لا مناص، أمام أيّ فصيل من فصائل الإسلام السياسي، يريد المعارضة بنزاهة، والنجاح في إدارة السلطة، من تجاوز العُقد الصغيرة المفتعلة، والقبول بالعلمانية، وتمثّل قيمها في الرؤى والممارسات السياسية، عدا ذلك سنتعب ويتعبون، ونهدر المراحل والجهود والمقدرات عبثاً على رحى الدولة الدينية.. هذا الأمر لا يبعد أحداً عن الدين، بقدر ما يقربه من منطق السياسة والدولة، وكلاهما بطبيعته ظاهرة علمانية تستمد معناها ومبررات وجودها من كونها معنية بإدارة المصالح الدنيوية الزمنية للمجتمعات. ولأن “الله يقف على مسافة واحدة من الجميع”، وكذلك الشيطان، فميدان العمل السياسي هو ميدان لتدافع الرؤى والبرامج البشرية النسبية، لا بينها وبين المطلقات المقدسة.. تجاهل هذه الحقيقة التي ترضي الله، وقد تغضب بعض البشر، لا يجعل الدولة شيئا آخر، بل يخرجها عن مسارها النفعي المنهجي العملي الواضح، وطبيعتها الزمنية، إلى منزلقات الضبابية والمزايدات والقضايا الزائفة والصراعات العبثية، والمعارك المفتعلة.. على حساب أولويات الواقع وقضاياه الموضوعية. هذا الأمر أدركه، على الأقل، الإسلاميون في تركيا، منذ الزعيم التركي “أربكان”، ومن بعده حكام تركيا الإسلاميون اليوم، ونجحوا كما هو متوقع، وكأي فصيل سياسي آخر، نجاحهم أو فشلهم لهم، دون الحاجة إلى المزايدة بخرافة الدولة الدينية التي لم تكن لتؤدي بتركيا سوى إلى التجربة الأفغانية.. إن فكرة إقامة “مملكة الله على الأرض”، لا علاقة لها بالله ولا الأنبياء ولا الكتب المقدسة التي أكدت على استخلاف الله للإنسان، وحثته على إقامة “مملكة الإنسان على الأرض”، فيما تبدو فكرة “مملكة الله على الأرض”، وكأنما أوحى الشيطان لأوليائه من رجال الدين بها، إذ لم يتضرر الدين ولا الإنسان ولا التاريخ من شيء، كما تضرر من فكرة وممارسات الدولة الدينية التي بدأت بشعار “مملكة الله”، وانتهت برعب واقع “مملكة الكهنوت”. لقد تكبدت البشرية جراء الدولة الدينية من الحروب والكوارث والمجاعات والتصفيات والتعذيب والقمع.. أهوالاً يشيب لها الغراب، أقلها في الغرب قروناً طويلة من الانحطاط الحافل بمختلف أشكال المعاناة والرعب ومحاكم التفتيش.. تحت حكم الكنيسة. بدوره تكبد العالم الإسلامي خلال العقود القليلة المنصرمة فقط، في أفغانستان والسودان والصومال والجزائر وسوريا.. جراء نزعات ونزاعات فصائل الإسلام السياسي، ما يكفي للثقة بأن مستقبلا تحت حكم هذه الفصائل سيكون أسوأ وأكثر دموية وقهراً من ماضي أوروبا تحت حكم الكنيسة. لا أدرى من ابتدع فكرة أن العلمانية هي ضد الدين، وصوّر فصل الدين عن السياسة، وكأنه فصل الدين عن المجتمع والحياة، لكنه بالتأكيد كان رجل دين انتهازي، وأتوقع أن مقعده في الجحيم بات معدّا، ولا بد أن المجتمعات الغربية عانت طويلاً من جراء هذا الهراء، قبل أن تكتشف المجتمعات نفسها أن الدين المسيحي في ظل العلمانية، كما هو الآن، يعيش عصره الذهبي.. وهو ما كان يجب أن يحدث مبكراً في العالم الإسلامي، ولكن لأن الانتهازية اللاهوتية ما زالت مسيطرة على الجامع والكتاب المدرسي والإذاعة والتلفزيون ومختلف وسائل المعرفة، لا تزال العلمانية شراً محضاً من عمل الشيطان، مع كونها لا علاقة لها بكفر أو بإيمان، بقدر ما هي شرط طبيعي لإدارة الدولة وخدمة الناس. الدولة الدينية التي أنتجت الخراب في إيطاليا وفرنسا وألمانيا .. في الماضي، كما أنتجت الخراب في أفغانستان والسودان والصومال .. مؤخراً، لن تنتج المدن الفاضلة في مصر واليمن وتونس.. وبدون إيمان الحركات الإسلامية بالفصل بين السياسة والدين، وتطبيع علاقتها بالعلمانية، والحكم نيابة عن الشعب لا عن الله، لن يصلوا، مهما حكموا طويلا، إلى شيء، سوى إنهاك الشعوب بتجارب مجربة، وزجها بمغامرات معروفة النتائج.. وما يعدهم الشيطان إلا غرورا.. [email protected] رابط المقال على الفيس بوك