راشفورد يجرّ نيوكاسل للهزيمة    تعز.. إصابة طالب جامعي في حادثة اغتيال مدير صندوق النظافة    تجربة الإصلاح في شبوة    صندوق النظافة بتعز يعلن الاضراب الشامل حتى ضبط قتلة المشهري    حين تُغتال النظافة في مدينة الثقافة: افتهان المشهري شهيدة الواجب والكرامة    مسيّرة تصيب فندقا في فلسطين المحتلة والجيش الاسرائيلي يعلن اعتراض صاروخ ومسيّرة ثانية    مسيّرة تصيب فندقا في فلسطين المحتلة والجيش الاسرائيلي يعلن اعتراض صاروخ ومسيّرة ثانية    وعن مشاكل المفصعين في تعز    الصمت شراكة في إثم الدم    الفرار من الحرية الى الحرية    ثورة 26 سبتمبر: ملاذٌ للهوية وهُويةٌ للملاذ..!!    عاجل: بيان مجلس القيادة الرئاسي – 18 سبتمبر 2025م    القوات المسلحة: ضرب أهداف حساسة في (يافا وأم الرشراش وبئر السبع)    اللجنة الوطنية للمرأة والأمن والسلام تدين جريمة اغتيال القيادية افتهان المشهري وتطالب بالعدالة الفورية    وقفة احتجاجية في المعهد العالي بالجوف تنديدا بجرائم العدو الصهيوني    إشهار جائزة التميز التجاري والصناعي بصنعاء    الهيئة العامة للآثار تنشر القائمة (28) بالآثار اليمنية المنهوبة    انخفاض صادرات سويسرا إلى أميركا بأكثر من الخُمس بسبب الرسوم    مجلس القضاء الأعلى ينعي القاضي عبدالله الهادي    السيد القائد يوجه تحذير شديد للسعودية : لا تورطوا أنفسكم لحماية سفن العدو    البنك المركزي يوجه بتجميد حسابات منظمات المجتمع المدني وإيقاف فتح حسابات جديدة    الأرصاد: حالة عدم استقرار الأجواء ما تزال مستمرة وتوقعات بأمطار رعدية على أغلب المحافظات    المحرّمي يعزِّي في وفاة المناضل والقيادي في المقاومة الجنوبية أديب العيسي    استمرار نزوح الفلسطينيين هربا من القصف الإسرائيلي المتواصل على مدينة غزه    الوفد الحكومي برئاسة لملس يطلع على تجربة المدرسة الحزبية لبلدية شنغهاي الصينية    بتمويل إماراتي.. افتتاح مدرسة الحنك للبنات بمديرية نصاب    نائب وزير الإعلام يطّلع على أنشطة مكتبي السياحة والثقافة بالعاصمة عدن    تغييرات مفاجئة في تصنيف فيفا 2025    أمنية تعز تحدد هوية المتورطين باغتيال المشهري وتقر إجراءات صارمة لملاحقتهم    تعز.. احتجاجات لعمال النظافة للمطالبة بسرعة ضبط قاتل مديرة الصندوق    برغبة أمريكية.. الجولاني يتعاهد أمنيا مع اسرائيل    موت يا حمار    أمين عام الإصلاح يعزي الشيخ العيسي بوفاة نجل شقيقه ويشيد بدور الراحل في المقاومة    يامال يغيب اليوم أمام نيوكاسل    مفاجأة طوكيو.. نادر يخطف ذهبية 1500 متر    النصر يكرر التفوق ويكتسح استقلول بخماسية أنجيلو    نتائج مباريات الأربعاء في أبطال أوروبا    دوري أبطال آسيا الثاني: النصر يدك شباك استقلال الطاجيكي بخماسية    رئيس هيئة النقل البري يعزي الزميل محمد أديب العيسي بوفاة والده    مواجهات مثيرة في نصف نهائي بطولة "بيسان الكروية 2025"    حكومة صنعاء تعمم بشأن حالات التعاقد في الوظائف الدائمة    الامم المتحدة: تضرر آلاف اليمنيين جراء الفيضانات منذ أغسطس الماضي    استنفاد الخطاب وتكرار المطالب    مجلس وزارة الثقافة والسياحة يناقش عمل الوزارة للمرحلة المقبلة    التضخم في بريطانيا يسجل 3.8% في أغسطس الماضي    غياب الرقابة على أسواق شبوة.. ونوم مكتب الصناعة والتجارة في العسل    لملس يزور ميناء يانغشان في شنغهاي.. أول ميناء رقمي في العالم    وادي الملوك وصخرة السلاطين نواتي يافع    العرب أمة بلا روح العروبة: صناعة الحاكم الغريب    خواطر سرية..