يقولون دوماً للعظة, من الإفراط في أي شيء, «ما زاد عن حده انقلب إلى ضده», ولربما هي الأمور كذلك معنا اليوم فيما يتعلق بالحوار, فمنذ أربعة أعوام والنخبة لدينا مستمرة في حوار, نملّ من أخباره, ونكل, ونبتعد عن كل ما يتعلق به لنعود ونتفاجأ بأنهم مازالوا في حوار مستمر, ومستمر.. لم تكن هذه الأربع السنوات هي أول تجربة لنا في الحوار, فمنذ عهد صالح وتقريباً منذ تسعينيات القرن, لم تخل كل خطابات الرجل من كلمة حوار, ولعل أشد عباراته ثباتاً في الذاكرة هي جملة (تعالوا تحاوروا), الجملة تلك التي صدع بها أدمغتنا ولمدة طويلة, وكالعادة كان واقع حوار صالح غير تلك التي نراها على شاشات التلفزة, ولعل أبشع واقعها كارثة حرب 94, حتى حين خرج الشارع اليمني ثائراً في فبراير 2011م على حوار المكر, والمصلحة, والفساد, وانتفض الشعب على حوار صالح الأحادي, والصوري العابث مع نخبته المصطنعة التي أسماها (معارضة), هرعت صنيعته التي كان قد أسسها إبان الوحدة, وأطلق عليها في مسرحية انتخابات 2006م الرئاسية تجمع أحزاب المشترك للحوار, وتركت براءة الاختراع تلك التي عدها البعض لوقت تجربة فريدة من نوعها, قوة الثورة, والشارع, وسلمت لحوار كان برعاية إقليمية ودولية, خرج لنا باسم (مبادرة). انتهت المبادرة ببقاء صالح, ومرت الأيام ووصلنا لآخر فصول العبث للمبادرة تلك, والذي حاولنا معه التفاؤل لكن دون جدوى, وكان (الحوار الوطني) الذي دام طويلاً حتى أصبح محل التندر, وظننا بعده أننا على الأقل سندخل به موسوعة غينيس للأرقام, كأطول حوار, انتهى وتنفسنا بعده الصعداء على أمل أن خيراً سيأتي من أروقة الحوار, لكن ذلك لم يحدث أيضاً, كون متحاورو موفنبيك كانوا صباحاً وراء الطاولة, ومساءً وراء (المتارس), وظهرت اللجان, وتلتها اللجان التي لم نعد نعرف حتى أسماءها, ومهامها, غير أن ما ثبت في الذاكرة منها لجنة مراقبة الحوار, وتنفيذ مخرجاته التي ظلت هي أيضاً مجرد حبر على ورق, لم يسدد حتى نفقة طباعة كل الكتيبات التعريفية بمخرجاته. كان حوار موفنبيك, إعجازاً لوحده، فلغة الحوار هناك لم تتجاوز حتى أسوار الفندق وخارجه والواقع كان مغايراً جداً, إذ هناك لغة أخرى تتحاور, وتفرض أمرها كواقع ينبغي للبقية الاجتماع فقط لشرعنته, لغة أثبتت أنها اللغة الأقوى, اللغة التي أسقطت المدن تلو الأخرى, دون أن تحرك لها دولة المبادرة ساكناً, وأمسى المتحاورون القدامى الجدد, أمام واقع القوة الذي راق لهم أن يسموه لحفظ ماء وجوههم (اتفاق سلم وشراكة). ظل السلم, والشراكة الصوري, هو أيضاً على الورق, ولم تتوقف لغة الرصاص, واستمر الحوار, وبدأ المتحاورون حواراً جديداً, وبرعاية تزييف الحقائق خارج حدود طاولة الحوارات, مرة أخرى, وهذه المرة وبضوء أخضر إقليمي, ودولي سيطلقون عليه (مجلس رئاسي), وكعادتنا سيستمر حوار البنادق إلى ما لانهاية. *همسة.. الحقيقة المخزية هي أن لنا نخبة مسخت كل معنى من معاني الحوار, ونسفت قيمته الحضارية, والأخلاقية, وأصابته في مقتل لآلاف السنين, حتى أننا مستقبلاً سنصبح أمثولة للتخويف من الحوار...