تطور مهم.. أول تحرك عسكري للشرعية مع القوات الأوروبية بالبحر الأحمر    الشيخ الزنداني رفيق الثوار وإمام الدعاة (بورتريه)    ارتفاع عدد الشهداء الفلسطينيين جراء العدوان الإسرائيلي على غزة إلى 34305    إيفرتون يصعق ليفربول ويعيق فرص وصوله للقب    انخفاض الذهب إلى 2313.44 دولار للأوقية    المكلا.. قيادة الإصلاح تستقبل جموع المعزين في رحيل الشيخ الزنداني    هيئة السلم المجتمعي بالمكلا تختتم دورة الإتصال والتواصل الاستراتيجي بنجاح    فيديو صادم: قتال شوارع وسط مدينة رداع على خلفية قضية ثأر وسط انفلات أمني كبير    ذهبوا لتجهيز قاعة أعراس فعادوا بأكفان بيضاء.. وما كتبه أحدهم قبل وفاته يُدمي القلب.. حادثة مؤلمة تهز دولة عربية    مفاوضات في مسقط لحصول الحوثي على الخمس تطبيقا لفتوى الزنداني    امين عام الاشتراكي يهنئ الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين بنجاح مؤتمرهم العام مميز    تحذير أممي من تأثيرات قاسية للمناخ على أطفال اليمن    الجهاز المركزي للإحصاء يختتم الدورة التدريبية "طرق قياس المؤشرات الاجتماعي والسكانية والحماية الاجتماعية لاهداف التنمية المستدامة"    لابورتا يعلن رسميا بقاء تشافي حتى نهاية عقده    فينيسيوس يتوج بجائزة الافضل    مقدمة لفهم القبيلة في شبوة (1)    "جودو الإمارات" يحقق 4 ميداليات في بطولة آسيا    نقابة مستوردي وتجار الأدوية تحذر من نفاذ الأدوية من السوق الدوائي مع عودة وباء كوليرا    نبذه عن شركة الزنداني للأسماك وكبار أعضائها (أسماء)    المجلس الانتقالي بشبوة يرفض قرار الخونجي حيدان بتعيين مسئول أمني    الإصلاحيين يسرقون جنازة الشيخ "حسن كيليش" التي حضرها أردوغان وينسبوها للزنداني    طلاق فنان شهير من زوجته بعد 12 عامًا على الزواج    الإطاحة بشاب أطلق النار على مسؤول أمني في تعز وقاوم السلطات    اشهر الجامعات الأوربية تستعين بخبرات بروفسيور يمني متخصص في مجال الأمن المعلوماتي    رئيس الاتحاد الدولي للسباحة يهنئ الخليفي بمناسبه انتخابه رئيسًا للاتحاد العربي    الوجع كبير.. وزير يمني يكشف سبب تجاهل مليشيا الحوثي وفاة الشيخ الزنداني رغم تعزيتها في رحيل شخصيات أخرى    حقيقة وفاة ''عبده الجندي'' بصنعاء    رجال القبائل ينفذوا وقفات احتجاجية لمنع الحوثيين افتتاح مصنع للمبيدات المسرطنة في صنعاء    الشاعر باحارثة يشارك في مهرجان الوطن العربي للإبداع الثقافي الدولي بسلطنة عمان    تضامن حضرموت يظفر بنقاط مباراته أمام النخبة ويترقب مواجهة منافسه أهلي الغيل على صراع البطاقة الثانية    سيئون تشهد تأبين فقيد العمل الانساني والاجتماعي والخيري / محمد سالم باسعيدة    الزنداني يلتقي بمؤسس تنظيم الاخوان حسن البنا في القاهرة وعمره 7 سنوات    حضرموت هي الجنوب والجنوب حضرموت    لغزٌ يُحير الجميع: جثة مشنوقة في شبكة باص بحضرموت!(صورة)    دعاء الحر الشديد .. ردد 5 كلمات للوقاية من جهنم وتفتح أبواب الفرج    اليونايتد يتخطى شيفيلد برباعية وليفربول يسقط امام ايفرتون في ديربي المدينة    لأول مرة.. زراعة البن في مصر وهكذا جاءت نتيجة التجارب الرسمية    رئيس كاك بنك يبعث برقية عزاء ومواساة لمحافظ لحج اللواء "أحمد عبدالله تركي" بوفاة نجله شايع    الخطوط الجوية اليمنية تصدر توضيحا هاما    "صدمة في شبوة: مسلحون مجهولون يخطفون رجل أعمال بارز    البحسني يثير الجدل بعد حديثه عن "القائد الحقيقي" لتحرير ساحل حضرموت: هذا ما شاهدته بعيني!    