علينا أن نضع مسافة من الإدراك بين الظاهرة ونتائجها حتى نمتلك من وعي القراءة ما يذهب بنا نحو مستويات هي صاحبة القاعدة في تأسيس شكل التعامل مع ظاهرة الإسلام السياسي. لنا في مرجعيات التاريخ الإسلامي ما يقدم بانتساب تلك الأحداث إلى صراعات وأزمات أوجدت عقائد وفرقاً جعلت من مبدأ التناحر وسيلة لضرب الإسلام بالإسلام، فلم تكن تلك الأفكار والاجتهادات التي أفرزتها حالات الانشقاق في جوهر الحضارة الإسلامية، سوى إنتاج لفرض مشاريع وأهداف اتخذت من طابع العنف وإرهاب الجماعات طرقاً، فرض ما هو مغاير على واقع الحياة، فكان المقدس هو الرداء الخارجي لخلق مثل هذا التصارع، ولكن قضية إلغاء الآخر عبر طريق العنف سقطت كتجربة وبرهان في أكثر من منعطف في معظم الأزمنة، لأنها لم تلد من درجات الوعي الإنساني الذي نتج عن تسيد الحضارة الإسلامية الكبرى في التاريخ. ما يجري في الراهن لا ينفصل كقراءة فكرية وتاريخية عن تلك الأزمات، وأن يفرض الحاضر قراءات مغايرة لتلك الفرق أمام ظاهرة الإسلام السياسي في عالم اليوم. عندما نعود إلى مرجعيات هذا المشروع، نجد مسافات زمنية من الفراغ التاريخي تسعى هذه الرؤية إلى وضعها أمام العقل مما يوجد حالة قطع لطرح أهداف هذه الظاهرة على درجة من النقاش الذي لا يرجع إلى التاريخ في لحظات العجز أمام الواقع، بل كجزء من الذات والهوية فيه ما يجاوز اليوم، وفيه ما تصلبت شرايينه عند فترات وعيه. فالراهن لا ينسلخ عن الماضي، غير أنه لا يمكن أن يظل في وضعية اجترار ما تجاوزه الوعي الإنساني، فكل الاجتهادات تخرج من أطرها الزمنية وتنسب لها، وما يسحب من الماضي كي يطبع الحاضر بشكل بصماته لا يخرج سوى حالة من الضبابية في الرؤية، وهو ما يعاني منه اليوم مشروع الإسلام السياسي. كيف لمشروع يسعى لقيادة المجتمع، يجعل من العنف هدفه الأوحد في الاستحواذ على الواقع؟ ربما تكون إحدى العوامل في جوهر هذا المشروع قد ساعدت على إغلاق باب الاتصال مع الغير أو وضعه في مربع النفي الكامل، وجعل النظرة الأحادية الجانب هي مركز السيطرة على العقل، هذا يقود إلى مزيد من الرغبة في تدمير ذلك الاتجاه حتى وإن كان الوطن والشعب أو أية علاقة بين الفرد والحياة. فالجريمة هنا ليست عند مستوى من حدود الرفض، بل أخذ حق تاريخي يجب أن يعود إلى دائرة مشروعيته المبعد عنها بسبب شكل الحكم الخارجي عن إطار المقدس. وطالما ظل المجتمع يتبع هذه الخاصية في أمور حكمه، يصبح الإرهاب والعنف أفضل السبل لكسره، ذلك ما يدفع بجماعات الإسلام السياسي إلى توسيع مساحات النار والدم مع المجتمعات، ولكنها بفعلها هذا تدخل في إطار المأزق السياسي والفكري لها، فهي لا تمتلك القدرة على الخروج من دائرة الموت. هذا الفعل يدل على أنها فقدت مقدرة الحوار مع الغير، ولا تضع من وسيط بينها وبين العامة سوى السلاح، وهو وقود احتراق، لا يعرف معنى للتسامح مع الغير، وفي هذا ما يوجد رغبات من الحقد وتصفية الحسابات مع هذه الجماعات من قبل الناس، لأن