تكمن العبرة الكبيرة في استعادة التاريخ في المعنى الشامل الذي يعكسه التاريخ على قاعدة إعادة إنتاجه، وتكريس مكره القديم، وعدم قدرة البشر على الاستذكار الذي يجنّبهم الويلات، ولنضع النقاط على الحروف سنختار محطة تاريخية فاصلة في تاريخ العرب والمسلمين، هي محطة سقوط الخلافة العباسية تحت جحافل الخيول المغولية في عام 1258م، وما انطوت عليه هذه الواقعة التراجيدية من مؤامرات وتحالفات وتكتيكات خائبة. يقول المؤرخون إن الوزير الأول للخليفة المستعصم ابن العلقمي لعب دوراً مشجعاً لمُناجزة المغول، مع عِلمه المُسبق باستحالة تلك المناجزة، وذلك عطفاً على التجييش الأفقي الشامل لجيش المغول الذي ضمّ في جوانبه خبرات صينية، ومشاركات فرنجية قادمة من انطاكيا، وأُخرى جورجية أرمينية، وصولاً إلى بعض الأتراك والفرس الذين وقعوا في محنة الخلافات المذهبية العقدية مع السائد الكلامي في بغداد المستعصم. هذا التحالف الأُفقي يتكرّر على مدى التاريخ، وسنرى أن بغداد المعاصرة تسقط في أيدي المغول الجدد، بإجازة دولية سافرة أو مُستترة، وسنرى أيضاً أن سياسات الوزير العلقمي، واستيهامات المذهبيين بطيوف ألوانهم لعبت دوراً مشجّعاً للغزو الجديد كما حدث مع الغزو القديم. المغول بقيادة هولاكو يحاصرون بغداد، ثم يوهمون الخليفة بمعاهدة تسليم واستلام سلميين، ثم يتراجعون عن وعودهم بمجرد تسليم مفتاح المدينة وموقع خزائنها المالية، وأخيراً يباشرون سحلاً دموياً للخليفة، بالترافق مع استباحة شاملة لبغداد، حتى إن خيول الغزو سارت على جسر من متون الكتب المرصوفة على نهر دجلة، فتحوَّل لون النهر مداداً قانياً بسبب الكميات الهائلة من كتب التدوين والفقه والعلوم؛ ذلك المشهد المُفجع ترافق مع الدماء التي سالت مدراراً، والتدمير الشامل الذي نال البنية التحتية لعاصمة الخلافة والعالم، والحرائق المشتعلة في كل مكان يرمز إلى مثابة تلك الحاضرة الرفيعة. لقد باشر المغول ومن معهم تدمير المساجد والقصور والمستشفيات، وأفرغوا بيت الحكمة من ملايين النصوص العلمية الفريدة، ليحوّلوها إلى جسر مشاة لعنجهية الخيول المنتصرة، وتفنّنوا في تدمير شبكات الري والصرف، بل كامل النظام الزراعي والمائي الخاص بالمدينة، وتوسّعوا في القتل وصولاً إلى الأقاليم المجاورة لبغداد؛ حتى إن بعض المؤرخين يتحدّثون عن مليوني قتيل في تلك المذبحة الكبيرة. لم يتوقَّف المغول عن تخوم بغداد، بل انتقلوا بكامل قوتهم إلى دمشق، ومنها إلى عين جالوت بفلسطين، حيث انتهت أسطورتهم بهزيمة جاءتهم من حيث لا يحتسبون. هذه الاستدعاءات الوامضة لما حدث منذ ألف عام تُعيدنا إلى المربع الذي بدأنا به الحديث، وتكشف لنا الأسباب الجوهرية وراء الهزائم، ومعنى العنجهية السلوكية المرتهنة للمُلك والسلطان المجرّد، وكيف أن مؤامرات القصور الرئاسية تمكّن العدو من تدمير الجميع حالما يفتقدون التضامن والتفاهم، فيما تضعنا أمام الوحشية العالمية المعاصرة التي لا تقل شراسة عن سابقاتها من حيث الجوهر، في إشارة متجدّدة إلى دهاء التاريخ ومكره. [email protected]