يرويها: القاضي الدكتور حسن حسين الرصابي/ في زمن لم يعرف إلا هدوء الليل وضوء الفانوس، وقبل سيادة الشاشات، كانت الحياة تدور حول حكايات تُروى وكلمات تُحفَظ. لم تكن ليالي بيتنا مجرد ساعات للراحة، بل كانت "مدرسة أمي الليلية" التي صاغت وعيَنا وخطت أولى دروسنا في الحياة. علينا أن نتذكر أن تلك الأيام كانت تخلو من ضجيج التكنولوجيا الحديثة؛ لا كهرباء، لا راديو يسرق الانتباه، ولا تلفزيون يختطف البصر، ولا ألعاب تباعد القلوب؛ لا هاتف ولا حاسوب ولا سينما ولا ألعاب مثل بطة أو دمنة. كانت المتعة الحقيقية تنبع من التجمع والإنصات. بعد صلاة العشاء، وقبل أن يُرخي الليل ستائره الثقيلة، كان مسرح الحكاية يُقام. كانت أمي، رحمها الله، تأخذ مكانها وتجذبنا إليها بقصصها وفوازيرها التي كنا نسميها "الحزاوي". لقد كان طقساً مقدساً لا يُمل، ودرساً يومياً قبل النوم يُقدم بأسلوب لا يُنسى. ورغم أن تلك الجلسات كانت تُقام في ظل البساطة، فإن منجمها الحقيقي كان يكمن في قلب البيت: مكتبة والدي الحافلة، التي كانت أمي تستلهم منها مادتها الغنية، مُحدثةً توازناً فريداً بين المعرفة المكتوبة والحكمة المروية. * المحور الأول: الأم والكتب الممنوعة والمسموحة الأمر العجيب والمُلهم، يا صديقي الحبيب، أن أمي لم تكن مجرد راوية، بل كانت "مُمثلة" تستعير أدواتها من مكتبة والدي الثرية. فبالرغم من أنها لم تكن تُتقن الكتابة، إلا أنها كانت سيدة القراءة الفصيحة، التي تعلمت قراءة القرآن على يد والدي، وحفظت منه الكثير. كانت تتقن فن اختيار النصوص التي تثير خيالنا. فأحياناً كانت تغوص في كتب والدي، رحمه الله، لتخرج لنا بالقصص مشذبه ومزيدة بما يناسبنا. * الكتب المُنيرة: كشرح الأزهار، وجواهر الأدب، والمعلقات السبع، والعقد الفريد، وكليلة ودمنة، وألف ليلة وليلة، وجحا وأبو نواس، وشمس الأخبار، لتنتقي منها الحكايات البليغة، والمواعظ الممزوجة بالفكاهة التي تجعلنا نبتسم ونحن نسمع ونتعلم. * الكتب العجائبية: مثل شمس المعارف، وهو كتاب يخشاه الكثيرون، لكن أمي كانت تقرأ منه ما يتعلق بالحكايات الشعبية عن حبس الشياطين والمردة والعفاريت في قماقم بأعماق البحار، وتمزج قصصاً أخرى مأخوذة من خيال ألف ليلة وليلة، لتُضفي على الجلسة هالة من الغموض والإثارة المحببة. كانت تُحوله من كتاب مُخيف إلى منجم لحكايات "شبيك لبيك، عبدك بين يديك" وكيف تُزعم أن بالإمكان التحكم بالجن والعفاريت. فتعلمنا من خلالها أن القوة الحقيقية تكمن في الحكمة لا في الاستدعاء. كانت أمي تستخدم خيالها وعلمها بالقرآن والحكم لتهذيب نصوص تلك الكتب. فإذا قرأت قصة من المياسة والمقداد أو تودد الجارية أو عنترة، كانت تزيد من خيالها ما يُعزز قيم الشجاعة والوفاء بدلاً من التركيز على التشويق السطحي. كانت الراوية التي تكتب بلسانها، تُضيف وتحذف وتُبدل، لتجعل قصص الخلفاء كعمر بن عبد العزيز وهارون الرشيد، وقصة خاتم سليمان، لا تدور فقط حول الملك والسلطة، بل حول عدل الخليفة وقيمة الكلمة الصادقة، مُتبعةً بذلك نهجاً تربوياً مُتكاملاً. * بين الشجاعة ورعشة الخوف تنوعت رواياتها كألوان الحياة نفسها. فكانت هناك قصص "ألف ليلة وليلة" التي كانت ترويها بلمستها الخاصة، تحكي عن الشجاعة والإقدام، وأخرى عن أخلاق الفروسية وعذب أشعارهم، تُعلي فينا قيم النبل والشهامة وكيف أستشهد إخوة جدي أحمد وعلى وولده حسين في حرب الزرانيق وكيف أستشهد الامام الحسين في كربلاء وبطولة