( الحبر الأحمر )    رئيس هيئة المدن التاريخية يطلع على الأضرار في المتحف الوطني    اكتشاف نقطة ضعف جديدة في الخلايا السرطانية    100 دجاجة لن تأكل بسه: قمة الدوحة بين الأمل بالنجاة أو فريسة لإسرائيل    في محراب النفس المترعة..    بدء أعمال المؤتمر الدولي الثالث للرسول الأعظم في صنعاء    العليمي وشرعية الأعمى في بيت من لحم    6 نصائح للنوم سريعاً ومقاومة الأرق    إغلاق صيدليات مخالفة بالمنصورة ونقل باعة القات بالمعلا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عبدالله الراعي:أخرجني المروني من الصندقة والمقالح أمدني ب (العروة الوثقى)
قصة ثورة وثوار
نشر في الجمهورية يوم 01 - 09 - 2008

لم يكن الحوار مع عبدالله الراعي سهلاً، لأن الرجل ظل يخبئ أسراراً طمرتها أحداث مرت عليها 54عاماً، أي منذ اندلاع الثورة اليمنية في السادس والعشرين من شهر سبتمبر «أيلول» من العام 2691م، ولأن الأحداث لا تروى من الذاكرة فقط، بل ومن الوثائق أيضاً، فإن هذا الحوار استمر لعدة أشهر، في محاولة لتوثيق مراحل لم يمط اللثام عنها منذ فترة طويلة، ومحاولة لاستعادة تاريخ يحاول الكثير طمسه ومحوه من ذاكرة الأجيال اللاحقة للثورة اليمينة.
يحكي هذا الحوار «قصة ثورة وثوار» لايزال بعض تفاصيلها غير معروف حتى اليوم، رغم مرور هذه السنوات الطويلة من اندلاع الثورة، تعرض فيها تاريخها للكثير من التشويه، وللكثير من التجاهل سواء من قبل أعدائها أو من قبل أبنائها.
يروي عبدالله الراعي، الضابط الذي كان من أوائل الملتحقين بتنظيم الضباط الأحرار ومن أوائل المهاجمين على قصر الإمامة المتداعية، ومن أوائل الجرحى في أول يوم من أيام الثورة، ومن أوائل المؤسسين لحزب البعث في اليمن، فصولاً من تاريخ ناقص للثورة اليمنية، ويحاول أن يتذكر الوقائع والأحدث والشخوص والأماكن والمعارك وكأنها تحدث اليوم، كان عبدالله الراعي حريصاً في الحوار أن لا يبرز تاريخه كفرد، مع أنه كان في قلب الأحداث، لأنه يؤمن أن الثورة ملك شعب وليست ملكاً لأفراد مهما كان دور الأفراد فيها.
في الحوار يحاول عبدالله الراعي الاستنجاد بالوثائق التي لديه لتوثيق مراحل من تاريخ الثورة اليمنية، ويتعرض إلى محطات هامة في حياته وفي حياة الثورة، كما يحاول كشف الكثير من الأحداث التي لاتزال غائبة أو مغيبة عن الناس حتى اليوم، والإجابة على السؤال: لماذا قامت الثورة ومن هم رجالها الحقيقيون ومن جاء لسرقتها بعد اندلاعها؟
يتطرق الحوار مع عبدالله الراعي إلى الأدوار التي لعبها الضباط الأحرار للتحضير للثورة، ابتداء من علي عبدالمغني، الدينامو المحرك للتنظيم، مروراً بصف طويل من الضباط وانتهاء بالرئيس علي عبدالله السلال، الذي جاء منقذاً للثورة في لحظاتها الحرجة، عوضاً عن الرئيس المنتظر حمود الجائفي، ويروي الراعي الصعوبات التي واجهت الثورة منذ ساعاتها الأولى، ويتعرض للخلافات التي دبت بين ضباط الثورة بعد أيام من اندلاعها، كما يكشف أسراراً لأول مرة عن طبيعة الصراعات الخفية بين الضباط والرئيس السلال والرئيس الذي جاء بعده القاضي عبدالرحمن الإرياني، وعن تفاصيل سعي الرئيس السلال لإعدامه بتهمة التعامل مع إسرائيل، ويحكي الرجل عن قصة هروب البدر والإعدامات التي جرت لأنصاره بعد هروبه إلى الخارج.
