كانت ليلة صيفية ممطرة متوشحة بالسواد وأصوات لطير العقاب ووشوشات الزرع في المدرجات والشعاب.. كان بيتنا الذي تحيط به مدرجاتنا الخاصة على سفح الجبل وحده هو اقرب إلى «حيد» «الطاهش» وكهوف السباع وكانت أمي هي قائدة الدار والمزارع.. كان أبي -رحمهما الله جميعاً - مغترباً في جيبوتي معظم الوقت.. في تلك الليلة كان موجوداً, لا أذكر متى جاء إلينا.. بعد العشاء كنت أنا وأمي في الشِعب وبالذات في «رجحة» الهند وهي الأفضل, كانت أمي كعادتها لا تبيت إلا عند ما تتأكد من أن «الرباح» قد انصرفوا.. يعجبها أن تتجول في المزارع كقائد عسكري يؤمن جنوده. فجأة ارتطم كاشف الضوء «الاتريك» الذي بيد أمي بعيني «الطاهش»، كانت هناك فكرة أن الطاهش يتسمر بالضوء ولذلك ظلت «أمي» ممسكة بالضوء تجاه عيني «الوحش».. كنت بجانبها طفلاً يريد أن يمثل دور الرجل الشجاع لكنني فعلاً لم أخف لأنني كنت بجانب أمي وأشعر أنها قوة الدنيا وحضن الأمان والتي لم أر منها خوفاً بل أخذت تقول لي بثقة موجهة لي أمر القائد الأعلى: يا الله لا «تفتجعش» أنت رجال اجري ادعي لأبوك وأني شاجلس أوقف الضوء على عين الطاهش حتى ترجعوا! كانت تعتقد لو أفلتت الضوء ربما يفترسنا.. مهمة صعبة لأول مرة شعرت بأهمية استثنائية ولم أتردد.. انطلقت كالصاروخ لأنادي أبي بكلمات يفهم منها أن أمي والطاهش في الشِعب.. ورجعت مباشرة. كنت جندياً نبيلاً ولا أدري كيف حدث ذلك.. لحظات وأنا بجانب أمي الصامدة وبقيت ممتناً من نفسي من هذا الموقف.. كان «السبع» مازال محملقاً بعينيه الملتهبتين تجاه الضوء.. حضر أبي على الفور وانقطع شريط الذكريات، لم أذكر التفاصيل بعدها، لكنني فهمت أن أبي وأمي كانا يقولان لي بأني «حنك», الكلمة أعجبتني كثيراً ومن حينها حاولت أن أكون «حنك» منطلقاً من هذا المشهد الرهيب الذي سجلته الذاكرة جيداً كما سجلت لحظات وصوراً سريعة للشعب و«المردع» والطاهش, أمي وأبي حتى النسيم في تلك الليلة مازلت أشعر بهبوبه, والانتصار الذي حققته الأسرة كاملة على «الطاهش» الذي بقي يحوم حول بيتنا مدة طويلة. لقد كان بيتنا ومزارعنا الواسعة كأنها «قارة» لحالها، كنا نكتفي ذاتياً، كل شيء تقريباً الحبوب الماء من «البير» الخاص بنا و«مقالد» الصيف ,الحطب ,الدجاج ,الكسب والغنم الحليب والبقرة والحمار.. مملكة متكاملة مكتفية ذاتياً لا تخاف من انقطاع الدقيق ولا الغاز ولا الكهرباء ولا الوقود ولا الماء، كل ماكان يشغل أمي هو «المطر».. إذا جاء حُلت كل المشاكل ومن المطر والأرض يأتي كل خيرنا بيدنا, مملكة متكاملة كنت اتحرك فيها بحب وحرية وأمان واكتفاء ذاتي. وحده كان بيتنا على طريق «السباع» في جبل «الراهش» الجبل الأسود المشترك بين عزلتي الكلائبة والجبزية في مديرية المعافر وهو الوحيد الخالي من السكان والصعب والأكبر, في قمته حصن كبير اسمه «حصن الكافر» وآثار لحياة وملك وسدود مازالت آثارها حتى الآن.. الجبل اسمه في التاريخ «برك الغماد» كما ورد في كتب التاريخ ومعجم البلدان وهو الجبل الذي ذكر في حضرة الرسول عليه الصلاة والسلام، قالوا في صفته بأنه جبل أسود طويل يطل على «السواء» وهو وصف لا ينطبق إلا على جبل الراهش، مع أن الإخوة في منطقة السواء يطلقون على جبل عندهم هذا الاسم «برج الغماد» وهو يخالف الوصف التاريخي، وأنا هنا أدعو المهتمين بالآثار إلى صعوده والاطلاع على ما تبقى قبل أن تمحى، مع العلم أن الجبل صعب و«عسر» جداً ولا تسكنه إلا «القرود» و«الضباع» ويختلف عن كل الجبال المحيطة.. كانت «النمور» «والذئاب» و«الظباء» تسكنه إلى منتصف القرن الماضي والغريب أن أحد الإخوة أكد لي أن «ذئباً» قد ظهر هذا العام في الجبل وأصبح يطارد الغنم واصطاد بعضها وهي إشارة غريبة ربما لدورة جديدة للزمان. [email protected]