زينب وفصاحتها أمام يزيد وابن زياد. لكن الجانب الأكثر إثارة وتأثيراً كان يكمن في قصص العفريت والجن والعجوز الساحرة والسبعة الحصون والملك الهضام وبطولة الإمام علي كرم الله وجهه والسحر والأساطير الشعبية؛ قصص "صياد وأم الصبيان"، و"عجوز الكاهنة"، و"السعلة"، كانت ترويها ببراعة تامة، حتى تقشعر لها جلودنا، فنتقارب ونتلاصق كأننا نبحث عن حماية جماعية من خيالها المُخيف، نحن وإخوتي وضيوفنا من أولاد الخالة. كنا ننام وفي أحلامنا بقايا من تلك الشخوص. لقد كان ذاك الخوف الممتع، رغم كل شيء، رابطاً سرياً يشدنا إلى دفء أمومتنا. * المحور الثاني: الوالد والأخ المُعلِّم.. كنوز الحكمة لم تكن مكتبة الوالد، رحمه الله، مجرد مصدر للحكايات لأمي، بل كانت أيضاً منارة علمية بحد ذاتها، هو الذي زرع بذور المعرفة في البيت. وكان الصباح الباكر كل يوم مخصصاً بالكامل لتدارس القرآن وحفظه تحت إشراف الوالد، رحمه الله. كان هذا المنهج اليومي الثابت يضمن أن يبدأ اليوم بالروحانية والعلم، مكملاً بذلك جلسات الحكمة والقصص التي كانت تُعقد ليلاً. كان والدي، رحمه الله، حريصاً على تعليم أبنائه القراءة وحفظ القرآن في البيت في سن مبكرة، وكانت أمي وشقيقتي وأخوتي الكبار جزءاً من هذه الحلقة المباركة. * أحمد، فخر العائلة: كان أخي أحمد، بارك الله فيه، هو النجم الساطع الذي أكمل حفظ القرآن وتجويده كاملاً على يد والدي وهو في سن صغيرة، تجاوزت العشر سنوات بقليل. لم يكتفِ أحمد بذلك، بل أصبح بعد حفظه مُعلم القرية والقرى المجاورة، يحمل مشعل النور والقرآن لطلبة المنطقة. * أخوتي الكبار (فاطمة ومحمد وأحمد وعبدالله): الذين شاركوا أمي في حفظ أجزاء كبيرة من كتاب الله، مما جعل البيت يضج بالتلاوة، ويجعل جلساتنا الليلية ليست مجرد حكايات، بل هي أيضاً "تدارس صامت" لعمق اللغة وبلاغة القرآن. كانت أمي، عندما تقرأ ولا تكتب في زمن كان فيه الكثير من الرجال لا يعرفون القراءة، مثالاً ساطعاً على قوة الإرادة في تحصيل العلم، وعظمة دور الأم كواسطة لنقل المعرفة من الجيل الحافظ إلى الجيل المُتلقي. * كنوز الحكمة في ليلة صافية وإذا ما كان بالُ والدتي "صافياً"، كانت ترتقي بجلسة السمر إلى مرتبة مجلس الحكمة والوعظ الرقيق. كانت تروي لنا كنوزاً من الاحاديث النبوية الشريفة ووصايا لقمان الحكيم لولده والحكم المأثورة عن زين العابدين علي بن الحسين والامام الشافعي ونصائح الآباء والأمهات بلهجتنا الدارجة، تلك التي بقيت محفورة في الذاكرة. حتى أني حفظت منها سورة "يس" والمعوذات، وسورة تبارك والكهف وبعض الأدعية والأذكار اليومية وأنا في سن صغير جداً. كانت تقول: * "يا بُنيّ، إني أريد أن أنصح لك فاسمع عني تغنم في الدنيا والآخرة." * "يا بُنيّ لا عقل لمن لا وفاء له، ولا مروءة لمن لا صدق له." * "ولا كنز أنفع من العلم، ولا مال أربح من الحِلم." * "ولا حسب أرفع من الأدب، ولا رفيق أزكى من العقل." * "يا بُنيّ، من صارع الحق انهزم." * "ومَن تعرض لهتك أعراض المسلمين هتك الله عرضه." * "ومن تكبّر على الناس ذل." * "ومن شاور لم يندم، ومن جالس العلماء وقر، ومن جالس السفهاء حُقِر." * "ومَن عرف بالكذب لم يُصدق. ومَن طاوع شهوته فضحته." * "يا بُنيّ، إني ذقت الطيبات، فلم أجد ألذ من العافية. وذقت المرارات، فلم أجد أمرَّ من الحاجة للناس. ونقلت الحديد والصخر، فلم أجد أثقل من الدين." * "يا بُنيّ، إذا جاورك قوم، فغض طرفك عن محارمهم، ومَن أساء