مليشيا الحوثي تختطف 4 من موظفي مكتب النقل بالحديدة    - أقرأ كيف يقارع حسين العماد بشعره الظلم والفساد ويحوله لوقود من الجمر والدموع،فاق العشرات من التقارير والتحقيقات الصحفية في كشفها    الديوان الملكي السعودي: دخول خادم الحرمين الشريفين مستشفى الملك فيصل لإجراء فحوصات روتينية    صحيفة مصرية تكشف عن زيارة سرية للارياني إلى إسرائيل    برشلونة يلجأ للقضاء بسبب "الهدف الشبح" في مرمى ريال مدريد    دعاء قضاء الحاجة في نفس اليوم.. ردده بيقين يقضي حوائجك ويفتح الأبواب المغلقة    «كاك بنك» فرع شبوة يكرم شركتي العماري وابو سند وأولاده لشراكتهما المتميزة في صرف حوالات كاك حواله    أعلامي سعودي شهير: رحل الزنداني وترك لنا فتاوى جاهلة واكتشافات علمية ساذجة    كان يدرسهم قبل 40 سنة.. وفاء نادر من معلم مصري لطلابه اليمنيين حينما عرف أنهم يتواجدون في مصر (صور)    السعودية تضع اشتراطات صارمة للسماح بدخول الحجاج إلى أراضيها هذا العام    مؤسسة دغسان تحمل أربع جهات حكومية بينها الأمن والمخابرات مسؤلية إدخال المبيدات السامة (وثائق)    دعاء مستجاب لكل شيء    مع الوثائق عملا بحق الرد    لحظة يازمن    - عاجل فنان اليمن الكبير ايواب طارش يدخل غرفة العمليات اقرا السبب    وفاة الاديب والكاتب الصحفي محمد المساح    تصحيح التراث الشرعي (24).. ماذا فعلت المذاهب الفقهية وأتباعها؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ثقافة التسامح عند المسلمين
نشر في الجمهورية يوم 19 - 12 - 2007

من أشد الأمور خطراً،والتي تهدد المجتمعات بالتمزق والتعادي،بل قد تفضي إلى اشتعال الحروب بين المجتمعات بعضها ببعض، بل بين أبناء المجتمع الواحد،والوطن الواحد:التعصّب.
وليس المراد بالتعصب اعتزاز الإنسان بعقيدته أو بأفكاره التي اقتنع بها بمحض اختياره،فهذا لايمكن أن يعاب. إنما المراد بالتعصب انغلاق المرء على عقيدته أو فكره واعتبار الآخرين جميعاً خصومه وأعداءه،وتوجس الشر منهم ،وإضمار السوء لهم ،وإشاعة جو من العنف والكراهية لهم،مما يفقد الناس العيش في أمان واطمئنان،والأمن نعمة من أعظم نعم الله على الإنسان،لهذا أمتن الله على قريش فقال:
«فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف » «قريش:3.4» واعتبر القرآن الجنة دارًا آمنًا كاملاً:«ادخلوها بسلام آمنين» «الحجر:46» واعتبر شر ماتصاب به المجتمعات :الجوع والخوف ،فقال تعالى:«فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون»«النحل :112».
ومن الناس من يتصور أن الإيمان الديني ملازم التعصب لايفارقه لامحالة.لأن المؤمن بدينه يعتقد أنه على الحق،وما عداه على الباطل ،وأن إيمانه هو سبيل النجاة ،ومن لم يتمسك بعروته الوثقى لم يهتد إلى طريق الخلاص،وأن من لم يؤمن بكتابه المنزل،وبنبيه المرسل،فهو ذاهب إلى الجحيم،ولاتنفعه أعمال الخير التي قدمها،لأنها لم تبن على الإيمان،فلا قيمة لها عند الله.كما قال تعالى:
«والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً» «النور:39» وكقوله تعالى:«مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لايقدرون مما كسبوا على شيء» «ابراهيم :18» وهذه التصورات للآخرين تنشئ العداوة والبغضاء بين الناس بعضهم وبعض، وكثيراً ما تؤدي إلى حروب دموية بين الطوائف والشعوب المختلفة دينياً.
مصادر ثقافة التسامح لدى المسلم
كما سجل ذلك التاريخ في عصوره المختلفة بين الأديان بعضها البعض؛كما بين المسلمين والنصارى ،وبين الطوائف والمذاهب الدينية داخل الدين الواحد،كما بين الكاثوليك والبروتستانت،وكذلك السنة والشيعة،فما الحل أمام هذه المشكلات الفكرية والعملية التي تتجسد في الواقع،وتمثل تحديات تحتاج إلى مواجهة وتساؤلات تفتقر إلى أجوبة؟
وأود أن أبادر هنا فأقول:
إن الإسلام قد عالج هذه التصورات النظرية ،والمشكلات العملية ،من خلال ثقافة أصيلة واضحة أسسها وأرساها ،وعلمها لأبنائه ،وهي ثقافة تؤسس التسامح لا التعصب.والتعارف لا التناكر، والحب لا الكراهية،والحوار لا الصدام والرفق لا العنف،والرحمة لاالقسوة، والسلام لا الحرب.
