بعد عودته من غربة طويلة خارج الوطن الغالي هو وأسرته ، ساقته الأقدار دون موعد مسبق إلى مبنى إحدى كبريات الجامعات الوطنية دار طلب العلم وجني الفوائد .. وكان هدفه السعي للحصول على موافقة رئيس الجامعة على قبول أحد أبنائه للدراسة بإحدى الكليات وفق النظام السائد .. وعلى باب الرئيس فوجئ بمشهد لا يراه الناس إلا عند توزيع الصدقات على أبواب المساجد .. فقد رأى عدداً من أعضاء هيئة التدريس ومن طلاب العلم يتجمعون أمام باب المكتب المنيع الذي يقف أمامه المسلحون من حراس سعادة رئيس الجامعة الماجد .. إضافة إلى عدد آخر من المواطنين وأولياء أمور الطلاب الواقفين على البوابة ممن لهم حاجة تتعلق بشؤون أبنائهم أو إخوانهم لدى صاحب السيادة الزاهد .. والجميع ينتظرون تكرم مدير مكتب الرئيس بالظهور عليهم ، فهو محتجب داخل المكتب العامر لأمور لا يعلمها إلا ذوي المناصب والمكائد .. وعندما يطل بطلعته للحظات يتسابق جميع المغلوبين على أمرهم من أعضاء هيئة التدريس والطلاب والموظفين على الحديث معه وملاطفته لطلب الإذن لهم بمقابلة رئيس الجامعة حسب الأصول والقواعد .. وهيهات أن يحدث ذلك بأيسر الطرق ، فرأى المغترب أن الانصراف أكرم له بعد أن شعر باليأس والاكتئاب جراء ما شاهد من معاناة وامتهان لذلك الجمع الحاشد .. وظل يفكر في الأمر دون أمل لكنه أمام إلحاح ولده وافق على مضض أن يقوم بزيارة أخرى إلى مبنى الجامعة فربما أن ما شاهده في الزيارة السابقة كان حدثٌاً عارضاً وكل شئ وارد .. وهكذا اصطحب ولده واتجه صوب المكتب المنيع الذي يقطن به رئيس الجامعة ، وانتظرا على الباب حتى ظهر مدير مكتب الرئيس في لحظة كانت بالنسبة لهما لحظة رضاً وقبول من الخالق العظيم المساعد .. وعندها طلبا من المدير طلب الإذن لهما بمقابلة الرئيس فاعتذر بحجة أن لدى سيادته اجتماعاً مغلقاً ، ولن يتم مقابلته إلا بموعد مسبق ، ثم طلب تسجيل الأسماء ورقم التلفون وبيانات تفصيلية عن سبب الزيارة لتحديد الموعد .. وظل المغترب العائد ينتظر لأيام على أحر من الجمر لحلول الموعد المنتظر ، وكان الحظ العاثر حليفه المعاند .. فتوجه بلهفة إلى مبنى الجامعة للمرة الثالثة في محاولة أخيرة لمقابلة الرئيس الشارد .. فوجد جمعاً غفيراً من طلاب الجامعة وأعضاء هيئة التدريس يتجمهرون أمام باب مكتب الرئيس وحولهم عدد من الحراس المدججين بالسلاح من رجال أمن الجامعة ، والجميع يصرخون كأنهم في سوق (الحراج) ، وصاحب الحل والعقد غير عابئ بما يحدث حول مكتبه الموصد .. وكان هذا المشهد الأخير الذي قضى على آخر أمل لدى المغترب بتحقيق اللقاء المبارك ، وتلك مشيئة الله القدير الواحد . فعاد أدراجه بخيبة أمله وحزنه العميق ملتجئاً إلى الخالق الجبار خير شاهد .. وأمام تلك المشاهد الميلودرامية نسي الموضوع الذي جاء من أجله وفقد آماله العريضة وحماسه الزائد .. فقد كان قبل عودته إلى الوطن العزيز يشعر هو وأفراد أسرته بشوق كبير لتقبيل ترابه الطاهر ، وكان يحلم بأنه سيُستقبل بالأحضان والترحيب الحار في كل شبر من بلده بعد غياب طويل جنى فيه مع أسرته السبع فوائد .. لكنه صدم بكل ما شاهده وواجهه من إحباطات وعراقيل لمجرد أنه يحاول المطالبة بحق ولده في التعليم في وطنه ، فما مصير هذا الشاب وأمثاله الذين يسعون لطلب العلم في بلدهم في بعض التخصصات النادرة المتميزة وغيرهم من الشباب المجتهد المجاهد ..؟! وما موقف ذوي الشأن بتلك الجامعة الوطنية والمعنيين بالتعليم العالي أمام هذه المشاهد ..؟! تلك صورة حية لما يحدث لبعض الشباب الذين لا يملكون لا فيتامين ( راء ) ولا فيتامين ( واو ) بمعنى أنه لا إمكانية لهم ولا مُساند .. فكان الله في عونهم وعون أسرهم ، وجنبهم شرور وإحباطات المتكبرين والمبتزين والمنافقين الأقارب والأباعد .. الجاثمين كالكابوس على هذه المنابر العلمية .. وتلك هي القضية . [email protected]