في الليالي "الدامسات والمقمرات"، تصبح الحكاية وسيلة الأم لإضاءة عالم طفلها الداخلي.. الكتابة كوسيلة للتطهّر النفسي، توازي بكاء الطفل القديم، لكنها بالحبر لا بالدموع.. بين علاقة الطفل بالذنب والرغبة ورقابة الضمير التي حملت إلى النضج..
أمِّي تشكِّلُ وجدانَنَا الأول أحمد سيف حاشد كانت أُمّي تَحكي لنا أنا واخوتي الحكايات الآسرة.. كُنّا وهي تحكي نتابع سردَها كلمة كلمة، منقادين بعد حديثها كمسحورين.. مشدودين إليها بدون وثاق.. وفي كل حبْكةٍ ومُنعطَفٍ في الحكايةِ نتطلَّع شغفَاً لمعرفة المزيد، حتى تصل في سَرْد الحكاية إلى محطتِها الأخيرة، ونهايتها المرجوة. كان تعلُّقنا لا يَنْفَكُّ عن حديثها قبل أنْ تضعَ الحكايةُ نهايتَها السعيدة، والّتي ينتصر فيها الحقُّ على الباطل، والعدلُ على الظُّلم.. نتابع إيقاعها ونحبسُ أنفاسنا حتى نبلغ الذروة. نندمج معها ونعيش أحداثها، ونتابع اشتداد الصِّراع فيها بين الخير والشرّ المُحتدم. نؤْثِر الخير ومعه نحشُد عواطفنا الجيَّاشة طوال سردها حتى تنتهي بانتصاره المفرح والبهيج، بعد كرّ وفرّ ومغالبة.. إنها حكايات تستحق منّا تلك المتابعة والتذوق والاندماج. كان وجداننا مُرهفاً، وعقولنا طريَّة، ومُستقبلاتُ وعينا حساسةً ولاقطة.. كانت تلك الحكايات تجعل الخير زاهياً وأخَّاذاً، فتنميه في وجداننا، وتدعونا للانحياز له، وتحثنا على فعله، ومن جانب آخر تنمّي كراهيتنا ضدّ الظُلم والباطل والشرور، وتحثُّنا على مقاومتهم والاستبسال في مواجهتهم دون يأس أو استسلام. كانت تُهَذَّب أخلاقنا وترعاها يوماً بعد يوم.. تنمّي عواطفنا وسويتنا.. تُوأنسننا وتنمِّي مشاعرنا الجميلة وأحاسيسنا المُرهفَة. أنا بعض منك يا أمي، ما زلتُ إلى اليوم كما كُنتِ ترجين وتتمنين.. أقارعُ الظَّلم والشُّرور، وأنتصر للخير، والناس الطيبين والمتعبين المكدودين، أو هذا ما أظنُّ أنَّني أفعله يا أُمّاه. ما تحكيه لنا أمّي كان سويّاً إلى حدٍّ بعيد.. جاذباً لنا، ومؤثراً في وجداننا، ووقْعُه بالغٌ في نفوسنا.. كانت تنبشُ حكاياتِها من التُّراث المُتداوَل والوعي الشعبي المنقول والمتناقَل شِفاههاً. من الحكايات الَّتي روتْها لنا قبلَ أكثر من خمسين عاماً في مساءاتنا وليالينا الدَّامسات والمقمرات: الحُميد بن منصور، وعبد الرحيم، وحمامة المراميد ،والعجوز الكاهنة، و"الجرجوف"، والذَّئبة، وأبو نواس، والسبعة الإخوان. كما أني ما زلتُ أتذكر بعض تلك الأبيات الشعرية التي كانت تحفظها وترددها على مسامعنا، وتجدُ في نفوسنا عند شرحها وقعاً مؤثراً وتعاطفاً جارفاً مع الفقراء ومن تلك الأبيات: "يمشي الفقير وكل شيء ضده والناس تغلق دونه أبوابها حتى الكلاب إذا رأته مقبلاً نبحت عليه وكشرت أنيابها وإذا رأت يوماً غنياً ماشياً حنت إليه وحركت أذنابها" وفي الحكايات كنّا نُنصت ونتسمَّر أمامها وهي تحكي، وكأنها بوذا ونحن تلاميذه.. كنتُ غالباً أعيش المشهد الّذي