ومصادر ثقافة التسامح لدى المسلم كثيرة وأصيلة،وأعظمها بلا ريب هو: القرآن الكريم ؛الذي أسس أصول التسامح،ورسخها في سوره المكية والمدنية،بأساليبه البيانية المعجزة،التي تخاطب الكيان الإنساني كله،فتقنع العقل ،وتمتع العاطفة،وتحرك الإرادة، وسيرى القارئ الكريم أن الدعائم الشرعية والمنطقية التي سنعتمد عليها في الدعوة إلى التسامح واشاعته وتثبيته مستمدة من القرآن أساساً.
وبعد ذلك تأتي السيرة والسنة النبوية شارحة موضحة ومفصلة،فالسنة هي البيان النظري،والتطبيق العملية للقرآن .كما قال تعالى:«بالبينات والزبر وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس مانزل إليهم ولعلهم يتفكرون»«النحل :44».
ويأتي بعد ذلك عمل الصحابة رضي الله عنهم،خصوصاً الخلفاء الراشدين،وسنتهم امتداداً لسنة النبي،وهم تلاميذ مدرسة النبوة،بها اقتدوا فاهتدوا ،وعلى ضوئها اقتبسوا تشريعاتهم وتوجيهاتهم .فهدوا إلى صراط مستقيم.
كما نستأنس أيضاً بأقوال أئمة الأمة وفقهائها وعلمائها الراسخين،الذين
هم ورثة النبوة،وحملة علمها،ينفون عنه تحريف المغالين،وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين.
ومن مصادر ثقافة التسامح لدى المسلم الواقع التاريخي، لأن الإسلام ،بهذا التاريخ قام على التسامح مع المخالفين،لم يخالف في ذلك خليفة أو سلطان، أو قائد، أو وزير في المشرق والمغرب،في خلافة بني أمية،أو بني العباس،أو بني عثمان ،ولقد شهد بذلك مؤرخون منصفون من الغربيين وغيرهم، ونقلنا ذلك عنهم في أكثر من كتاب لنا،منهم تومس أرنولد،وغستاف لوبون،وغيرهما.
خصائص ثقافة التسامح الإسلامي
ولثقافة التسامح الإسلامي خصائص متعددة،بيد أن هناك خصيصة مهمة،وهي أن صيغتها الدينية،ومصدرها الرباني،وانبثاقها أصلاً من الأوامر الإلهية،والتوجهات النبوية تجعل لها سلطة على المسلمين ،نابعة من قلوبهم وضمائرهم، يذعنون لها ،ويحرصون على تنفيذ أحكامها،بدافع من إيمانهم ،وخشية لربهم،وفرق بين سلطة القوانين الوضعية التي يحاول كثير من الأفراد التحلل منها،والتحايل على أحكامها، وبين الأحكام الإلهية ،التي بشر المؤمنون بها أنهم باحترامها واتباعها،يكسبون رضوان الله تعالى،ومثوبته في الآخرة،وسكينة النفس وراحة الضمير في الدنيا،كما قال تعالى:«من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ماكانوا يعملون »النحل :97.
الركائز العقدية والفكرية للتسامح الإسلامي
تقوم ثقافة التسامح عند المسلمين على جملة من الركائز العقدية والفكرية بيانها فيما يلي:
1 إقرار التعددية
الركيزة الأولى : وهي إقرار ظاهرة التعددية.أو التنوع،وأنها ظاهرة طبيعية،وسنة كونية،كما يؤمن المسلم بوحدانية الخالق،يؤمن بتعددية الخلق في مجالات شتى فهناك التعددية العرقية:«وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا»الحجرات.13 وهناك التعددية اللغوية:«ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين»الروم:22.وهناك التعددية الدينية :«ولوشاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولايزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم» «هود:117.188» قال المفسرون:وللاختلاف خلقهم ،لأنه لما أعطى كلاً منهم العقل والإرادة ،تنوعت مواقفهم ودياناتهم ،وهناك التعددية المذهبية والفكرية،داخل الدين الواحد ،لأن الله أنزل الدين نصوصاً قابلة لتعدد الرؤى والاجتهادات ،ولوشاء أن يجمع الناس على رأي واحد،وعلى مذهب واحد،لجعل الدين كله قائماً على نصوص قطعية الثبوت،قطعية الدلالة،فلا مجال فيها لاختلاف،وهناك التعددية السياسية والحزبية،وما دمنا قد أجزنا تعدد المذاهب في الفقه ،يلزمنا أن نجيز تعدد الأحزاب في السياسة،فما الأحزاب إلا مذاهب في السياسة ،وما المذاهب إلا أحزاب في الفقه.
