قبله لم أتصوّر أنني سأرثي أحداً, كنت أؤمن أن رثاء موتى قضوا خارج ميادين البطولة هو محاولة لاصطناع نهاية ماجدة لكائن مات دون أن يقارب فكرة المجد وإن في حدودها الدنيا. وكنت لحظتها أيضاً مهجوساً برهان سيتضمّن أن الثورة تحمل لنا فقط كل ما يتصل بالغبطة والسرور, ثم حدث أن وجدتُ من قضوا خلالها أو من أجلها يستحقون الرثاء, كانوا خيرة شباب الوطن؛ ذلك أننا في أولى لمحات التمرُّد وجدناهم في قلب الميادين يهتفون بحماس غزير للوطن، والوطن لا سواه. في لحظة صنعتها أقدار المجد باحتراف شديد قرّر مازن البذيجي أن يثور, كان يشهد الوطن في آخر نزعاته ويراهن أن بالإمكان إنقاذه من سكراته, وكانت الوصفة تقتضي التجرُّد من المخاوف الخاملة والخروج للهتاف ضد فكرة قتل الوطن, وضد القاتل, وفعل مازن ذلك وهتف بحماس شديد, كان يدرك أنهم قتلة لكنه فعلها وهتف، هتف دون احتراس..!!. دعوا كل شيء ولا تنشغلوا بهواجس أخرى, قد لا يكون مازن مسيّساً بما فيه الكفاية لفهم أبعاد كل هذه الكوارث المتجلية, لا يعنينا تحديداً ما إذا كان مازن البذيجي قد وعى جيداً حالة الانسداد السياسي الذي وصل إليه البلد بتكاثف قبح وأنانية رجال السلطة حينها, مازن أيضاً كان لا يقرأ الجرائد. في اليمن تحديداً لا تحتاج لتصفُّح الجرائد ومتابعة ما يدور على الصعيد السياسي ليتشكّل عندك وعي عام بطبيعة الأوضاع, المخابز, الجولات, وسائل النقل, المطاحن، كل هذه أدوات لتشكيل هذا الوعي، أنت بوضعك المادي والنفسي أداة لتشكيل وعيك عن البلد وأوضاعه العامة. بالنظر إلى حماسة مازن التي قذفت به إلى قلب الاحتجاجات من اللحظة الأولى لاندلاعها يمكن النفاذ إلى أعماق الشهيد, وسيبدو لحظتها على حقيقته المدهشة قارئاً محترفاً لوضع البلد ومجمل الاحتمالات لمساراته القادمة. بإمكاننا الآن الحديث عن شهيد بملامح بطولية متكاملة، ولا أحد بالطبع سيمر على شريط الثورة اليمنية دون أن تستوقفه قصة شاب قروي دفعته الأحداث إلى قلب الثورة ثم نصب كأول شهيد لها, وارتقى لحجز مئات المقاعد لخالدين آخرين ألحقتهم به يد الغدر ذاتها, وجنازير الغدر والهمجية ذاتها. قبل سنوات طويلة كنا هنا وكانت الأحلام تتلاشى تباعاً، كان مازن طفلاً وديعاً في قرية اسمها «الزوق» إحدى قرى منطقة البذيجة في تعز, ويوم أصبح مازن شاباً كنا قد استنفدنا آخر ما تبقّى لنا من طاقة على الصبر, واستنفد الوطن آخر ركائز عافيته؛ قرّر الوطن أن يغضب؛ فشدّ مازن الخيار ذاته وذهب يحجز لنفسه مكاناً وسط اللهب. اندلعت الثورة, وكان مازن في القلب منها؛ لأسبوع كامل خاط بقدميه شوارع تعز كثائر مثقل بأحلام الخلاص، ثم حدث أن جرّدوه من أحلامه ودمه بعد أن لمح التمرُّد يجترح الميادين بعنفوان متكاثف. يوم غدروا بمازن؛ كان في ساحة الحرية بتعز, ظل يؤمّل بنهاية سعيدة لنهار جميل فاضت به الساحة بالناس لأول مرة، المشهد كان مهيباً، وكان الشهيد مشدوداً إلى مشهد غير مألوف, وحين انتهى الثوار من إحياء جمعة البداية؛ أتى ذكور القنابل ليطفئوا حمية الانشداد ويخمدوا لهيب روح لتوّها تجاوزت أحاسيسها الخاملة، وانتفضت مُعلية مفهوم الأحقية بحياة كريمة حرّة ومتجاوزة متوالية مكرورة من الإحباطات والشعور بالاغتراب والدونية. في 18 من فبراير أي بعد مرور أسبوع على اندلاع الثورة اغتالت أيادي النظام السابق الآثمة مازن بقنبلة ألقيت في وسط ثلّة من الثائرين؛ حصدت القنبلة روح مازن وخلّفت جرحى بالعشرات؛ يومها ارتقت روح مازن إلى بارئها, ومضى هؤلاء يرتكبون المذابح تلو المذابح، وبمرور الأيام تحوّلت تعز إلى مدينة أشباح، وشوارعها إلى أنهار دم. تمدّدت جثة مازن في قبره مُؤذنة بعهد جديد, نهاية سابقة لخّصت الصورة الوحشية الكاملة لمن خرجنا نثور عليهم، مات مازن ودلفت اليمن إلى الحياة, روح مازن كانت ثمناً لحياة 25 مليون مواطن ووطن..!!. [email protected]