقاء في حدود وحمى السلطة والنرجسية في الظهور كند أوحد في المنظومة السياسية للحزب الحاكم ، ويتضح كذلك طبيعة العلاقة البينية في مكونات المشترك، هذا التاريخ السلطوي يلعب دوراً مؤثراً لتلك القوى السياسية، وخصوصاً القيادات لتنصيب نفسها كبديل محتمل ووحيد لخلافة الحاكم أو لتقاسمه السلطة بدرجة أقل لذراع الحاكم مراهنة على خبرتها وتجاربها السلطوية إضافة إلى القاعدة التي تمتلكها، وهو ما يجعلها تندفع عند كل محطة أو لحظة ضعف للنظام لتظهر على الشاشة كقوى سياسية صنفت نفسها كقوة بديلة سياسياً وتتدثر ثياب الديمقراطية وتلج بوابة الحوار مع النظام وأركانه دون تردد حتى تقع الفأس بالرأس وتخرج مخذولة مقتنعة بغنيمة ( خفي حنين) ولا أكثر بينما النظام وحزبه الحاكم وعبر قناعاته وقراءاته لحقيقة اندفاع المشرك لإبراز عضلاته أمامه إنما يأتي معبراً عن الرغبة الدفينة بالبقاء في دائرة الضوء لخلافته في الحكم ومن هذا المدخل حقق النظام كافة أهدافه معها ويترك لها أضواء الصراخ والحوار والوجود الإعلامي أمام الشعب وبقية القوى السياسية البعيدة عن مظلتي ( الحزب الحاكم- المشترك).
ولذلك لا غرابة أن تتعدد محطات الظهور الضوئي للمشترك وتتعدد معها حسابات الفشل الذريع نحو تحقيق المبتغى الدفين وإن كانت حسابات النجاح تتراكم برصيد البعبع والشريك والند الأوحد للحاكم، وهو ما اقتنع به المشترك متحيناً فرصة الانقضاض على السلطة بطريقة غير مباشرة بعد أن أبرز نفسه في الساحة كبديل سياسي ، وهذا ما يراه مراقبون ومحللون عديدون السر الخفي الذي يقف خلف استمرار المشترك لتحين الفرص وللتعاطي السياسي مع الحاكم دون أن يخسر ذاتياً أو قاعدياً ، بينما يرى آخرون أن لغة الحكم والسلطة هي المتحدث الوحيد بين النظام وتلك القوى ، وإن كانت التحليلات السابقة تظل بين قوسين رهينة التكهنات مع عدم إخفاء بعد حسن النية والحق الكامل لتلك القوى بالطموح السلطوي كحق شرعي في ظل مبادئ وقيم العمل الديمقراطي ..
المبادرات الخليجية الخمس ودعوة التهدئة إن ظهور المشرك كقوى سياسية لها امتداد داخل ساحات الثورة جاء متأخراً عن انتفاضة الثوار والانتقال بعملهم الثوري السلمي إلى ساحات التغيير والحرية وجاء تداول تكتل أحزاب المشترك لهذا المنعطف الشعبي الثوري متأخراً فلم تبادر فوراً بالانخراط فيه أو مباركته بقدر ما كانت بعض القوى السياسية المعارضة العريقة قد بادرت بالانخراط في الثورة الشعبية والتناغم مع أهدافها ومباركتها والسير على خطاها كحزب رابطة أبناء اليمن (رأي) وظل وفياً لأهداف الثورة الشعبية حتى اليوم، ولم يفت في عضد المشرك فقدانه للمبادرة والتوحد في صف الثورة في حين كان وقتها يكابد عبثية الحوار مع النظام والحزب الحاكم وعندما نال منها ما نال من فشل تدارك بحسه السياسي أهمية ساحات التغيير كعامل سياسي ضاغط وقوي فاندفع صوب الساحات بقضه وقضيضه ليس بقصد الانخراط فقط والتناغم مع مبدأ الثورة بقدر ما كان يهدف إلى قيادة الشباب والساحات للتناغم مع أهدافه، و هو ما شرع به من إضفاء سيطرته وخصوصاً الأخ الأكبر في تكتل المشترك على منصات الساحات واللجان الإعلامية والأمنية والتنظيمية وسوق لذلك كثيراً بل وصل حد الصدام مع بعض قواعد شركائه داخل تكتله واستغل حقائق تفوقه على الساحة الإعلامية كقوة تقترب من مضاهاة الإعلام السلطوي على الساحة وجيش إمكاناته وأخذ يضع نفسه وإعلامه كمتحدث وحيد عن الثورة ونقل وجهة نظره عبر وسيط آخر ساهم النظام في إقصائه (قناة الجزيرة) ليطل من نافذة سهيل وكوادر إعلام حزب الإصلاح كإطلالة غير موفقة ساهمت في شرعية المبادرة وشرعنة الشريك السياسي وتسطيح مشهد الثورة كأزمة سياسية وهو ما فطنت له قناة الجزيرة مؤخراً بعد التنازلات المتتالية وغير المعقولة للمشترك عبر محطات المبادرات الخليجية الخمس، وإن كانت لا تخرج عن الطموح السلطوي إضافة إلى الرفض المطلق لشباب الثورة وقواعد المشترك للمبادرات والحوار مع النظام إذا لم ندعُ مباشرة إلى رحيل النظام، حتى أسقطت حادثة جامع النهدين كافة استحقاقات تلك المبادرة وأوجدت واقعاً آخر يصب في مصلحة الثورة وساحات التغيير تمثل بالفراغ الدستوري الكامل لأركان النظام والدولة وخروج الرئيس إلى السعودية للعلاج ، هذه الحادثة جاءت بمثابة العامل غير المتوقع والذي غير كل الإحداثيات السياسية للمشترك، وإن كان بعد أيام من الحادثة قد أطل من خلف الشعار بوجه جديد قديم وحوار غير معلن ليفاجئ الجميع بطلبه من الثوار عدم التصعيد والصبر لأيام، الأمر الذي يرفضه شباب الثورة بل أكدت لهم هذه التطورات بأن المشرك لا يبالي بما تطرحه الثورة من مجلس انتقالي والانتقال إلى المرحلة الثانية للثورة وجاء الطلب بعدم التصعيد بأن للمشترك أهدافاً وغايات تقف خلف الأكمة و ما وراء الأكمة..
إن كل من راهن على الموقف السياسي والحوار مع النظام راجع اليوم رهاناته الخاسرة بعد أن شاهد ضعف القدرات لدى من وظف قوته السياسية لهذا المنطق .. وإن كانت محطات المشترك بالحوار مع النظام قبل وبعد الثورة قد رسمت قناعات لدى المتابع للشأن اليمني بأن الحل في يد الثورة وشبابها بساحات التغيير وأنه لا ثقة البتة في مصداقية هذا النظام، وأنه آن الأوان لتلك القوى السياسية التقليدية التنحي قبل النظام من الساحة والتناغم مع أهداف الثورة الشعبية ودعمها كحل وحيد للحفاظ على وجودها السياسي.