2 الاختلاف واقع بمشيئة الله تعالى
والركيزة الثانية:أن اختلاف الدين واقع بمشيئة الله تعالى،المرتبطة بحكمته سبحانه،فلا يشاء إلا ما كان فيه حكمة.لأن من أسمائه «الحكيم» فهو لايخلق شيئاً باطلاً،ولايشرع شيئاً عبثاً،وقد أعلن القرآن أن هذا الاختلاف الديني واقع بمشيئة الله عزوجل كما قال:«ولوشاء ربك لأمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تُكره الناس حتى يكونوا مؤمنين» يونس .99 وقال تعالى :«ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين»الأنعام :35 ولو شاء ربنا أن يجعل كل الناس مؤمنين مهديين مطيعين له،لجعلهم على صورة أخرى ،كما خلق الملائكة مفطورين على طاعته وعبادته «يسبحون الليل والنهار لايفترون» الانبياء :20» «لايعصون الله ماأمرهم ويفعلون مايؤمرون» «التحريم :6» وما دام هذا الاختلاف الديني واقعاً بمشيئة الله سبحانه ،فمن ذا الذي يقف ضد مشيئة الله؟ومن الذي يفكر في محو الأديان كلها إلى دينه؟إنه لو فعل هذا لم يكن مصيره إلا الخيبة والإخفاق ،وانتصار مشىئة الله الواحد القهار.
3 حساب المختلفين إلى الله يوم القيامة
والركيزة الثالثة:أن حساب المختلفين في دياناتهم ومذاهبهم واتجاهاتهم الدينية والأخلاقية التي نشأوا عليها ،ليس إلينا.ولكن إلى خالق الجميع ،إلى الله وحده، وليس في هذه الدنيا.ولكن في الدار الآخرة،يوم القيامة وهذا ما قرره القرآن في مواضع شتى يقول تعالى مخاطباً رسوله:« وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون ،الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون» الحج 69.68 وفي سياق آخر يقول له في شأن أهل الكتاب :«فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولاتتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لاحجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير»«الشورى :15» ويعدد أصحاب الديانات المختلفة من كتابيين ووثنيين.ليبين لنا أن الله هو الذي يفصل بينهم يوم القيامة:«إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئىن والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد» «الحج :17»
وهذه الفكرة أو العقيدة ،من شأنها أن تخفف من النظرة السوداوية للآخرين،مهما يكن اعتقاد المتدين،ونظرته إلى نفسه،ونظرته إلى غيره،فكل متدين يؤمن أنه هو المهتدي،وغيره هو الضال،وهو المبصر ،وغيره هو الأعمى ،ولكن حساب ذلك إلى الله ،يوم تبلى السرائر،وتنكشف الحقائق :«يومئذٍ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين» النور:25
4 اعتبار البشرية كلها أسرة واحدة
والركيزة الرابعة:أن الإسلام ينظر إلى البشرية كلها أياً كانت أجناسها وألوانها ولغاتها وأقاليمها وطبقاتها بوصفها أسرة واحدة،تنتمي من جهة الخلق إلى رب واحد ،ومن جهة النسب إلى أب واحد،وهذا ما نادى به القرآن الناس؛كل الناس فقال:« ياأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً» النساء:1.وما أجدر كلمة «الأرحام» في هذا السياق أن تفسر بما يشمل الأرحام الإنسانية كلها. كما قال الشاعر المسلم:
إذا كان أصلي من تراب فكلها
بلادي وكل العالمين أقاربي!
وقد أعلن رسول الإسلام هذه الحقيقة وحدة الأسرة البشرية أمام الجموع الحاشدة في حجة الوداع ،قائلاً:«ياأيها الناس إن ربكم واحد،وإن أباكم واحد،كلكم لآدم، وآدم من تراب،لا فضل لعربي على عجمي،ولا لعجمي على عربي إلا بالتقوى إن أكرمكم عند الله أتقاكم»رواه أحمد. وهو تقرير وتأكيد لما جاء في الآية الكريمة من سورة الحجرات «ياأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن إكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير»الحجرات :13
فالمراد بالذكر والأنثى في الآية:آدم وحواء، وهما أبوا البشر ،ويستأنس هذا بما جاء في الحديث الذي رواه أحمد وأبوداود عن زيد بن أرقم وإن كان في إسناده ضعف أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول دبر كل صلاة:«اللهم ربنا ورب كل شيء ومليكه ،أنا شهيد أنك وحدك لاشريك لك، اللهم ربنا ورب كل شيء ومليكه،أنا شهيد أن محمداً عبدك ورسولك ،اللهم ربنا ورب كل شيء ومليكه :أنا شهيد أن العباد كلهم أخوة».