تحكيه كما هو.. أتقمَّصُ في نفسي وأنا أستمع شخصية أحد أبطال الحكاية الخيرين.. أعيش الدور حتى يبلغ ذروته.. أنحاز إليه وأتقمصه وأتماهى في شخصيته.. أتفاعل مع انفعالاته وإيقاعاته.. أتابعُها كما يُتابع الجدول مجراه.. أتُوقُ للنِّهايةِ لترتاح نفسي، وأبتهج، وأنام بعدها بهدوء وسكينة. كانت تسيلُ الدُّموعُ من عيوني، وتَنساب بصمتٍ على خُدودي، ويَعلق بعضها في شفتي، أشعر بسخونتها وأطعم ملوحتها، أعرف دموعي كما أعرف نفسي، وكان لليل فضيلته؛ لأنه يسترها ويواريها عن أمي وأخوتي، كما كان لأسلوب أمّي السردي الجاذب فضله الآخر، حيث كان يشدُّ انتباه إخوتي بحيث تمنع تطفلهم على عيوني ودموعي، وانفعالاتي المكبوحة. تفاجأتُ بعدها في شبابي أنّ بعض تلك الحكاياتِ مدوَّنةٌ في كتاب "حكايات وأساطير يمانيَّة" للكاتب "علي محمد عبده"، وعند المقارنة وجدت في حكاية أمي بعض الزِّيادة والإضافات، لربّما جاءت بها من خيالها، أو أضافها خيال من تلقَّت عنه قبلها.. فيما تلك الأبيات الشعرية التي كانت ترددها على مسامعنا وتشرحها بعاطفة جياشة، تنسبها للفقير عبدالرحيم.. الحقيقة لا أدري من هو عبدالرحيم، أكثر من كونه رجلاً فقيراً وشاعراً، وهو ما عرفته منها، وعندما كبرتُ وقرأتُ وجدت تلك الأبيات منسوبة للإمام الشافعي. * * * أستطيع أن أتخيّل أمّي في السنة الأولى من عمري، وهي تحاول تعليمي أبجديات الكلام.. مازلتُ أتخيّلها وهي "تناغيني" باتسامة عريضة و ودودة .. أتخيّلها وهي تحاول أن تطلق لساني بتلقيني كلمات تكررها، وتخامرها بإبتسامة تشجعني بها، وتعلمني أبجديات النطق والكلام.. "الله الله.. أماه أماه.. أباه أباه.." أستطيع أن أتخيّل أيضاً استصعابي للنطق والكلام رغم محاولتها الكديدة، ربما لوجود خلل أو عقدة ما في لساني.. أشعر أن بيني وبين الفصاحة عقدة أو إعاقة، لا أدري إن كان خلل أو إعاقة وجدت مع وجودي، أم هي عقدة قد أصابتني في مرحلة ما من طفولتي المتعبة!! ما أنا متأكد منه هو أنها بعد وجودها أو إصابتي بها ظلّت تلازمني إلى اليوم. عندما صرت طفلاً كانت أمي تحدِّثنا عن الله، وعن محمد، وعلي، والملائكة، وكل ما تلقته من أبيها الزاهد والولوع بقراءة القرآن.. كان يحدّثها عن قَصص القرآن وبعض تعاليمه وتفسيراته.. كانت تستهويني قصةَ مريم وابنها عيسى، ومعجزات هذا النّبي الّذي علِقتْ بعض من سيرتِهِ المؤثِّرة في ذهني إلى اليوم. وعندما كبرتُ تفهَّمتُ لماذا قال المسيحُ – وهو يعاني سكرات الموت عند صلبه – "ربِّي لماذا تركتني؟!".. وتأثرت بتلك العبارة الخالدة له "من ليس له خطيئة فلْيرمِها بحَجَر".. تعاطفت مع من فقد أباه. أرأفُ باللُّقطَاء الّذين لا ذنبَ لهم.. أنحازُ للضَّحايا أيّاً كانوا.. أتفهمُ الأخطاء وما تجنيه الحياة على الإنسان. فهمتُ معنى أنْ يعيشَ ويموت الإنسان مظلوماً، أو مقاوماً للظُّلم والسُّلطة المستبدة.. عرفتُ ما وصل إليه المسيحُ من مجدٍ وخلودٍ بعد موته