يقال إن الهروب إلى الطبيعة سمة من سمات شعراء الرومانسية؛ لكنني الآن لا أعتقد أنها من سمات شعراء الرومانسية بقدر ما هي حاجة لشعب مصدوم من تتالي الصراعات، يريد أن يأوي إلى وادٍِ ذي زرع يشعره أن في الحياة شيئاً جميلاً ترتاح له عيناه وتستكين له نفسه وينبض به قلبه بعيداً عن آثار الصراعات التي تبكي القلوب قبل العيون. هناك حيث المطر لا يتوقف عن الهطول، والجهيش يخضّر في أطراف الحقول أنخت قافلة الحزن لتستكين نفسي الملغومة بالألم على وطن تسكنه الحيرة والأنين، هناك فقط أغلقت شاشة التلفاز، وعدت إلى حياة يومها يبدأ بصوت العصافير ويُختم بصوت المطر. ما أحوجنا أن نعيش مع أنفسنا ومن نحب في هذه الدنيا في أجواء هادئة بعيدة عن أصوات البنادق، بعيدة عن كيل التهم، وتحالفات السياسة، بعيدة عن أطماع هادمة مصيرها إلى الزوال. هناك نجد وقتاً لزيارة الأحياء وتبادل المحبّة، وامتداد الأيدي بالمصافحة والسلام، هناك نجد وقتاً لنزور سكّان المقابر لنقول لهم: «سلام عليكم، أنتم السابقون ونحن بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية» ونقرأ الفاتحة على أرواحهم النقية التي غادرت الحياة بأمر ربها دون أن تتدخّل الصراعات البشرية في الحياة والموت. هناك تموسق حياتنا الرغبة الحقيقية في العبادة واللهو على حدٍ سواء، ولا خيارات إلا الفرح أو الفرح. لكنها أيام سرعان ما تنقضي لنعود إلى وهم الحياة المدجّج بالمدنية الجديدة، ووحشيتها التي تذكّرني بسطور الشاعر البياتي: والعائدون من المدينة: “يالها وحشاً ضرير ”. تلك هي الحياة عندما تزهو بالحب تخضّر أوراقها، وعندما تخبو بالكراهية والأنا المتسلّطة تذبل فيها كل معالم الحيوية وتصير إلى رماد قبل الأوان. ما أجمل أن نسقي ورد الحياة مع بعضنا لتصبح يمننا شذا المحبّة والإخاء، وما أقبح أن نقتل الورد فتصبح بلدنا نهراً من دماء لا نخسر فيه إلا أحبّتنا وإخوتنا ويمننا. [email protected]