وقد أثبت القرآن أن هناك أخوة دينية بين أهل الإيمان أو أهل الدين الواحد،كما قال تعالى:«إنما المؤمنون إخوة» الحجرات : من الآية 10.«فأصبحتم بنعمته إخواناً» آل عمران : من الآية 103. كما أثبت أن هناك أخوة قومية ووطنية ،كالتي أثبتها بين الرسل وأقوامهم المكذبين لهم «وإلى عاد أخاهم هوداً» الأعراف : من الآية 65.«إلى ثمود أخاهم صالحاً» النمل من الآية 45 ،والأخوة هنا قطعاً ليست دينية ،وإنما هي أخوة قومية ،ولهذا كان يبدأ كل رسول من هؤلاء نداءه بقوله:«ياقوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره»الأعراف:من الآية 59، فلا غرو أن تكون هناك أخوة إنسانية آدمية بحكم الانتساب إلى آدم أبي البشر،ومن هنا نودوا جميعاً بقوله تعالى:«يا بني آدم» في القرآن خمس مرات.
5 تكريم الإنسان لإنسانيته وحدها
والركيزة الخامسة للتسامح في الإسلام: هي تكريم الإنسان من حيث هو إنسان، بغض النظر عن لون بشرته أو لون عينيه،أو صبغة شعره،أو شكل أنفه أو وجهه. أو بالنظر إلى لغته أو إقليمه الذي يعيش فيه،أو عرقه الذين ينتمي إليه، أو طبقته الاجتماعية التي ينتسب أو ينسبه الناس إليها ،أو حتى دينه الذي يعتنقه ويؤمن به.
وذلك أن أساس التكريم في نظر القرآن هو :الآدمية ذاتها،كما قال تعالى:«ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً» الاسراء :70 وقال تعالى: «لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم» التين:4 وقال سبحانه:«الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان» الرحمن :14 وقال في أول مانزل من القرآن:«اقرأ وربك الأكرم،الذي علم بالقلم ،علم الإنسان مالم يعلم» العلق:35 وقال عز وجل «وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يُفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم مالاتعلمون» البقرة:30.. نعم عقد مسابقة بين آدم والملائكة،ظهر فيها فضل آدم أبي البشر على الملائكة الكرام،ومن ثم أمر الإسلام باحترام الإنسان،فلا يجوز أن يؤذى في حضرته ،أو يهان في غيبته،حتي بكلمة يكرهها لو سمعها،ولو كانت حقيقة في نفسها،ولكنها تؤذيه،وحتى بعد موته لايذكر إلا بخير،ولا يجوز أن يمتهن حرمة جسده حياً أو ميتاً،حتى جاء في الحديث :«كسر عظم الميت ككسر عظم الحي» «رواه أحمد وأبو داود».
ومن الأحاديث الصحيحة التي لها دلالة:مارواه الشيخان أن النبي صلى الله عليه وسلم مروا عليه بجنازة.فقام لها واقفاً، إكراماً للميت ،فقال له الصحابة:يارسول الله؛ إنها جنازة يهودي!«يريدون أنها ليهودي أي أنها ليست جنازة مسلم» فقال صلى الله عليه وسلم وما أروع ماقال: «أليست نفساً؟!«متفق عليه» فما أروع الموقف المحمدي ،وما أروع التفسير والتعليل:«أليست نفساً؟!» بلى إنها نفس إنسانية ،ولكل نفس في الإسلام حرمة ومكانة،وهذا على الرغم مما وقع من اليهود من الإساءات الكثيرة للرسول ولأصحابه.
6 البر والقسط للمسالمين من غير المسلمين
والركيزة السادسة: إقرار التعامل بالبر والقسط مع المسالمين من غير المسلمين،وهو ما سجلته في أول كتاب لي دخلت به ميدان التأليف العلمي،وهو كتاب «الحلال والحرام في الإسلام» منذ مايقرب من نصف قرن من الزمان ،فقد ذكرت في فصل «علاقة المسلم بغير المسلم» مايلي:إذا أردنا أن نجمل تعليمات الإسلام في معاملة المخالفين له في ضوء ما يحل وما يحرم فحسبنا آيتان من كتاب الله.جديرتان أن تكونا دستوراً جامعاً في هذا الشأن،وهما قوله تعالى:«لاينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين ،إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون »الممتحنة :89.فالآية الأولى لم ترغب في العدل والإقساط فحسب إلى غير المسلمين الذين لم يقاتلوا المسلمين في الدين،ولم يخرجوهم من ديارهم أي أولئك الذين لاحرب ولاعداوة بينهم وبين المسلمين بل رغبت الآية في برهم والإقساط إليهم.
والبر كلمة جامعة لمعاني الخير والتوسع فيه،فهو أمر فوق العدل.وهي الكلمة التي يعبر بها المسلمون عن أوجب الحقوق البشرية عليهم ،وذلك هو «بر» الوالدين ،وإنما قلنا:إن الآية رغبت في ذلك لقوله تعالى:«إن الله يُحب المقسطين» والمؤمن يسعى دائماً إلى تحقيق ما يحبه الله.
