كلما قلنا إن أمة العرب استفاقت من غفوتها الطويلة وبدأت تستوعب كل ما يجري من حولها وتنظر إلى واقعها المأساوي بعيون بصيرة وعقول مستبصرة؛ تسبر الأغوار وتتفحّص الخفايا وتقرأ المتغيّرات والأحداث بوعي وإدراك، وتترك القشور ولا تلقي بالاً للجزئيات, تهتم بالأمور العظام والقضايا الجوهرية التي تتعلّق بمصيرها وموقعها بين الشعوب والأمم, وأن أمتنا العربية لهول ما مرَّ بها من نكبات قد استفادت من تجاربها بما يعينها في حاضرها ويدفع بها نحو مستقبلٍ أفضل, وأنه من المحال أن تكرّر أخطاء الماضي أو تعيش أسيرة سلبياته, وبتنا على يقين أن الأمة العربية لن تقع في نفس الحفرة ألف مرّة ولن تُلدغ من جحر واحد مئات المرات؛ إلا أننا وجدناها على العكس. فرغم كل الهزّات والأعاصير التي تعصف بها وتوشك أن تقتلعها من جذورها؛ مازالت الأمة العربية في غفوتها أو بالأصح في سكرتها - إذا ما جاز لي التعبير - غير مدركة ما يُحاط بها من مؤامرات ولا إلى أي مصير تُساق. وتبقى الحقيقة الوحيدة أمامنا أنه كلما تقدّمت الشعوب الأخرى خطوة إلى الأمام؛ يتراجع العرب خطوات إلى الخلف, فنحن العرب وإن كنّا نعيش ظاهرياً في القرن الحادي والعشرين؛ إلا أن أفكارنا وعقولنا مازالت أسيرة القرون الماضية، ونصرُّ على اجترار الماضي بكل صراعاته، ونربط مصيرنا بما كان من أحداث وقضايا صنعها آباؤنا الأولون, ودون وعي منّا نخوض معارك قد حُسمت قبل مئات السنين، ونتبنّى قضايا لا وجود لها في واقعنا اليوم ولسنا طرفاً فيها ولا نعرف عنها إلا ما نقرأه من كتب أسلافنا؛ ومع ذلك نعتبرها من أهم القضايا؛ نؤجّج من أجلها الصراعات ونخوض في سبيلها المعارك, وبأيدينا نقسّم أمتنا الواحدة إلى فِرق ومذاهب وأحزاب..!!. وإن كنّا اليوم في القرن الحادي والعشرين؛ إلا أننا مازلنا لم نحسم قضية الخلاف بين سيدنا علي بن أبي طالب وسيدنا معاوية رضي الله عنهما, ولم نستطع بعد مغادرة «كربلاء» حتى الوحدة العربية التي كنّا نتغنّى بها ونعتبرها مصدر قوتنا وعزّتنا أسقطناها من أجندتنا ولم يعد التضامن العربي هدفاً يوحّدنا؛ لأننا ومع الأسف أخذنا بكل عوامل الفُرقة والشتات، وتركنا خلف ظهورنا كل مقوّمات الوحدة والقوة والتآلف والتعايش السلمي، ديننا واحد؛ لكن مذاهبنا متعدّدة، وطننا واحد؛ لكن دولنا كثيرة، هويّتنا واحدة؛ إلا أن أهواءنا لا حصر لها. من الصعب علينا أن نتفق حول مصلحة تجمعنا إلا أنه من السهل علينا أن نختلف إلى حد إراقة الدماء وإشعال الحروب مهما كان السبب تافهاً، نصالح أعداءنا وننسى كل جرائمهم؛ إلا أننا لا نتصالح مع أنفسنا، ولحل خلاف بسيط نحتاج إلى لجان ومؤتمرات ووساطات؛ إلا أننا لا نحتاج سوى إلى خطيب واحد في أبعد مسجد أو عالم دين في إحدى الفضائيات لنشعل نار الفتنة والحرب والدمار، فما أسرع العرب لداعي الشر والخراب، وما أبطأهم وأثقلهم لدعوة الخير والتسامح والتصالح. ولهذا فنحن أمّة لا خير فيها ولا أمل لها لتفيق من غفوتها وتعود إلى رشدها، وستبقى أسيرة أوهامها الزائفة وأحقادها وعداواتها اللا متناهية، فما نحن إلا أمة ضحكت من جهلها الأمم، وبقايا أمة كانت عظيمة..!!.