وأنا في الصف الرابع الابتدائي تقريباً أتذكّر أن مدرس اللغة العربية كتب على السبورة عبارة: الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك. تخيّلت سيفاً يجزّ الأعناق. تخيّلت الضحية بصورة رجل في قريتنا، ورأيت السيف يهوي على رقبته. كان رجلاً طيباً في الحقيقة، وله من صفات الخير الكثير. كنتُ أسمعه كل يوم في الصباح وهو ذاهب إلى أرضه ليقوم بعمل ما خصوصاً في مواسم الزراعة.. كان صوته أول أصوات البشر القادمة قبل شروق الشمس.. وثمة مهاجل تناسب تلك اللحظات الصباحية الساحرة كان يرددها بطريقته، وقد عُرف أنه من أكثر اُناس تلك الأيام حرصاً على فلاحة الأرض واستغلال الأوقات من وقت السحر إلى غروب الشمس عملاً يبني المدرجات على صدور الجبال وبطون الأودية ويزرعها، ويحميها من ظروف التعرية الطبيعية. كتب المدرس العبارة وانشغل لدقائق مع زميل له خارج الفصل، وتركنا نفسّر ما كتب على طريقتنا وبقدر فهمنا للكلمات والحياة عموماً. عاد المدرّس ليشرح لنا درس الوقت، وارتباط السيف به. المهم إنه بشرحه أزاح رقبة الرجل الطيب من تحت السيف في مخيّلتي ولو مؤقتاً. منذ ذلك الحين كلّما قرأت هذه العبارة أو سمعتها تعود بي الذاكرة إلى لحظات الدرس وأجواء المرحلة وارتباط الوقت بالسيف والعمل، وخطورة ترك الوقت يمضي بلا فائدة لأنه سيتحول إلى سيف قاطع. لم تزل عبارة الوقت والسيف حاضرة في وعي المجتمع، غير أن العمل بها في مجتمعاتنا صار صفراً يأكل كل الأيام والأعوام، ويقضي على منجزات الجيل الأول. المدرجات اندثر الكثير منها ولم تجد من يعيده.. وتصحّرت الأرض والنفوس قبلها وذهبت كل الجهود نحو ما لا يبني ولا يزرع ولا يصنع، ولا يحل مشكلة، ولا ينظر إلى مصالح البلد والناس، وإلى المستقبل الذي يمكن أن يطاله سيف الوقت ويجتزه ونحن ننظر بعيون العجز. الوقت صار سيفاً وبندقية ومدفعية وقذائف من كل نوع تهدّد حاضر ومستقبل الناس ما لم يتم استغلاله لدرء الفتن وحل الأزمات.. الأيام تمضي والأوضاع تراوح مكانها عدا الكثير من الكلام والتصريحات هنا وهناك، والمشكلات لا تُحل بهذه الصورة.. مع مرور الوقت يصبح العابرُ مُزمناً، وتتعقد الأوضاع وتتجه نحو الاختناق.. سيقطع سيف الوقت كل شيء، ويقطّع كل شيء، وتولد مشكلات لم تكن في الحسبان.. الوقت صار أخطر من السيف، صارت له أسلحة حديثة، ودخلت على خط الزمن السياسة، ولعل أخطر ما حدث وما يحدث الآن يجري من خلال استغلال الوقت، وعلى كل فرقاء العمل السياسي والمختلفين والمتحالفين في ملعب السياسة والأحداث أن يدركوا أن هناك من يعمل على إضاعة الوقت من باب البحث عن الحلول وتقريب وجهات النظر ليستفيد من ضياع الوقت على النحو المُكلّف به، فيعمل على إطالة عمر الأزمة وزيادة تعقيداتها إفساحاً لسيف الوقت ليقطعنا ويقسّم الأرض والإنسان إلى أجزاء متناحرة. هذا الوضع الذي يمضي فيه الوقت هدراً فيما الأزمات تستشري ومع الأيام تأخذ أبعاداً اُخرى متشعّبة ومعقّدة، ربما ينجم عنه ما يستعصي على الحلول، وسيأتي من يقول لنا أو نقول لأنفسنا لقد فات الأوان، هناك سيكون سيف الوقت قد اجتز رقابنا جميعاً، وأطلق علينا كل أسلحته القاتلة. [email protected]