أو بعد "العروج".. أعجبتني مقولة نيتشه: "هناك أناس يولدون بعد موتهم".. وجدنا بعض الكبار يدركون المجد بعد موتهم، أو يولدون من جديد عظماء بعد رحيلهم، وهم من يستحقون التقدير أكثر من الذين يدركون المجد في حياتهم.. وحزنتُ أكثر عندما قرأت أنه تمّ استغلال اسم "المسيح" واستثمار دمه من قبل بعض الممالك، والإمبراطوريات المستبدّة، والأوغاد الّذين حكموها، وكيف تمّ قهر الشعوب واحتلالها، واستغلالها تحت مسماه، وكيف صارت المسيحيّة جحيماً ومحارِقَ يُلقى فيها أحرارُ الفكر والعلماء، والمتنورون!! * * * كانت أمّي أيضاً تُحدثنا أنّ الله يرانا أينما كنّا، وأنّ لكلٍّ منَّا مَلكين، أحدُهما في يمينك يكتب الحسنات والآخر في يسارك يكتب السيئات.. كنت أكثر ما أذكر هذا بخلوتي في "الحمّام" عند قضاء الحاجة، أو ممارسة العادة السرية، والتي كانت أمي تحذرني منها، وتقول لي إن يدي ستأتي حاملة ومتورمة بحملها يوم القيامة.. وظل هذا الأمر عالقاً في ذهني، شديد الحضور حتى بعد البلوغ. ورغم تحذيرات أمي لم أكثرت، حيث أوغلت فيها واعتدتها وربما أدمنتها طويلاً.. كلما قررت بعد ارتكابها أنني سأقلع عنها للأبد، وجدت نفسي أعود إليها بعد حين غير بعيد باشتياق واشتهاء أكبر وأكثر من سابقه. "والشيء بالشيء يُذكر" فقد تذكّرت هذا وأنا أقرأ رواية الخلود ل"ميلان كونديرا" وفيها أنّ الأم المؤمنة كانت تحث ابنتها على قلع بعض العادات الّتي التصقت بها حيث كانت الأم تقول لابنتها: "الرّب يراك" آملةً بذلك أن تنتزع منها عادة الكذب، وعادة قضم الأظافر، وإدخال أصابعها في خياشيمها، فيما حدث العكس، وهو الذي كان يحصل.. لم تكن تتخيل الرّب تحديداً، إلّا في هذه اللحظات التي كانت تمارس فيها عادتها السيئة، أو في لحظات خزيها. أنا أيضاً كنت أذكر الرب حالما أفعل ما حذرتني منه أمّي.. أمارس العادة وأعاودها رغم رقابته وأشعر عقبها بالخيبة والندم الأشد، ثم أعدُ نفسي وربي أن تكون المرة الأخيرة، ولكني أعود إليها أكثر اشتياقاً واشتهاء ولذة. * * * كانت أمّي أيضاً تحذرنا كثيراً من شرب الخمر، وتَشُنُّ عليه وعلى شاربه، وحامله، وبايعه، حملة غاضبة أكثر من غضب الرب. كراهية لا أدري من أين تسلّلت إليها، ولم تكن تعلم أنّ ابنها بعد خمسين عاماً سوف "يهشتج" "شلّة الملابيق لا تسكر بالدم" رداً على استهدافه هو ورفاقه، واحتجاجاً على سوء الأوضاع، وعلى الدَّم الّذي يُكرع ويُسفك بجنون غير مسبوق، بعد أن وجدنا الحياة التي يُفترض أن تكون أفضل قد باتت أكثر من بائسة، والرأس الذي حرصنا عليه من الرشح والصداع، قد بات هو بخساً أو دون قيمة، يُزهق أو يُفجر برصاصة ربما تأتيك من بائس أمّيِّ الفكرِ والثقافةِ، وربّما ممّن لا يجيد القراءة والكتابة، فيما الأوغاد يديرون المشهد من بُعدهم الآمن والمحصّن. * * * قراءة تحليلية للنص باستخدام تطبيقات الذكاء الاصطناعي DeepSeek & chat GPT & Gemini من خلال هذه