المتأمل في حال الأوطان العربية بعد الثورات العارمة التي عبرتها كموجة تسونامي مدمرة يرى أن أمراً خفياً يقف خلف تلك الثورات، وأن هذا الأمر لا يمكن قياسه عبر وصف وتحليل وبحث آني أو ممنهج وعبر ذاكرة إنسانية محدودة الأفق، وإنما يتطلب الأمر وجود قوة عظيمة وشاملة ليكون تسلسل الأحداث كما بدأ وكما يتم اليوم، لهذا من المعقول والمنطقي جداً أن نقول بأن ما حدث من انشقاق كبير في وحدة الصف العربي والإسلامي اليوم لا يمكن إلا أن تقف خلفه مشيئة إلهية عظيمة أرادت أن يكون فكان، ولحكمة إلهية أيضاً لا يعلمها إلا الله وحده. فهذا النسق التسلسلي الذي تسير عليه أحداث المنطقة وتلك العلاقات المتطرفة وغير المتطرفة التي تبقى على ارتباط وثيق بالوسط التكتيكي لتلك الأحداث رغم ابتعادها عن المركز بالإضافة إلى نشوء الكثير من الجماعات ذات التوجهات المناهضة أو المساندة لسياسات المركز رغم عدم الاقتناع الكامل بجوهر تلك السياسات.. كل ذلك لا يمكن أن يصنعه أو يخطط له عقل إنساني محدود القدرات ومحجم التوقعات. إنها المرحلة التاريخية الصعبة من عمر الإنسان أينما كان، فقد آن الأوان لانهيار تلك الحضارات المعاصرة كما انهارت قبلها حضارات كثيرة قامت في مجتمعات مختلفة هنا وهناك وكان الفناء نصيبها لأنها مجرد حضارات هشة، تطاولت في بنيانها على حساب رسالتها الدينية والإنسانية، ولعل المتأمل في حال النهضة التي تحياها أية حضارة قديمة أو حديثة يجد أنها متلازمة مع انهيار كبير للقيم والمبادئ الدينية والأخلاقية إلى الحد الذي تنقسم معه مجتمعاتها إلى سائر خلف الركب أو قابض على الجمر أو متعصب لقيمه أو متنازل عن موقف على حساب مصلحة أو لأجل مصلحة. وهكذا فإن ضياع القيمة الأساسية للدور الإنساني أدى إلى تغلغل فكرة التطرف الأخلاقي ثم التطرف الديني وهذا بدوره أدى إلى حدوث الانقسام والتشرذم داخل مجتمعاتنا لكن ما يحدث اليوم قد لا يكون نهاية لتلك الحضارات الهشة بل قد يكون بداية لمرحلة تاريخية جديدة تؤهل العالم بأكمله ليشهد الانهيار الأخير لوجوده عبر عد تنازلي لعلامات الساعة الكبرى بعد أن أصبحت غالبية علامات القيامة الصغرى واقعاً وقدراً ومشيئة .لهذا لا مكان للقول اليوم ان ما يحدث في بلاد المسلمين هو إرادة شعوب فقط بل أن تلك الشعوب لم تتحرك إلا بإرادة إلهية حكيمة لا يعلم مداها وحدودها إلا الله ثم أن الوقوف على مسرحها وارتداء أثواب البطولة لتفاصيل أحداثها جريمة كبرى لأن في هذا انتحال لدور غير مكتوب وسيناريو غير موجود إلا في كتاب القدر. إن الأحداث التي أفرزتها شعلة النار في جسد ذلك الرجل البسيط في تونس والمسيرات التي تبعتها لغاية أو بلا غاية لم تعد داخل دائرة السيطرة ولا يمكن ايقاف المد الذي يلازم نشوءها وبقاءها فهي بداية النهاية وخاتمة الرواية الطويلة لبني الإنسان، ولربما كانت المحطة الأكثر تمحيصاً لسيرة درامية طويلة امتزجت تفاصيلها امتزاجاً كبيراً مادام العنصر البشري فيها واحداً والنص الفطري فيها مطلقاً بلا حدود.