عقيدة الدم، والقتل تخرج الرحمة من القلوب وتحول الضمائر إلى إرادة متصلبة تجاه أفعال مثل هذه. هذا النوع من الانفلات في الوعي، لا يحدث إلا عندما تغفو الشعوب عن جوهر عقائدها وأخلاقها، وتعاني من اغتراب عن أسس مقدساتها، فيكون التسلل من خلف العقل إلى زوايا في كيان الفرد تعاني من ظلمة الجهل بحقائق الأشياء. والشعوب الإسلامية هي أكثر من يعاني من الابتعاد عن عمق تاريخها العظيم، وهذه الفجوة بين الانتماء والذات غيبت الفكر عن منازلة مشروع الإسلام السياسي عند الكثير من الناس، وأدخل حق الحوار في أزمة القبول المطلق، وهو ما أنتج تكسرات في جوهر هذا المشروع، حروب مع المجتمع تحت راية المقدس، دون إعطاء الآخر حق التحاور، وهو المأزق الذي دخلت فيه جماعات الإسلام السياسي في عدة دول تحولت ساحاتها إلى صراعات لهذه الأطراف، فهي تمر في أزمة استنزاف ذاتها إلى حد تدمير ما بقي من المجتمع، ومن خلال هذه النظرة نعرف أن هذه التناحر يحمل أسباب هزيمته في داخله، وهذا خاصية تقع بها كل الأهداف والصراعات التي قامت على قاعدة الاستحواذ على الحق المطلق في الوصول إلى السلطة، ربما يختلف مشروع الإسلام السياسي عن تجارب سياسية أخرى عانت منها المنطقة، ولكن الهدف هو إلغاء الآخر. هذا يدل على أن عقليات هذه الجماعات لم تخرج من دائرة أزمة المشروع السياسي العربي في كل اتجاهاته السابقة، حتى وإن كان المقدس هو الواجهة في إعلان الحرب على المجتمع، غير أن النتائج تظل واحدة مع غياب أي حلول لمشاكل العامة لأن العنف من حالات العجز في العمل السياسي فهو قوة تدميرية فاقدة لفعل البناء، ومن هنا نجد أن المجتمعات التي دخلت في هذا المنزلق الدموي تحطم فيها أهم شيء في العلاقة بين الفرد والمجتمع، حق الحياة وهو ما يولد عنده الشعور باليأس والرغبة في القتل والتدمير، وهو ما يزرع في النفس حب الانتقام وجعل الإرهاب قاعدة في الوجدان لأن سبل التواصل مع العالم مزقت ولم تبق من الصور سوى مساحات الدم والموت في ذاكرة التاريخ، وقد قدمت الحروب التي سخرت فيها الأديان والمذاهب لخدمة الأغراض السياسية أبشع الملامح لموت الإنسان. عند نظرة لقراءات فكرية لظاهرة مثل هذه نكتشف تشققات في جوهر تكوينها وأكثر من تصدع بضرب عمق بنيتها لذلك لا تقف على أرضية مستقرة بل هي تعاني من الاهتزاز الروحي والاضطراب النفسي مما يجعل حالة عدم الاتزان الجانب المسيطر على الأفكار من هذا النوع. لأن مساحات الدم المتصلة مع غليان مواجهة الغير تربك أية محاولة لضبط ميزان حسابات السياسة في هذا الجانب فهذا العنف المتصاعد يدخل تصورات النهاية الحاسمة لصالح جماعات الإسلام السياسي في دوامة التناحر مع أكثر من اتجاه وهذا يقود وضعية العنف إلى الدخول في صراع مع أكثر من جبهة على نفس الأرضية وفي حروب مثل هذه يدخل الاستنزاف في كيان التركيبة التي تراهن على نجاحها النهائي لأن دورة العنف تفقد الطرف المندفع مقدرة النظرة في أكثر من زاوية بل تغييب رؤية السياسة