مضت عشرات السنين وهناك من يحاول إقناع الجماهير العربية بأن النموذج الليبرالي هو الطريق الوحيد إلى بناء نظام سياسي يحقق الطموحات ويعيد للأمة العربية كرامتها المسلوبة.. أنفق الليبراليون العرب أعمارهم في البحث عن هذا النظام المنشود والعداء المستميت للأنظمة العربية الجاثمة على صدر الأمة بشموليتها وديكتاتوريتها وتقييدها الحريات وضيقها بالرأي وتكميمها الأفواه, لاسيما تلك الأنظمة التي جاءت على ظهر دبابة, فصادرت الإرادة الشعبية وأجبرت الشعوب على القبول بفكرة الحزب الواحد أو القيادة العسكرية الجامعة, وإزاء ذلك ما انفكت أصوات الليبراليين تتعالى وهم يبحثون عن لحظة الخلاص لهذه الشعوب المغلوبة على أمرها, فنهض الفكر الليبرالي ونضج وهو يطالب بمطلب جامع هو (الديمقراطية) التي تعني الحريات والحقوق والمواطنة المتساوية والعدالة الاجتماعية وإرادة الشعب الحرة في اختيار من يحكمه على أساس مبدأ الأغلبية. وحتى اليوم تجد معارك الليبراليين العرب مع الواقع تدور حول هيمنة الطغمة العسكرية على مقاليد الشعوب, وحول حرمة الزواج الكاثوليكي بين السلطة والمال, ولم تقف الليبرالية عند حدود رفض هيمنة العسكر ورأس المال على السياسة وتأثيرهما على صنع القرار وتدخلاتهما لكبح جماح القوى الحداثية التي تسعى إلى تحقيق التطور والازدهار, بل إنها مضت في الفرز الإقصائي إلى أبعد من ذلك, فهتفت وأجهدت نفسها في رفض المكوّنات القبلية من عالم السياسة, والوقوف دون أن يكون الإسلام السياسي مكونًا شريكًا في العمل السياسي وساعيًا إلى الحكم. هذا الفرز شكّل مسلمات وبدهيات انتظمت الفكر الليبرالي, وغدت خطوطًا عريضة توجه مسار التناولات الليبرالية وتفصيلاتها المتشيعة للحقوق والحريات والعدالة والمساواة وغيرها من القيم التي يُقال عنها في عالم اليوم: إنها قيم ليبرالية. وعلى ميدان التطبيق تمكنت الحركة الليبرالية في بعض البلدان العربية من الوصول إلى الحكم أو الانتشار في بعض مفاصل الأنظمة الحاكمة للسيطرة على صناعة القرار السياسي وصناعة الثقافة, ومضت في ممارسة ذلك الفرز, وفي الحين الذي نجح فيه الليبراليون في تضييق الخناق على القوى ذات المرجعيات القبلية أو الإسلامية والاستمرار في الاستفراد والفساد السياسي والثقافي وتجذير التخلف والأزمات الاقتصادية؛ فقد ظل الصراع الليبرالي مع هذه القوى المقصيّة محتدمًا, وغالبًا ما كان الليبراليون يعقدون التحالفات الخفية والمعلنة مع العسكر من أجل قهر الخصوم السياسيين في المعارضة, سواء أكان هؤلاء الخصوم إسلاميين, أم كانوا قوى متوافقة مع الفكر الليبرالي وليس مع الليبرالية الحاكمة, وهم كثير من أصحاب المرجعيات القومية واليسارية. المهم, أن طوفان الربيع العربي جاء ليجرف بعض الأنظمة المسنَّة, وهي ثورات شعبية جامعة تداعت من أجلها كل المكوّنات والشرائح الاجتماعية, الشباب والأحزاب والمدينة والريف والقبيلة والمؤسسة.. الكل اشتركوا في صناعة التغيير لإرساء عهد ديمقراطي يحترم إرادة الجماهير من خلال التنافس الشريف للوصول إلى سدة الحكم. بدأت الديمقراطية العربية الناشئة خطواتها الأولى في مصر وأسفرت عن نتائج حقيقية, مثل (49 مقابل 51) في التصويت على الانتخابات الرئاسية، و(64 مقابل 36) في التصويت على الدستور.. تيارات الإسلام السياسي في مصر وفي غيرها برزت إلى الواجهة في هذه النتائج فبدأت هذه التيارات تهيّئ نفسها لخوض تجربة الحكم, كما حصل في مصر وتونس وليبيا, ومن المؤكد أن العوائق كثيرة