ولا ينفي معنى الترغيب والطلب في الآية: أنهاجاءت بلفظ «لاينهاكم الله» فهذا التعبير قصد به نفي ماكان عالقاً بالأذهان وما يزال أن المخالف في الدين لا يستحق براً ولا قسطاً،ولا مودة ولاحسن عشرة ،فبين الله تعالى أنه لاينهى المؤمنين عن ذلك مع كل المخالفين لهم ،بل مع المحاربين لهم ،العادين عليهم.
7 العداوات بين الناس ليست أمراً دائماً
والركيزة السابعة: التي قررها الإسلام ،وعلمها للمسلمين ،وغرسها في عقولهم وضمائرهم:أنالناس قد يعادي بعضهم بعضاً،لأسباب مختلفة ،دينية أو دنيوية ،ولكن هذه العداوات على حق كانت أو على باطل لاتدوم أبد الدهر،فالقلوب تتغير،والأحوال تتبدل ،وعدو الأمس قد يصبح صديق اليوم ،وبعيد اليوم قد يصبح قريب الغد،وهذه قاعدة مهمة في علاقات الناس بعضهم ببعض،فلاينبغي أن يسرفوا في العداوة،حتى لايبقوا للصلح موضعاً،وهذا ما نبه إليه القرآن بوضوح بعد نهيه عن موالاة اعداء الله واعداء المسلمين في أول سورة الممتحنة ،وضرب مثلاً بصلابة إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم:«إنا براء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده» الممتحنة :4 بعد هذا قال تعالى:«عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة والله قدير والله غفور رحيم» الممتحنة:7. فهذا الرجاء من الله سبحانه الذي ذكره بكلمة «عسى» يملأ القلوب أملاً بتغيير القلوب من العداوة والبغضاء إلى المودة والمحبة،والله قدير على تغيير القلوب،فهو الذي يقلبها كيف يشاء ،والله غفور لما مضى من الأحقاد والضغائن ،رحيم بعباده الذين تصفو قلوبهم،ولاعجب أن اشتهر بين المسلمين قولهم،وابغض بغيضك هونًا ما عسى أن يكون حبيبك يوماً ما».
8 الدعوة إلى الحوار بالتي هي أحسن
والركيزة الثامنة للتسامح الإسلامي هي: الدعوة إلى حوار المخالفين بالحسنى ،وذلك في قوله تعالى:«ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين» النحل:125،فالدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة غالباً مع الموافقين ،والجدال بالتي هي أحسن غالباً مع المخالفين ،فالمسلمون مأمورون من ربهم أن يجادلوا مخالفهم ،بالطريقة التي هي أحسن الطرق .أمثلها وأقرب إلى القبول من المخالف.
والجدال بالتي هي أحسن.هو :الحوار الذي ندعو إليه مع المخالفين لنا،وهوالذي لايسعى إلى إيغار الصدور،أو المباعدة بين القلوب ،وإثارة ما يشعل الفتنة ، أو يورث الضغينة ،بل يعمل على تقريب القلوب بعضها من بعض ،كما قال تعالى في مجادلة أهل الكتاب:«ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم» العنكبوت:46 فالآية تركز على الجوامع المشتركة التي يؤمن بها الفريقان،لا على نقاط التمايز والاختلاف،وهذا من أصول الحوار بالحسنى ،وبهذا يرى الإسلام ضرورة الحوار بين المتخالفين ،ولايرى حتمية الصراع بينهم،كما ادعى الكاتب الاستراتيجي الأمريكي «صمويل هانتينغتون».
وقد بدأ الحوار الإسلامي المسيحي منذ حوالي أربعين سنة.ولم يزل مستمراً إلى عهد قريب،وقد شاركت في أكثر من مؤتمر لهذا الحوار ،منها:مؤتمر القمة الإسلامية المسيحية في روما «اكتوبر2001» الذي دعت إليه جمعية «سانت جديو» وقد شارك فيه كبار الكرادلة،وكبار علماء المسلمين ،والقمة الإسلامية المسيحية في برشلونة «2003م» ومؤتمر الحوار الإسلامي المسيحي مع الكنائس الشرقية خاصة في القاهرة،ولكن بعد كلمات بابا الفاتيكان«بندكت السادس عشر» في محاضرته بألمانيا«12 سبتمبر2006م» التي أساء فيها إلى الإسلام ونبيه وعقيدته وشريعته وحضارته توقف الحوار بيننا وبين القوم ؛ حتى يظهر موقف آخر يمحو الأذى السابق.