كقبة تتداخل فيها مصالح وأهداف وتناحرات لا يمتلك طرف واحد قدرة إدارتها حسب ما يخدم أغراضه. ذلك ما يدخل جماعات الإسلام السياسي في فراغ الرؤية تجاه الآخر لأن التعامل في الصراع السياسي من منطلق ذاتية النزعة يرتد على معتنقه في حصر إمكانياته عند حالة من فقدان الوصول إلى مستوى من الإدراك والتفكير في التعامل مع أطراف لا يمكن إسقاطها أو تجاوزها في هذا الجانب. عند الجانب الآخر تكون حساسية الرفض واستعداد الدخول في المواجهة قد أرست لها بنية في نفسية المجتمع، طالما هذا الداخل إليه عبر خط العنف وهدم مشروعيته تصبح فرضية التصدي لهذا الغير مرغوب فيه رسالة من حق المنتمين لأدبيات المجتمع المدني الحد من توسعها ودفع الناس نحو يقظة من غفوة ربما تذهب بهم إلى منحدر من الاحتراق. تفقد هذه الظاهرة قوة تأصيلها في الحياة لأنها درجة من درجات الفصل بين الحقيقة والتخيل أن يصنع العقل عبر اجتهاداته صورة لواقع يجب أن يفرض على الغير عبر الإرهاب وقوة القهر وجعلها مبدأ لقيادة أمة ونفي علاقات وحقائق تدخل في إطار حركة التاريخ وقوانين الحضارة، والاعتراف بمن يختلف معك، وهذا هو أحد الركائز التي قامت عليها علاقات البشر عبر قرون، وعندما سعت بعض العقليات لفرض مسار محدد على الأمم، وجدت نفسها هي في وضعية النفي إلى أبعد حدود المأزق الذي لا يخرج من حصار محنته، فالقطب الواحد لا يرسم جغرافية الكيانات البشرية التي عليها التقارب والتجانس مع كل فئة لذلك نلحظ القصور في وجهة الإسلام السياسي عند تحويل الفكرة إلى عمل، ذلك يدل على عدم مراجعة تصورات العقل مع حسابات الممكن، وليس كل ما يرسمه العقل من اجتهادات يمكن بها أن تتحول إلى قدرة سحرية تقلب موازين الأمور لمجرد أنها صاحبة الحق المطلق في تخيلها نحو هذا المكان وعليها تقع عملية تدمير ما ترفضه وفرض ما ترى أنه الواجب الكامل الذي يقدس حتى لو جاء قاتلاً ومدمراً لكيان أمة، ذلك هو الخندق الفاصل بين هذه العقائد والحياة. من يذهب به الفكر نحو دراسة هذه الظاهرة سوف يجد أنها وليدة أزمات متعددة عانت منها المجتمعات الإسلامية، ولكن هذا يجعلنا نعرف أنها ليست هي الحل، فهي لم توجد المعالجات والحلول للمشاكل العامة عبر تنفيذ الفعل، بل ذهبت بالناس إلى حالة التقوقع النفسي وتسويق نوعيات من التغييب عن جوهر الأزمة، وأن قتال هذا المجتمع هو من سوف يعيد الصلة بين المقدس والنفس، وهذا القفز على حقائق الأشياء حول مشروعها في استعادة الحق التاريخي في قيادة الأمة إلى مسألة تصارع من أجل الوصول إلى السلطة، وكأن الغاية من مساعيها إيجاد كيان سياسي لا يخرج في جوهره عن ممارسات سلطات حكمت تحت شعارات مغايرة لكنها جعلت من كرسي الحكم، المقدس الذي لا يجوز التخلي عنه، هذا ما يدخل مشروع الإسلام السياسي في دائرة صراع الأفكار والمذاهب التي مرت بها الدول الإسلامية عبر عقود، ومن هنا تصبح مسألة تأصيل الظاهرة في كيان المجتمع من أصعب القضايا في الجانب التاريخي والكيان السياسي.