للأسف دخلت مصر في نفق مظلم .. احتقان سياسي ومواجهات بين أبناء الوطن الواحد ودماء تسيل واعتقالات وتكميم للأفواه التي تخالف رأي القوى المسيطرة بعد بيان قيادات الجيش. احتج ذلك البيان المشؤوم باستجابته لمطالب الشعب, وهي في حقيقة الأمر استجابة لفصيل سياسي دون آخر, وإن كان هذا الفصيل المحظوظ اليوم له جمهوره ومؤيدوه .. لكنه فصيل يرى نفسه أنه هو وحده الشعب ولا يعترف بأن هناك صوتًا جماهيريًا آخر يقول: لا للكفران بالديمقراطية والانتخابات التي انتظمت فيها إرادة المصريين وبموجبها أُعطيت الأغلبية تفويضًا بإدارة شؤون البلاد. ذلك البيان زعم أنه سينقذ البلاد من السقوط في هاوية لا يعلم قعرها إلا الله, لكن اتضح اليوم أن هذا البيان هو الذي أراد أن يسقط البلاد في هذه الهاوية, وقد فعل, فمصر اليوم تقتتل وتسيل دماء أبنائها, وثمة نزعة مفرطة في الكراهية والتحريض ضد من رفضوا الانحراف عن المسار الديمقراطي .. الإعلام يغيِّب صوتهم ويعادي من يحاول أن يكون موضوعيًا ومهنيًا في نقل أخبار الطرفين .. من أدخلوا مصر في هذا المأزق المتخم بالفوضى والتمييز بين أبناء الشعب يتظاهرون بأنهم يقفون من الجميع في منطقة الوسط, لكنهم على المستوى العملي يوزعون الورود على معارضي الرئيس المعزول في حين توزيعهم القتل والترويع على مؤيديه. يا لهذا الوضع الخطير الذي تعيشه مصر اليوم, مصر ثورة يناير التي أزاحت نظامًا فاسدًا قمعيًا غاشمًا!!. الكل يتناسى أن الشرعية الثورية شرعية تبطل صلاحيتها في حالة استطاعة الشعوب القيام بالتغيير عن طريقة الشرعية الدستورية والانتخابية.. دائمًا الفوضى والهدم والتمرد والتضحية بالدماء ليست من صالح الشعوب, ولكنها تلجأ إليها حين يتعذر إحداث التغيير في ظل نظام متسلط, أما مصر الثورة فإنها استطاعت أن تخرج من الحالة الحرجة بانتخابات حرة سارت فيها الإرادة المصرية وحسمت أمرها في أكثر من محطة (مجلس الشعب/ مجلس الشورى/ الانتخابات الرئاسية/ الدستور), وبإمكان هذه الإرادة أن تختار من تريد للحكم من جديد في ظل عملية ديمقراطية يحتكم إليها الجميع. لكن يبدو أن الديمقراطية لم ترقْ لمن خرج من هذه العملية الديمقراطية خاسرًا أو لنقل: لمن هم أقل تأييدًا من الشعب في مختلف المحافظات المصرية, فهؤلاء تكالبوا على الحزب الحاكم من أول يوم صعد فيه للحكم ووضعوا مختلف العراقيل أمامه واختلقوا الأزمات التي من شأنها تأليب الجماهير على النظام .. حدث ذلك مع رفضهم كل الدعوات للحوار والمصالحة, مشترطين تنفيذ كل رؤاهم للدخول في حوار.. واستمر هذا التعنت الذي تغذيه نزعة الكراهية والحقد على القوى التي وصلت إلى سدة الحكم, ولم يكن أمامهم إلا أن يبحثوا بمختلف الوسائل عن طريقة لإسقاط هذه القوى والغدر بالعملية الديمقراطية والعودة إلى مربع الانفلات والفوضى عن طريق حشد المؤيدين لهم في ميدان واسع وفي محافظة أو محافظتين على أنهم هم وحدهم الشعب, ومواكبة ذلك بحملة إعلامية نظرت بعين واحدة للمشهد المصري في الميادين, وكانت النهاية عزل الرئيس المنتخب وإقامة نظام حكم جديد على أساس اعتباطي تعسفي غير ديمقراطي. المهم جرى نسف التجربة الديمقراطية بعد عام واحد من نشأتها بدافع من النزوات والأهواء والأمزجة التي لا تقبل بالآخر ولم تتعلم أن الديمقراطية والحوار كفيلان بتصحيح الأوضاع, ولكن هذه هي عقلية المثقف العربي الذي يرفض الديمقراطية متى ما كانت تصب في صالح غيره. لا يهمنا هنا الدفاع عن شخص الرئيس المعزول أو الحزب الذي ينتمي إليه, ولا يمكن لأحد إنكار أن هناك أخطاء وقعت .. ولكن المهم هو الدفاع عن العملية الديمقراطية التي احتكم إليها المصريون وعبرت عن وعيهم الحضاري في التنافس على إدارة البلاد, هذه الديمقراطية التي يعرف العالم أنها الوسيلة المثلى لحل المشكلات والمخرج العصري للشعوب من حالة الفوضى والاقتتال والتناحر والصراع على الحكم.. لكن ماذا نصنع لليبرالية العربية التي وصفها الناقد الكبير عبد الله الغذامي بأنها ليبرالية مشؤومة!! .. نعم هي كذلك؛ لأنها مهووسة بالصخب والضجيج والفوضى ولا تريد للشعوب العربية أن تستقر وتجد طريقها إلى التطور والنهوض في ظل تبادل سلمي وسلس للديمقراطية. جوهر المشكلة في مصر هي التعبئة القديمة والتحريض على الكراهية بين المصريين على أساس الفكر والقناعات .. واستمرار هذا النهج سيوسع حلقة الانهيار في حياة السلم الاجتماعي المصري.. لذلك ينبغي أن يسارع عقلاء المصريين وحكماؤهم إلى تدارس الموقف واتخاذ الحلول التي تعيد للديمقراطية في مصر احترامها وحقها في البقاء والنمو والنضج بما يكفل إخراج مصر بسرعة من هذا المنحدر الذي تنزلق إليه اليوم, فمصر ليست دولة شقيقة فحسب, وإنما هي رئة الأمة العربية التي تتنفس من خلالها, وأي تقهقر يصيبها لا بد أن يكون للعرب كلهم نصيب منه. [email protected] رابط المقال على القيس بوك