لا أسوأ من واقعنا العربي الكسير إلا هذا التدافع المحموم لإظهار الأجنبي على أنه المخلص، والمنقذ، وحامي حمى الأوطان ،عراب السلام الأول والأخير. قد يبدو سخيفا، محاولة الغريق التشبث بحبال من هواء،،إذ كل المآلات تفضي إلى طريق واحد هو الموت ولا غير الموت، لكن الأسخف أن تقدم نفسك قربانا للغرق، ثم لا تتوانى وأنت تصارع لجج الموت والضياع في تمجيد البحر وقراصنته. في واقعنا المكتظ بالتناقضات؛ غالباً ما يتبادر السؤال الآتي: لماذا يتوجب علينا كعرب فتح شهية حمقنا لابتلاع المزيد من صور الحضور الأجنبي الذي لا يقف دوره عند مهمة تجهيز الأوطان وتشييعها نحو مثوى الفوضى الخالدة التي لا تموت. نمعن في ذلك رغم أن كل المؤشرات والوقائع ذهبت ولا تزال باتجاه لعن هذا الحضور الذي كلفنا خسارات مدوية على شتى مسارات واقعنا كأمة دثرت بحضورها الإنساني النبيل -ذات عهد مضى-أمما شتى ظلت تفترش التخلف وتلتحف الهوان. تمضي اليوم أمريكا وحلفاؤها المدججون بالطيش في تدشين مشاريع سياسية قذرة لواقع عربي جديد رسمت ملامحه بحرفية متناهية لدرجة أننا ابتلعنا طعم تلك المشاريع المشبوهة بكل شراهة فمضينا غير آبهين بالتاريخ ولعناته في جولات بائسة من التناحر والاقتتال، بينما هم عاكفون بكل أريحية وراحة بال على ضخ المزيد منها ليس لإسقاطنا في أتونها المتفجر الملتهب فحسب، ولكن لضمان بقائنا تحت إقامتها الجبرية المستبدة...لا يستعجلون الوصول إلى الهدف، هم-فقط- يبدعون في رسمه ووضع الأسباب الفاعلة للوصول إليه، دون عناء كبير،،وقد وجدوا أن من الأسباب المهمة التي تمكنهم من الحضور البارز في ميادين واقعنا المفتوحة على مصراعيها؛ إذكاء نزعة الصراعات وبث روح الفرقة والكراهية بين فئات الشعب الواحد عبر سلسلة طويلة من الخطوات المغذية لنزعات التطرف بمعانيه المختلفة سواء الطائفية منها أو الحزبية، من جهة وتفكيك الثقة بين الأنظمة وشعوبها من جهة أخرى من خلال إنتاج أنظمة حاكمة لا تألوا جهداً في تسييج حضورها الباهت بأسلاك الاستبداد الشائكة والتي لا تنفك تحيل الشعوب إلى عبوات ناسفة من الحقد والانتقام، تبتعد حيالها فرص الأمل بوضع حد لتفشيها المخيف، فضلاً عن الدور الممنهج، لتفكيك أواصر العلاقات بين الدول العربية ذاتها من خلال إنشاء بؤر متعددة للصراع فيما بينها، واللعب بأوراق فاعلة كتلك المرتبطة بفزاعة المذهب والطائفة وما إلى ذلك من هواجس الأمن والخوف والجغرافيا والتاريخ، وإن شئتم الوطنية “كمان”؛ تستدعيها بحسب مقتضيات الحال للدس التآمري الخبيث بين هذه الدول المسترخية على مخادع الغفلة الخالية إلا من بقايا حضور مرتعش يوغل في الغياب. هذه الأجواء القابلة للاشتعال أصلاً، مكنت الشارع من حمل ثورات ارتجالية مضت دون روافع تغييرية استراتيجية تنظر إلى ما بعد اللحظة الأولى، سواء من حيث التنظيم أو التخطيط أو التوجيه وحسن الإدارة، فضلاً عن غياب بل تغييب المحددات الأخلاقية وسط أكوام الإرادات الثورية الغارقة حتى أذنيها في وحل ماض من الحضور الوطني غير النزيه...فكان أن بدت هذه الثورات وكأنها تمارس فعلها على شكل عادات اكتظت ولا تزال بأهداف تحسبها جميعا ونتائجها، شتى، بشعارات أمعنت في مخاطبة العاطفة وتجييشها على نحو من التعبئة الانتقامية الهادفة إلى تصفية الحسابات والبعيدة كل البعد عن مضامين التغيير الهادف بكل قداسة وسمو إلى الانتقال بالأوطان نحو غد وارف النماء والتنمية، فلم يكن مستغربا -وهذا حالها-أن تظهر عاجزة عن إدارة واقعها وان بقدر من الواقعية والاتزان،،ظهر أن جل ما عملته-على الأقل حتى اللحظة الراهنة-تمثل في إشعال فتيل حاضرنا بمزيد من التداعيات المقلقة، المقلصة لأحلامنا بغد تورق من خلاله شجرة الوطن وارفة الظلال. إن الثورة كمشروع لا تتوقف عند حد معين من الانفعال، والنزق والعاطفة، فحسب، بل تمتد إلى ما بعد ذلك، مسيجة حضورها بالتفاعل والرزانة ورباطة الجأش والمنطق، هي كمشروع تجشأ من أعماقها فضلات الوصاية العفنة وتخلع كل أسمال التبعية الرثة المثيرة لشهية الانتهازية والابتزاز، الثورة الظل شارع، الثورة الضوء مشروع. والخلاصة أن الثورة كمشروع :حركة دؤوبة من الفعل الوطني الخالي من نوازع النفس الإمارة بحب الذات ومن شبهات الارتهان للغير الذي أثبتت صروف الزمان ونوائبه انه وراء سقوطنا المتكرر على قارعة التاريخ، انطلاقة تصحيحية واعية لا يتحكم بها زمان أو مكان، الجميع معنيون بها: في البيت ..في الشارع .. في المدرسة ..في أماكن العمل.. في شتى مسارات حياتنا، الثورة كمشروع لا بد أن تتواكب مع حملات مكثفة من التوعية الوطنية المستمرة الداعية للحب والإخلاص والتسامح، النابذة للكراهية والزيف والأحقاد، الثورة كمشروع تعني ألا نتوقف وألا نرتد إلى الماضي، فذلك معناه نكوص وارتداد عن مبادئها وقيمها،،،،،غير ذلك معناه الشارع والشارع محكوم بمكان وزمان...فهل الثورات كذلك؟ تحضني الإجابات الآن للإسراع بالقول: لا.. لا ليست كذلك. رابط المقال على الفيس بوك