يُروى أن معاوية بن أبي سفيان قال لعمرو بن العاص : ما بلغ من دهائك يا عمرو؟ فقال عمرو: لم أدخل في أمرٍ قط فكرهته إلا خرجت منه. فقال معاوية: لكنّي لم أدخل في أمرٍ قط أردت الخروج منه? وهنا تتضح أهمية العقل في إحسان التصرف، وحساب عواقب الأمور قبل وقوعها. لم يكن عمرو بن العاص غبياً ، كان أحد دهاة العرب، لكن التجارب والرؤى لها أهمية في تجنب الكوارث. كان عمرو يستطيع الخروج من أي مأزق يقع فيه، وهذا الأمر ليس سهلاً، ولا يمكن لأي إنسان أن يفعل ذلك. الدرس الذي ينبغي الاستفادة منه هو ألا تدخل في أمرٍ ما لم تحسب حساباته جيداً حتى لا تأتي اللحظة التي تجد فيها نفسك في مأزق قد لا تسعفك الحِيل للخروج منه ولا تنفعك فيه القوة والعنف، ولذلك يُقال: ليس العاقل الذي يحتال للأمر إذا وقع، ولكنه الذي يحتال للأمر ألا يقع. ويقال: كل شيء يحتاج إلى العقل، والعقل يحتاج إلى التجارب. اليوم لا قدرات عمرو بن العاص للخروج من الأزمات والورطات ، ولا حسابات معاوية في عدم الدخول في مثل هكذا أمور، ثمة سياسة يغلب عليها العناد ، وتغلب عليها الأهواء، ولذلك يتعاظم المأزق العام، ومع الأيام سيستعصي على كل القدرات والحسابات. والنتيجة ليست متعلقة بالذين دفعوا بالأوضاع نحو هذا المأزق، لكنها متعلقة بمصير بلد وشعب. الثمن لن يدفعه فرد أو جماعة بمفردهم، بل سيدفعه كل سكان هذه الجغرافيا الممتدة من صعدة شمالاً إلى خليج عدن جنوباً، ومن البحر الأحمر غرباً إلى حدود سلطنة عمان شرقاً، ولن يتوقف هذا الثمن عند سكان هذه الجغرافيا في الوقت الراهن، لكنه سوف يطال الأجيال القادمة التي سوف تجد نفسها مكرهة على دفع ثمن أخطاء السابقين وخطاياهم الناجمة عن تعطيل العقل واتباع النزوات والهوى. يستطيع الفرد أو الحزب أو الجماعة صناعة مشكلة والتأسيس لورطة عامة، ولكن ليس من المؤكد أنهم يستطيعون صناعة المخرج المناسب والآمن، والعملية كلها مرتبطة بالعقل الذي يُفترض أنه يهدي أصحابه إلى التفكير بعواقب الأمور قبل الدخول في أي مغامرة تدفع بالبلد والناس إلى أتون المجهول.. هذا البلد ليس حكراً على أحد، ولا هو ملكية خاصة حتى يدفع به البعض إلى المجهول فيما البقية ينظرون وينتظرون. كل ما على هذه الجغرافيا هو ملك لكل الناس فيها، وكلهم شركاء فيه، فلماذا تُترك الأمور لتسير وفقاً لحسابات من لا يدرك عواقب ما يفعل. أسوأ أنواع السياسة هو أن يصنع أحدهم مشكلة أو أزمة ثم يصرخ بأعلى صوته طالباً تدخل الجميع لتقديم الحلول.. ولأن الثمن يتم قسمته على المجموع فلا بأس من مشاركة الجميع في وضع الحلول حتى لا تعم الكارثة، ولكن يجب ألّا تتكرر هذه السياسة الغبية التي تجيد صناعة الكوارث والمآسي. [email protected]