لا تقوى الذاكرة على الصمود طويلاً أو الغوص عميقاً في حجم مأساة الشعب الصومالي الشقيق الذي يشاهد كل شيء من حياته حتى الأحلام البائسة، انزلقت قدماه ذات يوم في غفلة من العقل إلى جحيم الضياع وأتون حرب أهلية لم تخمد أوار ألسنتها ولو لوهلة حتى يذكى أوارها من جديد مع تدخل قوى أخرى في الصراع، لتلتهم بوحشية لا توصف أرواح البشر وكأنما سدنتها من الاخوة الأعداء حريصون كل الحرص على استيطان الموت في بلادهم. قذفت الصومال وأهلها في قلب المجهول، لتبقى فيه مدمنة على مرارة المآسي، تستعذب الآلام، الحرب قوته اليومي والبشر، ومن تمكن منهم من النجاة كتبت عليه فصول أخرى من مآسي الحياة ربما يجهل رسم ملامحها بعض من هؤلاء الناجين. صورة من صور مرارة أوجاعهم الإنسانية التي تبقى حسرتها أبدية في النفس يصورها أحدهم في حديثه لوكالة الأنباء اليمنية (سبأ) بالقول: "كثيرون منا فقدوا حياتهم بصورة أكثر بشاعة من الموت في الحرب، حيث يعمد بعض قراصنة البحر، والذين يعملون على تهريب النازحين الصوماليين على ظهور قوارب صغيرة محدودة الحجم إلى زج أكبر عدد فيها طمعاً في الكسب الرخيص؛ حتى إذا ما شعر بخطورة البحر على القارب ژأخذ بإطلاق النار بصورة عشوائية دون انتقاء على هؤلاء المساكين الذين يقودهم حظهم العاثر في الحياة إلى جحيم المجهول. والبعض الآخر من القراصنة يتبعون لوناً آخر من ألوان العذاب؛ إذ يعملون وفور تدافعنا بالركوب في القوارب إلى تكبيل أيدينا وأرجلنا بحبال قوية؛ حتى إذا ما توغلنا في أعماق البحر رموا بنا أحياء في ظلماته لتتقاذفنا أمواجه القاتلة هي الأخرى وترمينا بعد حين جثثاً هامدة على شاطئه". صورة المأساة تصل إلى قمة الحزن وهي التي يصورها مسؤول كبير في المفوضية السامية لشؤون اللاجئين في عدن بالقول: "أجساد كثيرين من الإخوة الصوماليين ذهبت حطباً لنار حربهم الداخلية، وذهبت أجساد كثيرين آخرين منهم طعاماً للأحياء البحرية". هذه صورة موجعة لرحلات الموت التي يصور عذاباتها هؤلاء الناجون بعد أن تقاذفتهم طرق الضياع والحاجة والمهانة والذل في جوف المدن، يقول صلاد: "عندما تشتد المعارك ضراوة في الصومال يندفع الكثيرون منا إلى ركوب الأمواج أملاً في التمسك بأقل قدر من فرص الحياة، غير أن تلك الآمال سرعان ما تتضاءل عندما يموت بعض منا غرقاً في محيط البحر، ولا يحالف الحظ سوى القليلين مثلي ممن يقفون عاجزين حتى عن إيجاد أدنى حد من أسباب العيش الكريم". يبدو هذا هو المصير القاتم والقاتل والمجهول للكثيرين من اللاجئين الصومال وغالبيتهم من المدنيين ممن يحمّلون "أولئك القتلة" من أمراء الحرب وسدنة نيرانها الشيطانية تجار الحروب وأرباب المصالح الذاتية القاتلة وزر ما هم فيه من عذاب وهم من يقفون وكأن لسان حالهم يقول: "ليس هناك أسوأ من أن يعيش الإنسان أسيراً في وطن تمزقه الصراعات والفقر والتناحر، مشرداً نتيجة للكوارث الطبيعية، أو لاجئاً معذباً في بلد آخر بين جحيم المخيمات، تحاصره نظرة الاحتقار والعوز، لكن الأسوأ من ذلك كله هو أن يموت غرقاً وتبتلع الأمواج بقايا أحلام بائسة لديه بينما هو في طريق بحثه المشروع عن حياة كريمة آمنة ومستقرة تنسيه وحشة الوطن وفراق الأهل والأحبة.