بقلم الراجي عفوربه حسن حسين الرصابي/ شمعة الوداع.. وإيقاظ القلب النائم أيُّها القلبُ الذي جاوزَ ستين خريفًا، كفاكَ نوماً! قِفْ الآن على ضفاف العمر، حيث يلتقي بحر الماضي بأفق المستقبل المجهول. إنها ليست مجرد سنة أخرى أضيفت للعداد، بل هي الشمعة الأخيرة في احتفال الوجود، التي بضوئها الخافت، نستبصر طريق العودة الأخير. في هذه الوقفة، يستحضر المرء قول الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم: "لاتَزُلْ قَدَمَا عَبدٍ يومَ القِيامةِ حتى يُسأَلَ عن أربَعٍ: عن عُمُرِه فيما أفناه؟ وعن شبابِهِ فيما أبلاه؟ وعن مالِهِ مِن أين اكتسبَهُ وفيما أنفقَهُ؟ وعن علمِه ماذا عَمِلَ فيه؟" هنا تسقط كل الأقنعة وتتلاشى كل الأوهام. إننا أمام مرآة الستين الصادقة التي لا تجامل ولا ترحم. أتراها تُخبرك: "هل كنتَ حقًا العبد الذي ارتضاه الله؟ هل كانت هذه السنوات وديعة مصونة أم مجرد رمال تتسرب من بين الأصابع؟" يا لله! كم هو مؤلمٌ شعورُ الالتفاتة المتأخرة، حين نرى حصاد سنوات البِدار قد أثمر سِنيناً من التقصير. هذه هي لحظة العري الروحي، أن تعترف بخطايا الخفاء وتقصير العلانية. أن تضع يدك على قلبك الذي اعتراه الصدأ، وتسأله في شجن: هل أنت مستعد للقاء من لا يخفى عليه شيء؟ إنها صرخة استغفار من عمق الوجدان، نرجو بها مسح أغبرة ما فات، وإعادة تصفية ما تبقّى. وجع الوداع.. ولهيب الذكرى أيها الواقف على أعتاب السبعين، ما أثقل هذه اللحظة على الروح! فما يعتصر القلب الآن ليس خوفًا من الموت بقدر ما هو وجع الفراق المرتقب مع من أحببناهم وألفنا قربهم. كأنك تقف على مرفأ الرحيل، وتُشاهد وجوه الأحبة تتوارى شيئًا فشيئًا في ضباب الأفق. كل ضمة، كل كلمة، كل نظرة مودة، تحمل في طياتها الآن نكهة الوداع الأخير. تُرى، كم مرة سنصافح تلك الأيادي؟ كم وجبة سنشاركها حول المائدة؟ كم من قصص الماضي سنرويها قبل أن تُصبح هي نفسها ذكرى بعيدة؟ هذا الشجن ليس ضعفاً، بل هو نزف الروح الإنسانية التي فُطِرت على المحبة والأُلفة. اللهم، لا تجعل نهاية عهدنا بهم إلا بداية لعهد سرمدي في جوارك. مرارة الجحود.. وميزان السماء هنا، وفي زاوية الانكسار هذه، يجب أن يرتفع الصوت بمرارة الظلم الذي لاذَ بالصمت. فبعد كل هذا الجهد، وكل هذا العطاء، وبعد أن سُطِّرت الكتب وامتلأت الصحف، وقُضِيَ العمر في خدمة الرسالة والوطن؛ يُقابَل الإخلاص بالجحود، ويُثمر البذل نُكراناً. إنها الطعنة الغائرة في عمق الروح، أن تُهمل وتُهمَّش وتُحارَب ممن أفنيت عمرك في سبيلهم. أن تُمنَح حقوقك الزهيدة لِمَن لم يقدم شيئاً، وتُترك أنت تجاهد لانتزاع أبسط استحقاقاتك. لكن مهلاً أيها القلب المكلوم! هذا الألم هو وقودك الأخير، فإذا كان الناس قد نسوا أو تنكروا، فهل ينسى ديّان السماوات والأرض؟ وهل تضيع ذرة جهد في ميزان عدله المطلق؟ إن العزاء الأكبر هو اليقين بأن الأجر الحقيقي ليس ورقة شهادة أو رتبة زائلة، بل هو الرصيد الباقي في صحيفتك الخالدة. اجعل هذا الظلم نُزُلًا خفيفًا يحملك إلى القرب الإلهي، واهمس لنفسك: "إن كان ربي معي، فمن عليَّ؟". السبعون.. فصل "الخُضُوع الجميل" لقد مضى زمن "الخُطى المتسارعة" وحلّ زمن "الخُضوع الجميل". هذه المرحلة، التي حذَّرنا منها الصادق الأمين بقوله: "أعمارُ أُمَّتي ما بينَ السِّتِّينَ إلى السَّبعينَ..."، ليست نهاية، بل هي إشارة رحمة. إنها بمثابة "النداء الأخير" الذي يدعوك إلى تهيئة الزاد لرحلة لا عودة منها. هنا، يجب أن تتغير الأولويات جذريًا: * من السعي للعالم إلى السعي للخالق: ليكن كلُّ نَفَسٍ وكلُّ حَرفٍ وكلُّ فِعلٍ موجَّهاً خالصاً للوجه الباقي. * تصالح مع الوهن: الضعف الجسدي وقل السمع وقصر البصر ليس نقمة، بل هو دعوة إلهية للتخفف من أثقال الدنيا والتعلق بملكوت السماء. * التسامي عن صغائر الأمور: لا تترك لمرارة الجحود أو عابرة الكلمات من الأقربين أن تُفسد عليك صفاء ما تبقّى. قابل الإساءة بالصفح الجميل، والتقصير بالدعاء الخالص، فهي آخر فرصة ل "قلب سليم". لتكن كل دقة قلب في السبعين هي توقيعٌ جديدٌ على عهد الإخلاص واليقين. إنها أعوام الحصاد الروحي، التي لا مكان فيها لغير الزاد الذي ينفعك في القبر ويُنجيك يوم الحشر. يقول سبحانه وتعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} (الشورى: 25). يا رب، اجعل آخر خطانا إليك، وأجمل لقاءاتنا عندك، وخاتمة أعمالنا صالحة خالصة لوجهك الكريم. {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} (التوبة: 129). عند ربِّ العرش العظيم يكون اليقين.. وعند الله تجتمع الخصوم.