القراءة، سنتناول نص "أمِّي تشكِّلُ وجدانَنَا الأول" للبرلماني أحمد سيف حاشد، والمنشور في كتابه "فضاء لا يتسع لطائر" بالتحليل من منظور وجداني نفسي ومنظور منهجي. تحليل وجداني نفسي يُعدّ نصّ أحمد سيف حاشد «أمي تُشكّل وجداننا الأول» نموذجًا للأدب السيري الوجداني، حيث يمزج الكاتب بين استدعاء الذكريات الطفولية والتأمل النفسي العميق، ليبرز دور الأمّ في بناء الذات النفسية والأخلاقية. ويشكّل النص وثيقة وجدانية دقيقة توضح كيف تتحوّل العلاقة مع الأمّ إلى أساس لتكوين الضمير الأخلاقي، الحس الجمالي، والوعي النقدي لدى الإنسان. المصدر الوجداني الاول منذ السطر الأول، يضع أحمد سيف حاشد الأمّ في موقع المصدر الوجداني الأول، فهي ليست مجرد أمٍّ بيولوجية، بل الأصل العاطفي الذي تشكّل منه وعيه بالعالم. حين يقول: "أمي تُشكّل وجداننا الأول"، وهنا يعلن "حاشد" عن علاقة نفسية عضوية، تجعل الأم ليست فقط «مربية»، بل مؤسسة الذات، والضمير، والحسّ الأخلاقي والجمالي. الأم هنا هي "الأنا العليا" (بحسب التحليل الفرويدي) التي زرعت في الطفل قيم الخير، والعدل، والرحمة، فغدت ضميره الحيّ الذي يلازمه حتى الكهولة. ومن خلالها يتحدّد معنى الخير والشرّ في وعيه المبكر. الطفولة.. مرحلة تشكّل الوجدان الطفل في النص يعيش حالة انبهار وسحر نفسي أمام الحكاية. تكرار الأفعال الحسية: "نحبس أنفاسنا، نتابع، نندمج، نعيش الأحداث" يعكس تجربة وجدانية كلية ينصهر فيها الخيال بالعاطفة. في هذه اللحظات، تتشكّل أولى لبنات الحسّ الأخلاقي والجمالي. فالخير في الحكاية ليس فكرة، بل حالة شعورية تثير الدفء والفرح، والشرّ يُستقبل كقهر، وخوف، ونفور. تلك التجربة الانفعالية المبكرة تصوغ لاحقاً شخصية أحمد سيف حاشد المقاوِمة للظلم. إنه يربط بين دموع الطفولة التي سالت تأثّراً بالقصص، وبين دموع النضج التي تسيل اليوم في مواجهة الظلم الواقعي. إنها استمرارية وجدانية واحدة بين الطفل والمثقف المتمرّد. الأم.. صوت الضمير الداخلي حين يصف "حاشد" الأم وهي تروي وتعلّم وتحذّر، يبدو حضورها مثل صوت داخلي دائم لا يخفت. هي "الأم المراقِبة"، التي تمثل في اللاوعي ضميرًا رقيبًا: "كانت أمي تحدثنا أن الله يرانا أينما كنا، وأن لكل منا ملكين…" هذه الصورة تتسرب عميقاً في النفس الطفولية، لتخلق ازدواجية بين اللذة والذنب. و "حاشد" هنا؛ يعترف بجرأة أنه ورغم التحذير، مارس ما كانت تحذره منه أمه، وشعر بالذنب بعدها. هذا المقطع يفتح باباً على منطقة الصراع النفسي بين الغريزة والضمير.. – الغريزة تبحث عن لذتها، – والضمير (الموروث من الأم) يعاقبها بالتأنيب. وهكذا يتحوّل النص من الذكريات إلى تحليل ذاتي شجاع، يُعرّي علاقة الطفل بالذنب والرغبة ورقابة الضمير التي حملها معه إلى النضج. الحكاية كبديل نفسي عن العالم الحكايات التي كانت الأم ترويها لم تكن تسلية فقط، بل آلية نفسية للتوازن والأمان في طفولة مضطربة. ففي