9 أعلى درجات التسامح عند المسلمين وحدهم
والركيزة التاسعة: أن المسلمين وحدهم هم الذين لهم أعلى درجات التسامح الديني ،ذلك أن التسامح الديني والفكري له درجات ومراتب ،فالدرجة الدنيا من التسامح أن تدع لمخالفك حرية دينه وعقيدته،ولاتجبره بالقوة على اعتناق دينك أو مذهبك،بحيث إذا أبى حكمت عليه بالموت أو العذاب أو المصادرة أو النفي أو غير ذلك من ألوان العقوبات والاضطهادات التي يقوم بها المتعصبون ضد مخالفيهم في عقائدهم..فتدع له حرية الاعتقاد،ولكن لا تمكنه من ممارسة واجباته الدينية التي تفرضها عليه عقيدته،والامتناع مما يعتقد تحريمه عليه.
والدرجة الوسطى من التسامح :أن تدع له حق الاعتقاد بما يراه من ديانة ومذهب ثم لاتضيق عليه بترك أمر يعتقد وجوبه أو فعل أمر يعتقد حرمته،فإذا كان اليهودي يعتقد حرمة العمل يوم السبت فلايجور أن يكلف بعمل في هذا اليوم.لأنه لايفعله إلا وهو يشعر بمخالفة دينه.وإذا كان النصراني يعتقد بوجوب الذهاب إلى الكنيسة يوم الأحد فلا يجور أن يمنع من ذلك في هذا اليوم.
والدرجة التي تعلو هذه في التسامح ألا نضيق على المخالفين فيما يعتقدون حله في دينهم أو مذهبهم،وإن كنت تعتقد أنه حرام في دينك أو مذهبك ،وهذا ماكان عليه المسلمون مع المخالفين من أهل الذمة،إذ ارتفعوا إلى الدرجة العليا من التسامح ،فقد التزموا كل ما يعتقده غير المسلم أنه حلال في دينه ،ووسعوا له في ذلك،ولم يضيقوا عليه بالمنع والتحريم.
ذلك لأن الشيء الذي يحله دين من الأديان ليس فرضاً على أتباعه أن يفعلوه.
فإذا كان دين المجوسي يبيح له الزواج من أمه وأخته فيمكنه أن يتزوج من غيرهما ولاحرج،وإذا كان دين النصراتي يحل له أكل الخنزير،فإنه يستطيع أن يعيش عمره دون أن يأكل الخنزير .وفي لحوم البقر والغنم والطير متسع له،ومثل ذلك الخمر، فإذا كانت بعض الكتب المسيحية قد جاءت بإباحتها أو إباحة القليل منها لإصلاح المعدة،فليس من فرائض المسيحية أن يشرب المسيحي الخمر.فلو أن الإسلام قال للذميين :دعوا زواج المحارم،وشرب الخمر،وأكل الخنزير.مراعاة لشعور إخوانكم المسلمين .لم يكن عليهم في ذلك أي حرج ديني،لأنهم إذا تركوا هذه الأشياء لم يرتكبوا في دينهم منكراً ،ولا أخلوابواجب مقدس.
ومع هذا لم يقل الإسلام ذلك،ولم يشأ أن يضيق على غير المسلمين في أمر يعتقدون حله،وقال للمسلمين: اتركوهم وما يدينون.
10 روح التسامح عند المسلمين
الركيزة العاشرة للتسامح الإسلامي تتجلى فيما نسميه «روح التسامح الديني» عند المسلمين،ذلك أن هناك شيئاً لايدخل في نطاق الحقوق التي تنظمها القوانين،ويلزم بها القضاء ،وتشرف على تنفيذها الحكومات ،ذلك هو «روح السماحة» التي تبدو في حُسن المعاشرة ،ولطف المعاملة ،ورعاية الجوار،وسعة المشاعر الإنسانية من البر والرحمة والإحسان، وهي الأمور التي تحتاج إليها الحياة اليومية،ولايغني فيها قانون ولا قضاء،وهذه الروح لاتكاد توجد في غير المجتمع الإسلامي،تتجلى هذه السماحة في مثل قول القرآن في شأن الوالدين المشركين اللذين يحاولان إخراج ابنهما من التوحيد إلى الشرك:«وصاحبهما في الدنيا معروفاً» لقمان:15
وفي قول القرآن يصف الأبرار من عباد الله: «ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً» الإنسان:8
ولم يكن الأسير حين نزلت الآية إلا من المشركين،وفي قول القرآن يجيب عن شبهة بعض المسلمين في مشروعية الإنفاق على ذويهم وجيرانهم من المشركين المصُرّين: «وماتنفقوا من خير فلأنفسكم وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله وما تنفقوا من خيرٍ يوف إليكم وأنتم لاتظلمون» البقرة:272،وقد روى محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة ومدون مذهبه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى أهل مكة مالاً لما قحطوا ليوزع على فقرائهم.
