عندما نكون على حافة حزنٍ سحيقٍ، لا نحتاج إلى أكثر من زاوية نائية هادئة نطلق بها العنان لزفرات الخيبة والضجر، وحبذا لو كانت مظلمة حتى لا يرى الآخرون آمالنا وهي تنسلخ عنا راحلة تجرّ أذيال التعب. لا نستطيع لحظة الإحساس بالتعاسة، أن نميز حزناً صغيراً عن آخر كبير، فالخيبة التي تعترينا حينها قادرة على أن تملأ أرواحنا وعقولنا بالألم، حتى تقنعنا أنها الأسوأ، قد نحظى فيما بعد بمقارنة منطقية نشعر معها أننا في حالٍ أفضل مما كنا نعتقد، وأننا لم نواجه الأقسى بعد، عندما نرى الحياة وقد اختارت خيبات أشد ضراوة لآخرين من حولنا. فنشك إنها مازالت تحتفظ لنا بالكثير في صفحاتها القادمة. لا يمكننا في زوايا الهروب أن نعلّق صوراً لمناظر طبيعية، أو نضع أشجار زينة مثلاً، ففي مثل هذه الزوايا يكفينا فقط أن نغمض أعيننا، لتبدأ آلاف الصور والمناظر بالعرض التلقائي لتلك الأحداث المؤلمة التي ستعبث بمخيلتنا زمناً قد لا يكون قصيراً. كم نحن جديرون بألحان الفقد والحزن، ولعلها الشيء الوحيد الذي لن يضايقنا حضوره في عتمة الزوايا، بل إننا سنحتاجها كثيراً حتى نقسو على أنفسنا جراء ما اقترفنا بحقها، سنستمع لكلمات الأغاني التي استمعنا لها عشرات المرات، وكأننا نسمعها لأول مرة، سنمرر أحرفها حرفاً حرفاً، على جراحنا النازفة، وكما شربنا الحزن مرّاً بأفعالنا دون أن ندري، سنكون على استعداد لأن نشربه مجدداً وعمداً بمرارة مضاعفة مع ذلك الصوت الصادح بالألحان. الغريب أن مساحة تلك الزوايا، لا تزيد بازدياد حجم الجرح ولا تعمّق بعمق التجربة، أما ظلمتها فإنها تكتسبها، من ظلمة الإحباط الذي يسيطر علينا في تلك اللحظة. حياتنا محملة بجراح ونكسات شائكة وعظيمة، تماماً كخيبات شعوبنا العربية على مرّ التاريخ، تُرى هل توجد على سطح كوكبنا زاوية تستطيع أن تأوي شعباً جريحاً وتواريهِ، لينزف خيباته تحت جنح ظلامها الساتر؟! هل هناك زاوية واحدة تستطيع أن تتسع لتضم ملايين البشر إن توحّد جرحهم وامتزج أنينهم؟ بالتأكيد يوجد، لكننا لا نستطيع أن نقيس كل الزوايا بالمساحة، فالأمر مختلفٌ مع الشعوب المسحوقة قهراً، لأن مثل هذه الزوايا، جعلت للأحزان العابرة، وحزن الشعوب العربية تحديداً، كتراثها وقيمها وفنونها عريقاً تتوارثه الأجيال، لذلك كان لزاماً على زوايا الحزن أن تبادر بالبحث هي، وتسكن كل قلب، حتى تجعل الوطن بأسره زاوية مظلمة قادرة على احتواء شعب بخيباته مهما كنَّ جساماً. ويصبح الوطن زاوية إحباط كبيرة، بل كبيرة جداً، بحجم قلب أم.