ويتناول الحوار الصراع الذي دار بين الضباط وعبدالرحمن البيضاني وبعض القادة المصريين الذين كانوا يشرفون على القوات المصرية التي جاءت لنجدة اليمنيين وقت الشدة، كما يتعرض الحوار إلى الدور الكبير الذي لعبه الرئيس الراحل جمال عبدالناصر لدعم ثورة اليمن، وقتل المصريين في شوارع صنعاء، إضافة إلى الدور الذي لعبه الرئيس أنور السادات والمشير عبدالحكيم عامر بالنسبة لقضية اليمن.
ويروي الراعي تفاصيل الانقلاب على الرئيس عبدالله السلال ومن بعده الرئيس القاضي عبدالرحمن الإرياني ومقتل الرئيسين إبراهيم الحمدي وأحمد الغشمي قبل الوصول إلى الرئيس علي عبدالله صالح، الذي قال إنه كان من ضمن الذين أقنعوا الجيش بضرورة توليه السلطة.
وفي كل المحطات كان الراعي يحاول تجنب إصدار الأحكام الجاهزة على من كانوا سبباً في وقوع الثورة في مطبات كثيرة، وذلك من باب الحرص على عدم تجريح الثورة والثوار أكثر مما تعرضوا لها.
في الحوار يحاول الراعي والمحاور تسجيل تاريخ الثورة اليمنية من واقع الذاكرة والوثائق، الثورة التي لايزال الكثير من فصولها غير معروفة وتحتاج إلى من يميط اللثام عنها، وهذه مهمة يحاول تسجيلها هذا الحوار: الفصل الأول
الطفولة والنشأة
* ماذا تبقى لديكم من ذاكرة الطفولة، بماذا تحتفظون إلى اليوم من ذكريات بعد مرور هذه السنوات؟
- أنا من مواليد 2491م، وهذا بالمناسبة ليس أمراً مؤكداً، والأمر عائد إلى عدم وجود أحوال مدينة في تلك الفترة، إلا أن والدي رحمه الله كان يسجل تواريخ ميلادنا في المصحف الشريف، وعندما أباح الإمام أحمد صنعاء للقبائل مالاً وعرضاً بعد حركة 8491م، أخذوا المصحف الشريف الذي كان مسجلاً عليه تاريخ ميلادي مع ما نهب من المدينة، ولم نعثر على المصحف، ولم نعرف أين هو حتى الآن والاحتمال أنهم أتلفوه.
طفولتي وطفولة كل يمني عاش في عهد ماقبل الثورة تعتبر طفولة قاسية، فقد كانت الظروف صعبة مثل الحياة المعيشية والاجتماعية والدراسية ليس لي فقط، بل ولكل أفراد أسرتي في ذلك الوقت، وبالذات في الأربعينيات من القرن الماضي.
نشأت وسط أسرة ذات توجه ديني وهذا ماساعد كثيراً على تربيتي، فقد كان أحد أجدادي معاوناً للإمام الشوكاني وآخر كان عالماً صوفياً مشهوراً، له جرف في جبل نقم بصنعاء يسمى باسمه، والدي كان إنساناً بسيطاً، تربى في مدارس الأتراك العسكرية وعاش حياة يتم وبؤس وفقر، حيث توفي والده وعمره لا يتجاوز السادسة فتولت والدته تربيته وشب حتى سن السابعة عشرة وتغرب عن صنعاء كثيراً، في المخا 6سنوات وفي قعطبه في البيضاء 5سنوات لكي يوفر شيئاً من الرزق لأمه وأختيه اللتين ولدتا بعده وعاشتا بعد ذلك.
