يُشهِّر الليبراليون كل يوم بحكم العسكر ويسخرون من العقلية العسكرية بأنها عقلية جامدة وتقليدية وتقف عقبة أمام قيام الدولة المدنية الحديثة, لكن الواقع أثبت اليوم ما ينافي هذا القول المكرور, فالعسكر في مصر كشفوا للعالم عن وطنيتهم ووعيهم المدني المسؤول سواء في موقفهم الإيجابي من ثورة الشباب المصريين أو في موقفهم بعد إجراء الانتخابات وتولي الإخواني محمد مرسي مقاليد البلاد, وذلك حين أحال قيادات عسكرية إلى التقاعد وقبلوا هذا القرار بنفس راضية إيمانًا منهم بأن لكل زمان دولة ورجالاً, وأن من حق غيرهم أن يدلي بدلوه في العمل الوطني المخلص.. وها هو الجيش المصري في أزمة “الإعلان الدستوري والاستفتاء على الدستور الجديد” يعلم الجيوش العربية مرةً أخرى درسًا في الوطنية والحياد لصالح الوطن لا الأفراد والأيديولوجيات والأمزجة. أما القوى المدنية الليبرالية فإنها لم تؤمن بما آمن به العسكر, وكشفت للعالم هوسها بديمقراطية مفصلة على مقاسات ليبرالية فقط, ويتضح ذلك في حنقها وكرهها للإسلاميين وسعيها الحثيث إلى سلب الزعامة المصرية هيبتها والوقوف في وجه القرارات الرئاسية ولو كان ثمن هذا الرفض خراب مصر كلها وموت أبنائها كلهم, وقد أدرك العالم هذا الفكر الإلغائي والإقصائي فجاءت بعض الصحف الأمريكية تؤكد أن اعتراض الليبراليين والعلمانيين في مصر لم يكن في حقيقة الأمر على الإعلان الدستوري ولا على الاستفتاء على الدستور الجديد, وإنما على تولي مرسي مقاليد الحكم, وقد تأكد هذا باستمرار حنقهم بعد أن تم التوافق على التعديل في الإعلان الدستوري ومن ثم طرح الدستور الجديد أمام الشعب ليقول كلمته الفاصلة. ما يبدو لي هو أن الربيع العربي في مصر وصف الدواء ولم يحدد بالضبط حقيقة الداء .. لقد جاء هذا الربيع بنظام جديد يحكم هذا البلد الثائر بإرادة الجماهير, لكنه – أي هذا الربيع - نسي أن يصف لنا من هو المعارض الجديد “الثوري” الذي ينبغي أن يكون هو من يخالف رأي النظام الحاكم لا غيره من الجهات التي أزاحتها ثورة الربيع العربي, ثم عادت لترفع عقيرتها كلما تحرك الرئيس الجديد خطوة – بغض النظر عن كونها سلبية أو إيجابية – وتدعي المعارضة من أجل الوطن, وهي في الحقيقة لا تمارس إلا حنقها من هذا الواقع الجديد الذي سلبها ما كان بيدها منذ عقود وأعطاه لآخرين, فنحن نقرأ في عيون رموز جبهة الإنقاذ الوطني عدم الرضا عن وصول الإسلاميين إلى الحكم, وعن الانتخابات التي جاءت بهم, وعن الجماهير التي أرادت بأصواتها تمكينهم في هذه المرحلة, وكأن الديمقراطية في عرفهم ليست ديمقراطية إلا إذا أسفرت عن سقوط الإسلاميين وصعود غيرهم. كان على الربيع العربي أن يحدد مكان الورم ويحاصره لإزالته ثم تأتي جرعات العلاج لتطهير الجسم منه, أما الإبقاء على الورم مستمرًا في التمدد والتوسع مع استمرار جرعات العلاج, فإنه إجراء غير سليم؛ لأن نشاط الورم قد يغلب نشاط العلاج أو قد يثيره العلاج فيزداد توسعًا وسيطرة على أماكن أخرى من الجسم, وتكون نهاية المريض. الثورات المكتملة لا تعطي النظام الجديد مقاليد الأمور وفي الوقت نفسه تعطي لمن قامت ضده الثورة وحلفائه من الليبراليين الحق في العودة إلى تنغيص الواقع الجديد بدعاوى ديمقراطية تخفي رغبته في الانتقام من “الآخر” الذي وصل اليوم إلى السلطة؛ لأن النظام السابق وحلفاءه لو كان فيهم خير لما قامت ضدهم الثورة, بل لو كان فيهم قليل من خير لما كان ينبغي أن يثور الناس عليهم, وإنما الأصل أن يسعوا لإصلاحهم .. ومن لم ينفع الناس وهو في الحكم لعدة عقود فكيف سينفعهم وهو في المعارضة؟! وإلى جانب ذلك, أنا كمواطن عربي لا أرى في عمرو موسى إلا رمزًا للتخاذل العربي والهزيمة العربية على امتداد ترؤسه للجامعة العربية, كما أرى في محمد البرادعي رمزًا للببغائية والصَّغَار الذي كلف العرب مليون عراقي راحوا ضحية الخديعة الأمريكية في البحث عن أسلحة الدمار الشامل, وأرى في حمدين صباحي رمزًا للفكر الشمولي الذي يسكت صوت الآخر, وقد يضطر لقطع لسانه .. ومتى كانت النظرية الشمولية تؤمن بالليبرالية؟ وأيًا كان الأمر, فعندي أن مركزية مرسي إذا كانت اليوم ستحقق لمصر ما ينبغي أن تكون عليه اليوم سياسيًا واقتصاديًا وعلميًا فأهلاً بها, فمصر دولة عريقة وهي الرئة التي يتنفس بها العرب, ولذا فمن الأهمية بمكان أن تُدار اليوم بحاكم قوي وجريء وشجاع لا ينشغل بضجيج القوى التي تعترض على كل شيء إذا لم يكن كما تريد, ورضا الليبراليين غاية لا تدرك. وعندي أيضًا أن ديكتاتورًا منتخبًا خير من ديمقراطي غير منتخب, فالحاكم المنتخب إن شارك معارضه في الرأي فله أجران وإن انفرد بالرأي فله أجر أيضًا, لأنه حاكم بإرادة شعبية حرة, أما الحاكم غير المنتخب إن تعامل بديمقراطية فله أجر, وإن مارس الديكتاتورية فعليه وزرها, لأن هذا الحاكم ليس إلا واقعًا يفرض نفسه. وعليه فمن العدل أن تتركونا نتذوق شيئًا من ديكتاتورية الإسلاميين – إن كانوا كذلك – مثلما تجرعنا ديكتاتورية الشمولية واستبدادها عقودًا من الزمن ولم تصل بنا إلى شيء سوى زيادة التقهقر, فلعل ديكتاتورية الإسلاميين تصنع شيئًا من أجلنا يستحق الاهتمام, فنحن شعوب مغلوبة على أمرها, تجرعنا من المرارات والغصص ما لا تقوى على حمله الشعوب الأخرى, ونحن نبحث عمن يخرجنا من هذا المأزق الذي أدخلتنا فيه الأنظمة التي لم تتساقط مع أوراق الشجر في فصل الخريف وإنما تساقطت في الربيع العربي. [email protected] رابط المقال على الفيس بوك