(قراءة من سلسلة الحقوق والحريات في الإسلام، المجلد الثاني، للعميد القاضي الدكتور حسن حسين محمد الرصابي) تُعد العدالة الركيزة الأساسية لأي مجتمع ينشد الاستقرار والكرامة، ومقياس حضارته الأول. لكن، ما القيمة الحقيقية لحق مؤكد لا يرى النور إلا بعد أن يكون صاحبه قد استنفد عقودًا من عمره في أروقة المحاكم؟ إن المشكلة ليست في غياب العدالة بحد ذاتها، بل في تأخرها المُهين والمُكلِف، حتى يتحول ميزان الحق إلى سباق للصبر، يصبح فيه العمر ذاته ضحية من ضحايا المرافعات التي لا تنتهي. هذه ليست مجرد شكوى عابرة، بل هي قراءة لواقع قضائي مؤلم حيث تظل بعض النزاعات عالقة لعشرين عامًا أو أكثر، كأنها قضايا مؤجلة إلى أجل غير مسمى. إن الظلم الحقيقي لا يقتصر على أن يُسلب منك حقك، بل أن تُجبر على الانتظار لعشرات السنين لاستعادته، وهو ما ينسف الفلسفة الجوهرية للعدالة التي تقوم على قاعدة أن: "الحق إذا تأخر عن وقته، فقد الكثير من معناه". في هذا المشهد، يجد المعتدي على النفس أو المال أو الأرض أو العرض الجرأة للوقوف أمام المحكمة بابتسامة واثقة، لأنه يدرك يقينًا أن بنية النظام القضائي الراهنة تمنحه رفاهية المماطلة والتعطيل، وأن الحكم لن يصدر إلا بعد أن يكون الخصم قد أرهقته الأيام، أو فقد القدرة المادية أو المعنوية على المتابعة. هذا الواقع يطرح الحاجة المُلحة إلى دعوة صريحة ومباشرة لإصلاح حقيقي وجذري في منظومة القضاء بأكملها. إن الحديث عن "إصلاح القضاء" يجب أن ينصرف عن التشكيك في نزاهة الأشخاص، أي القضاة الكرام الذين يعملون ضمن حدود القانون، ليركز على إصلاح الهياكل والبنية التحتية والأدوات التشريعية التي تعمل بها هذه المنظومة. ثلاث محاور للإصلاح الهيكلي المطلوب لتحرير العدالة من قيود البطء والتعطيل، يجب تبني إصلاحات جريئة تنصب على المحاور التالية: 1. تجديد قانون المرافعات والإجراءات: إن قانون المرافعات، الذي يُعتبر "بوصلة" العمل القضائي، قد أُكل عليه الدهر وأصبح في صورته الحالية أداة تخدم المماطلة أكثر مما تسهل الوصول إلى الحكم. يتيح النص القانوني الحالي للمحامي – ضمن القانون نفسه – أن يرفع ويؤجل ويطلب استئنافًا ونقضًا وردودًا لا تنتهي، مما يحول القضية من مسار بحث عن الحق إلى مسلسل لا نهائي من الإجراءات الشكلية. الحل يكمن في: صياغة قانون مرافعات عصري يضع سقفًا زمنيًا واضحًا لإنجاز كل مرحلة من مراحل التقاضي، ويُقيد مساحة التعطيل الممنوحة للأطراف، مع منح القاضي صلاحيات أوسع لإدارة الجلسات بحزم نحو الإنجاز، وتقليص عدد درجات التقاضي غير الضرورية في القضايا البسيطة أو المكررة. 1. تطوير البنية التحتية والتحول الرقمي للمحاكم: لا يمكن الحديث عن سرعة في التقاضي بينما تفتقر محاكمنا إلى الأساسيات العصرية. الاعتماد على الأرشفة الورقية، وغياب الربط الإلكتروني الشامل بين المحاكم والجهات ذات العلاقة، والافتقار للتوثيق الآلي الفعال، جميعها عوامل تُبقي القضايا رهينة التأخير الإجرائي. الحل يكمن في: استثمار حقيقي في البنية التحتية الرقمية، يشمل الأرشفة الإلكترونية المتكاملة، وتفعيل منظومة الربط الإلكتروني القضائي، وتخصيص قاعات جلسات كافية ومجهزة، وفرض مساءلة زمنية دقيقة على تأخير القضايا، ومكننة إصدار الإعلانات والتبليغات القضائية لتقليل الاعتماد على الأساليب التقليدية البطيئة. 1. تنظيم مهنة المحاماة بضوابط مهنية وأخلاقية صارمة: للأسف، يتعامل بعض المحامين مع القضايا كأنها زبائن في محل تجاري، كلما طال بقاؤها زاد ربحها، دون اعتبار لمعاناة صاحبها أو لتكدّس العدالة. هذا السلوك يهدد قدسية المهنة ويستغل الثغرات القانونية لتعميق جراح المتقاضين. الحل يكمن في: إصدار قانون جديد لمهنة المحاماة يشدد على معايير المهنية والضمير قبل المصلحة المادية. يجب وضع ضوابط واضحة لمكافحة المماطلة التي هدفها الإضرار بالخصم، وربط أتعاب المحامي - جزئياً - بالإنجاز الزمني للقضية وليس فقط بطول أمدها، مع تفعيل آليات رقابية صارمة لمواجهة الاستغلال الإجرائي للقانون. القاضي.. أسير النص من المهم الإشارة إلى أن القاضي في كل هذا المشهد هو مقيّد ب "القانون" وليس بصلاحياته الشخصية المطلقة. إذا كان القانون الحالي يسمح ويفتح أبواب التماطل والتأجيل والإطالة، فإن اللوم لا يجب أن يوجه إلى القاضي النزيه، بل إلى النظام التشريعي الذي يفرض عليه أن يسير وفقه. القاضي يطبق النصوص، فإذا كانت النصوص قاصرة، فستكون مخرجات العدالة بطيئة. خاتمة إن العدالة ليست مجرد شعار يُرفع أو منشور يُنشر، بل هي منظومة متكاملة ومتشابكة تبدأ من جودة التشريع، مرورًا بمهنية التنفيذ، وتنتهي بضمير كل من يعمل في هذا الحقل. ما لم نقم بإصلاح هذه المنظومة القانونية والإجرائية إصلاحاً جذرياً وشاملاً، فستبقى العدالة بطيئة، وسيبقى المظلوم مظلومًا، حتى بعد أن يُكتب له حكم بالنصر، لأن هذا النصر سيكون قد جاء متأخراً جدًا، بعد أن سرق البطء أغلى ما يملك – وهو عمره. لقد آن الأوان لكي نُعيد للحق معناه، وللعدالة سرعتها وكفاءتها، وللشعب ثقته في أن اللجوء إلى القضاء هو فعلاً لجوء إلى الملاذ الآمن.