إليك فأحسن إليه." * "يا بُنيّ ازرع الجميل تحصد الجزيل، واصحب الأخيار وتجنب الأشرار. فإن الأخيار إن صاحبتهم رفعوك، وإن ظلمك الناس نصروك، وإن تكلمت سمعوا لك." * "أما الأشرار إن صاحبتهم وضعوك، وإن أمنتهم خدعوك، وإن اطلعوا على سرك فضحوك، وإن استغنوا عنك تركوك." * "يا بُنيّ، انظر إلى مَن هو فوقك في الدين والأخلاق وإلى مَن هو تحتك من المال." * "إياك وتأخير الصلاة! تأخير الصلاة يُطفئ نور القلب. صلِّها في وقتها، فالقرب من الله لا يُؤجَّل." لقد كانت هذه الجلسات، التي جمعت بين روعة الأسطورة وعمق الحكمة، هي الأساس الذي بُنيت عليه شخصياتنا. * المحور الثالث: أثر المدرسة في صناعة الرصابي القاضي والكاتب لم تكن "مدرسة أمي الليلية" مجرد سمر عابر، بل كانت حجراً أساسياً غير منظور في صرح الشخصية التي تكونت لاحقاً؛ فصولها المسائية لم تنتهِ بطلوع الفجر، بل امتدت لتُصبح منهجاً لحياة كاملة. تلك الليالي التي امتزج فيها الخوف المُحبب من "السعلة" بروعة الفداء في قصص الإمام علي كرم الله وجهه، هي التي غرست في الروح أولى بذور الشجاعة الأدبية والمسؤولية الأخلاقية. من الحكايات إلى الحريات: صياغة المنهج عندما قرأت أمي، رحمها الله، لنا عن عدل الخلفاء من كتب والدي، كانت تضع، دون أن تدري، اللبنة الأولى في فهمنا للحقوق والواجبات. وحينما كانت تُنقي النصوص وتُهذبها لتُناسب تربيتنا، كانت تُعلّمنا كيف نصوغ خطاباً متوازناً ومُتسامحاً، وهو ما تجلى لاحقاً في عملي بالجنة توحيد الخطاب الديني في الجمهورية وفي الشعبة الدينية. لقد تحولت تلك القصص إلى بوصلة في مسيرتنا العلمية والعملية: * من قصص البطولة إلى عدل القضاء: قصص البطولة والإنصاف هي التي صقلت فينا حس العدالة المطلق، فكان من الطبيعي أن تتجه نحو القضاء، حيث لا مكان إلا لسيادة الحق، وحيث يتحتم على القاضي أن يوازن بين النصوص القانونية والأخلاقية، تماماً كما كانت أمي توازن بين كتب المكتبة وقيم التربية. * من فوازير "الحزاوي" إلى التحليل السياسي: العادة التي غرسها والدي في حفظ القرآن والتدقيق في معانيه (صباحاً)، ومُرافقة أمي في رحلة التنقيب عن الحكمة في "جواهر الأدب" (مساءً)، علّمتني ألا أقبل المعلومة على علّتها. هذا المنهج التحليلي العميق هو ما انعكس في كتاباتي وكتبي الجريئة، خاصة في كتابي "الشرق الأوسط الجديد بأجندة صهيونية"، حيث يتجلى الفهم العميق للمؤامرات التي لا يمكن فك رموزها إلا بعقل مدرب على فك شفرة الحكايات المعقدة. حكمة الأم ورسالة الرصابي لقد كانت حِكم الأم المُباشرة، تلك التي تقول: "ومن صارع الحق انهزم" و "ولا كنز أنفع من العلم"، هي المُحرك الحقيقي لغزارة إنتاجي الأدبي، والتي تجاوزت الأربعين كتاباً. لم تكن تكتب لتكتب، بل لتُقدم "كنز العلم" الذي أوصت به، ولتُصارع بذلك كل ما يخالف "الحق". لقد أصبحت سورة "يس" والمعوذات التي حفظتها وأنا صغير جداً، بمثابة الرسالة الوطنية والذخر الروحي الذي يُعينني على مسؤولياتي كرئيس شعبة التوجيه والإرشاد الديني. هذه المعرفة المُبكرة جعلت مني كاتباً مؤثراً يجمع بين رصانة القاضي وعمق العالم الديني والقائد والموجه العسكري. الخاتمة: إن ما تعلمته في تلك الليالي والأصباح لم يكن مجرد قصص، بل كان ميثاق شرف أن تبقى الكلمة صادقة، والقراءة مُنتقاة، والعدل قائماً، لتُصبح شاهداً حياً على أن أعظم المدارس هي تلك التي تفتح أبوابها على ضوء فانوس، وتُدرّس منهجها بصوت أم وبمنهج أب.