الليالي "الدامسات والمقمرات"، تصبح الحكاية وسيلة الأم لإضاءة عالم طفلها الداخلي. الحكاية تمثّل هنا الوظيفة العلاجية للنص: – تمنحه الطمأنينة.. – تتيح له التماهي مع الأبطال المنتصرين.. – وتمنحه نموذجاً نفسيّاً للمقاومة والأمل.. إنها مرحلة من التحصين الوجداني ضد قسوة العالم، يُعيد "حاشد" استحضارها لاحقاً كنوع من التداوي بالذكرى. من الطفولة إلى التمرّد في الجزء الأخير من النص، تتبدى الأزمة النفسية للكاتب الناضج: فالقيم التي غُرست فيه من الأم لا تجد مكانها في الواقع البائس. الخير لم يعد ينتصر، والظلم أصبح بنية دائمة. يقول حاشد: "بعد خمسين عاماً، سأهشتج: شلّة الملابيق لا تسكر بالدم…" هنا يواجه خيبة القيم الأولى، ويتحوّل من طفل يتلقّى التعاليم إلى إنسان يصوغ احتجاجه الخاص. لكنه، رغم التمرّد، لا يقطع صلته بالأم، بل يواجه العالم بما أنجبته فيه من ضميرٍ وإنسانية. فالتمرّد ليس خروجاً على الأم، بل تحقّق ناضج لرسالتها: مقاومة الشرّ بوعي جديد. البعد العاطفي النفسي العميق 1. الحنين: النص كله مسكون بحنينٍ ناعم إلى زمن البراءة. حنينٍ إلى صوت الأم كصوت العالم الجميل قبل أن يتلوّث. 2. الشعور بالذنب: يظهر في المقطع الذي يتحدث فيه عن الرقابة والعادة السرية.. حيث يعيد إنتاج عقدة "الذنب اللذيذ" — مزيج من اللذة والخوف، ما يدلّ على عمق أثر التربية الدينية العاطفية في اللاشعور. 3. الخوف من الفقد: النص مملوء بإحساس خفي بالفقد، وكأن "حاشد" يكتب ليحافظ على صورة أمه من التلاشي في ذاكرته. لذلك، يتحدث عنها كما لو كانت ما تزال حاضرة فيه: "أنا بعضٌ منك يا أمي." 4. التماثل مع الضحية: تعاطفه مع المظلومين يكشف عن نفسٍ متماهية مع الألم، تعيش إحساس الفداء والعدالة المفقودة. الدلالة النفسية للغة والصور لغة النص مشحونة بعواطف مكبوتة ومتفجرة في آنٍ واحد. حين يقول: "تسيل الدموع على خدودي ويعلق بعضها في شفتي" نسمع نغمة اعترافية تشبه البوح العلاجي، كأن "حاشد" يعيد تفريغ مشاعره الدفينة عبر الكتابة. والكتابة هنا وسيلة للتطهّر النفسي، توازي بكاء الطفل القديم، لكنها تتمّ بالحبر لا بالدموع. تكثيف وجداني نفسي نص أحمد سيف حاشد "أمِّي تشكِّلُ وجدانَنَا الأول" هو رحلة من الجرح إلى الوعي، ومن الحكاية إلى المقاومة، ومن "الأم الرمز" إلى "الأنا الإنسان". الأم فيه ضميرٌ خالد يعيش في أعماق الكاتب. والحكاية ملاذٌ نفسي يعيد إليه التوازن. والذنب والرغبة صراعات بشرية مكبوتة يواجهها بالصدق. والكتابة نفسها فعل تطهير وجداني يرمم به ذاته. لقد كتب أحمد سيف حاشد اعترافاً وجودياً مؤنسناً، يستعيد فيه الأم كذاكرةٍ وكقيمةٍ وكظلٍّ نفسي، ويصوغ من طفولته مرآةً لضمير الإنسان الباحث عن الخير، وسط عالمٍ يتناقص فيه النور وتتكاثر فيه الظلال. التحليل المنهجي يمثل نص أحمد سيف حاشد "أمِّي تشكِّلُ وجدانَنَا الأول" نموذجًا للأدب السيري الوجداني الذي يمزج بين الاستدعاء الذكوري للذاكرة الطفولية والوعي النقدي للفرد الراشد. ويسلط النص الضوء على دور الأم كمرجعية وجدانية وأخلاقية، وعبر الحكايات الشعبية، يتم تنمية الوعي الأخلاقي، النفسي، والفكري للكاتب. 