هذا على الرغم مما قاساه من أهل مكة من العنت والأذى هو وأصحابه،وروى أحمد والشيخان عن أسماء بنت أبي بكر قالت:قدمت أمي وهي مشركة،في عهد قريش إذ عاهدوا ،فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت:يا رسول الله.إن أمي قدمت وهي راغبة :أفأصلها؟قال: «نعم .صلي أمك» متفق عليه.
وفي قول القرآن يبين أدب المجادلة مع المخالفين:«ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم» العنكبوت:46.وتتجلى هذه السماحة كذلك في معاملة الرسول صلى الله عليه وسلم لأهل الكتاب يهوداً كانوا أو نصارى ،فقد كان يزورهم ويكرمهم ،ويحسن إليهم ،ويعود مرضاهم،ويأخذ منهم ويعطيهم. ذكر ابن اسحاق في السيرة أن وفد نجران ،وهم من النصارى لما قدموا على الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة،دخلوا عليه مسجده بعد العصر، فكانت صلاتهم،فقاموا يصلون في مسجده،فأراد الناس منعهم،فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«دعوهم» فاستقبلوا المشرق فصلوا صلاتهم،وعقب المجتهد ابن القيم على هذه القصة في «الهدي النبوي» فذكر مما فيها من الفقه:«جواز دخول أهل الكتاب مساجد المسلمين،وتمكين أهل الكتاب من صلاتهم بحضرة المسلمين،وفي مساجدهم أيضاً إذا كان ذلك عارضاً ،ولايمكنون من اعتياد
ذلك».
وروى أبوعبيد في «الأموال» عن سعيد بن المسيب،أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تصدق بصدقة على أهل بيت من اليهود فهي تُجرى عليهم،وروى البخاري عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم عاد يهودياً،وعرض عليه الإسلام فأسلم،فخرج وهو يقول:«الحمدلله الذي أنقذه بي من النار» وروى البخاري أيضاً:«أن النبي صلى الله عليه وسلم توفي ودرعه مرهونة عند يهودي في نفقة عياله» ،قد كان في وسعه صلى الله عليه وسلم أن يستقرض من أصحابه،وماكانوا ليضنوا عليه بشيء ولكنه أراد أن يُعلم أمته،وقبل النبي صلى الله عليه وسلم الهدايا من غير المسلمين،واستعان في سلمه وحربه بغير المسلمين،حيث ضمن ولاءهم له.
وتتجلى هذه السماحة كذلك في معاملة الصحابة والتابعين لغير المسلمين.
فعمر يأمر بصرف معاش دائم ليهودي وعياله من بيت مال المسلمين ،ثم يقول:قال الله تعالى :«إنما الصدقات للفقراء والمساكين» سورة التوبة:60 وهذا من مساكين أهل الكتاب،ويمر في رحلته إلى الشام بقوم مجذومين من النصارى فيأمر بمساعدة اجتماعية لهم من بيت مال المسلمين،وأصيب عمر بضربة رجل من أهل الذمة،أبي لؤلؤة المجوسي ،فلم يمنعه ذلك أن يوصي الخليفة من بعده وهو على فراش الموت فيقول:«وأوصيه بذمة الله وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم أن يوفي لهم بعهدهم وأن يقاتل من ورائهم وأن لايكلفوا فوق طاقتهم» «رواه البخاري» وعبدالله بن عمرو يوصي غلامه أن يعطي جاره اليهودي من الأضحية ،ويكرر الوصية مرة بعد مرة ،حتى دهش الغلام،وسأله عن سر هذه العناية بجار يهودي،قال ابن عمرو:إن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه» «رواه أبوداود والترمذي».
وماتت أم الحارث بن أبي ربيعة وهي نصرانية ،فشيعها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.«رواه عبدالرزاق في مصنفه» وكان بعض أجلاء التابعين يعطون نصيباً من صدقة الفطر لرهبان النصارى ولايرون في ذلك حرجاً،بل ذهب بعضهم كعكرمة وابن سيرين والزهري إلى جواز إعطائهم من الزكاة نفسها،وروى ابن ابي شيبة عم جابر بن زيد :أنه سُئل عن الصدقة فيمن توضع؟فقال : في أهل ملتكم من المسلمين،وأهل ذمتهم ...وذكر القاضي عياض في ترتيب المدارك» قال: حدث الدارقطني أن القاضي إسماعيل بن إسحاق ،دخل عليه الوزير عبدون بن صاعد النصراني وزير الخليفة المعتضد بالله العباسي ،فقام له القاضي ورحب به.فرأى إنكار الشهود لذلك،فلما خرج الوزير قال القاضي اسماعيل: قد علمت إنكاركم ،وقد قال الله تعالى:«لاينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إلى الله يحب المقسطين» الممتحنة :8 وهذا الرجل يقضي حوائج المسلمين وهو سفير بيننا وبين المعتضد..وهذا من البر.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.