في واقع ما بعد الثورة, لاسيما مع تربُّص الأنظمة المعزولة بالنظام الثوري الجديد عن طريق مخالبها التي لاتزال ناشبة في بعض المؤسسات. أما القوى الليبرالية سواء التي كانت في السلطة أم التي كانت في المعارضة فإنها بدت محرجة من وصول عدوّها القديم (الإسلام السياسي) إلى سدّة الحكم, فمنذ الأيام الأولى لما بعد الانتخابات في مصر انتظمت هذه القوى الليبرالية في خندق واحد لرفض هذا الواقع الجديد وغير المتوقع لديها قبل أن ترى ما سينجز لتحكم عليه.. خرجت المليونيات الليبرالية تهتف برحيل الحكام الجدد قبل أن يدخلوا قصر الرئاسة.. هؤلاء الحكام الجدد فهموا اللعبة وازداد إيمانهم بمقتضيات الواقع الجديد الذي جاءوا فيه إلى الحكم.. فحافظوا على الحريات، ودعوا القوى الليبرالية إلى الشراكة في إطارها الديمقراطي؛ لكنهم ووجهوا بالرفض جملةً وتفصيلاً.. وعمدت القوى الليبرالية إلى إغلاق باب التفاهمات مع الحاكم الجديد, وحاولت أن تبقيه معزولاً ومستفردًا, لاسيما حين وجدته يحظى بالتأييد الشعبي في كل الاستحقاقات الديمقراطية, وحين وجدته أكثر تماسكًا أمام شروطها المسبقة للدخول في حوار. الحكام الجدد أصبحوا أمام واقع محتقن قلّما تنفرج أزماته, لكن لم يبقَ الحال على هذا الوضع, فقد ذهبت القوى الليبرالية إلى البحث عن وسائل لتغيير هذا الواقع الجديد الذي تراه غير طبيعي, فتحالفت أولاً مع خلايا النظام القديم في المؤسسات الخدمية لإعاقة مسار الحكومة في تلبيتها احتياجات المواطنين, وتحالفت مع خلايا النظام القديم في السلطة القضائية لصد مؤسسة الرئاسة عن اتخاذ القرارات وتصريف الأمور, وفي كل مرّة كان الليبراليون يجدون أن هذا النظام لايزال قادرًا على البقاء, فما إن مضى عام واحد واقترب مجيء صعود انتخاب أول رئيس منتخب من الشعب في 30 يونيو حتى عقدت القوى الليبرالية تحالفها الكبير والتاريخي مع العسكر لطي صفحة الديمقراطية الوليدة والقضاء على ذلك النظام بانقلاب عسكري في 4 يوليو 2013م، حدث بعده ما حدث وأنتم تعلمون. وبهذا تكون الحركة الليبرالية قد كشف للجماهير العربية أنها ليست ليبرالية إقصائية فحسب, وإنما هي أيضًا ليبرالية مجنزرة؛ لأنها حين عجزت عن قيادة المشهد السياسي من خلال صندوق الاقتراع وصناعة التغيير الذي تريده من خلال الانتخابات كما هو شأن الشعوب المتقدّمة؛ لم تجد إلا المدرّعات والمجنزرات لإزاحة الخصوم السياسيين ورميهم في السجون، وإسكات أصواتهم، وتلفيق التهم لهم بعد أن كانت تصب جام غضبها وسخطها على العقلية العسكرية.. اليوم عاد الليبراليون يتملقون العسكر ويتحرّكون خلف بياداتهم, متناسين أنفة الأمس وكبرياءهم الثقافي وتشدقهم بالدولة المدنية الحديثة. فهل أدرك الليبراليون العرب هذا النفق الذي أدخلوا أنفسهم فيه اليوم، وهل تستطيع القوى الليبرالية أن تعيش وتحقّق الاستقرار والتنمية لشعوبها بعد أن كشفت تنصُّلها عن المبادئ التي كانت تدعو إليها, وكشفت رغبتها في إقحام الأوطان في معارك صندوق الذخيرة بدل توطينها على معارك صندوق الانتخاب؟! والأهم من كل ذلك: هل حقًا أن الشارع سيمنحها ما لم يمنحها صندوق الانتخاب، وهل ستسمح جماهير اليوم - التي كسرت حاجز الخوف – لهذه القوى الليبرالية المجنزرة أن تكتسب الشرعية الافتراضية القائمة على مبدأ (فرض الأمر الواقع) أم أن هناك متغيّرات جديدة ستشهدها المنطقة برمتها تعيد قولبة الربيع العربي من جديد؟!. الأيام ستكشف لنا ذلك.. [email protected] رابط المقال على الفيس بوك