1. البعد السردي والبنية النص يُصاغ على شكل سيرة ذاتية جزئية، مع انتقالات بين: الطفولة: سرد مباشر لتجربة الاستماع للحكايات، التفاعل مع الأم، والتماثل النفسي مع أبطال الحكاية. الشباب والنضج: تأمل في الذنب، القيم الأخلاقية، وفهم المعاني الدينية والفلسفية. تقنيات السرد الملاحظة السرد الزمني التسلسلي مع استرجاع الذاكرة. التكرار لتعميق المعنى الوجداني: مثل التكرار المستمر لكلمة «أمي» و«الحكايات». توظيف الحوار الداخلي، ما يعطي النص بعدًا نفسيًا وذاتويًا. المزج بين الواقع والتأمل، ما يعكس تطور الذات من الطفولة إلى النضج النقدي. 2. اللغة والأسلوب الأسلوب سردي تأملي وجمالي: يعتمد على الجمل الطويلة المترابطة لإعطاء إيقاع يوازي تدفق الذاكرة والمشاعر. الصور البلاغية والاستعارات الأم «بوذا ونحن تلاميذه» استعارة دينية وفلسفية، تبرز الحكمة والتوجيه. دموع الطفل «أشعر بسخونتها وأطعم ملوحتها» تجسيد جسدي للوجدان، يدمج الحواس بالعاطفة. التكرار والتوازي: تكرار بعض الحكايات والأبيات الشعرية يعزز الإيقاع الوجداني والأثر النفسي. المفردات: مزج بين العامي والرسمي، الشعبي والفلسفي لإظهار البُعد النفسي والاجتماعي. 3. الدلالات والرموز الأم: المرجعية الأخلاقية والوجدانية، الضمير الأعلى، الأمن النفسي. الحكايات الشعبية: التماهي النفسي، النموذج الأخلاقي، صقل الهوية. الدموع: التأثر العميق، البعد الوجداني، التعبير عن الذات. الله والذنب: الرقابة الأخلاقية الداخلية، تضاد الغرائز والوعي. التقمص والتماثل: بناء الهوية، التعلّم من النماذج، مقاومة الظلم. الشعر الشعبي: تعزيز التعاطف مع المظلومين، تعليم القيم الأخلاقية. 4. البعد النفسي والوجداني الأم كرمز نفسي مركزي يوجه الطفل ويؤسس الضمير الأخلاقي. التماهي النفسي مع أبطال الحكايات يرسّخ الهوية الأخلاقية والنفسية. الذنب والرقابة الداخلية يعكس صراع الغرائز مع الضمير، ويستمر أثره حتى النضج. الكتابة تمثل آلية تطهير نفسي، تساعد الكاتب على ترتيب وجدانه وفهم ذاته. 5. التداخل بين السرد واللغة والدلالات ويدمج "حاشد" في النص بين السرد الذاكري، اللغة الحسية، والرموز النفسية لإنتاج تجربة وجدانية مكتملة: السرد الزمني المتتابع والصور البلاغية يؤدي إلى تفعيل المشاعر. التكرار والتماثل النفسي يمثل تعزيز للهوية الأخلاقية. الرموز الدينية والحكايات تعد بمثابة توازن بين الطفولة والنضج، بين الغرائز والضمير. خلاصة النص يقدم نموذجًا للأدب الذي يربط التجربة الشخصية بالوعي النقدي والاجتماعي، ويكشف كيف يتحول الوجدان الطفولي إلى ضمير أخلاقي ووعي ناضج، مع الحفاظ على الجذر النفسي والمعنوي للأم والحكاية.