درست دراسة أولية في الكتاتيب بصنعاء، إذ لم تكن الكتب حينها متوفرة، فقد كنا نكتب على الألواح الخشبية، ثم تحسنت الحالة فالتحقت بمدرسة الإرشاد التي تسمى الآن مدرسة ابن الأمير بصنعاء، درست فيها القواعد البغدادية في القرآن، ثم انتقلت إلى الصف الثاني وأكملت جزء «عم» وكان ذلك في عام 4591، ثم واصلت إلى الصف الخامس، وكنت قد أكملت القرآن الكريم وشيئاً من الكتابة التي لا تخلو من الأخطاء الإملائية.
وفي نفس المدرسة درست في الصفين الخامس والسادس مادة الجغرافيا، حينها عرفت شيئاً محدوداً عن اليمن ومدنها مثل تعز والحديدة، إضافة إلى الجنوب كما كان يطلق عليه في تلك الفترة، كنت أسمع عن عدن وحضرموت فقط من مناطق الجنوب، فقد كانت مدن اليمن متباعدة عن بعضها البعض كثيراً، وعندما كان أحد التجار يسافر من صنعاء إلى عدن، يقولون «فلان عدن» أي ذهب إلى عدن، مثله مثل شخص يذهب إلى بحر الظلمات أو القطب المتجمد الشمالي، وكان الوصول إلى تعز مستحيلاً، وكل مواطن من ساكني المناطق الجبلية في اليمن لا يعرف شيئاً عن البحر، حتى أن الإمام يحيى قتل وهو لا يعرف البحر الأحمر ولا الحديدة، فقد كان النزول إليهما شيئاً من المستحيل.
أعطيك مثلاً، أحد مواطني الروضة وهي على أطراف صنعاء عمر 011سنوات ولم يعرف صنعاء، لم يدخلها مرة واحدة وظل مقيماً في الروضة طوال حياته، هكذا كانت الحياة في عهد الإمام يحيى بالذات، مظلمة وقاسية إلى أبعد الحدود. كان الشعب يعتقد اعتقاداً روحياً أنه لادين إلا بالإمام، ولاصلاة إلا به ولا مأكل أو مشرب إلا بالإمام، لو تخلص الشعب من هذا الاعتقاد لتقدم خطوة إلى الأمام، ووصلت اليمن إلى مستوى أفضل مما كانت عليه في عهد الإمام.
نشأت إذاً في هذه البيئة، وتخرجت من المدرسة الابتدائية بمعلومات متواضعة جداً، لايوجد فيها شيء إلا حفظ القرآن، بالإضافة إلى علوم دينية متواضعة، ومنها شروط صحة الصلاة وبطلانها، الوضوء والإقامات وغيرها، بعدها بدأ والدي يأخذني إلى الجامع الكبير في صنعاء القديمة، وهناك أجدت قراءة القرآن بشكل جيد، ثم درست في الفقه، وفي المذهب الزيدي الهادوي، فقرأت في «متن الأزهار، وبذلت جهوداً كبيرة لدراسته، لأنه يتطلب من الدارس أن يحفظه عن ظهر قلب.
تركت الدراسة في الجامع الكبير وخرجت أعمل عملاً متواضعاً، فتحت لي مايعرف في اليمن ب«الصندقة»، أي «كشك» لابيع فيه سجائر، شوكولاته، حلويات من تلك التي كانت تباع في تلك الفترة، وإن وفرت 01 أو 02 بقشة كنت أساعد أبي فيها، أو أوفرها في السنة لاشتري بها ماتعرف ب«الزنة»، أي «الثوب الصنعاني» أو أوفرها لاشتري كتاباً أكتب عليه لتحسين خطي ليكون جيداً، وظللت فترة على هذه الحالة.
* هل أنت أكبر أخوتك ؟
- لا، نحن 01 إخوة، وأنا الخامس بينهم.
* كيف بدأت تتعرف على القراءة والاطلاع على الأوضاع العامة في اليمن والعالم ؟
- بعد انقلاب الشهيد أحمد الثلاثا عام 5591 تحرك الأمير محمد البدر إلى حجة لإنقاذ ومساندة والده، وليتصل بالجهات التي ساعدت والده في حركة 84 في حجة، ليستعين بها من جديد، فأطلق سراح مجموعة من مناضلي حركة 84، وكان من ضمن الذين خرجوا من السجن المناضل الكبير رحمه الله أحمد حسين المروني، الذي كان جاراً لنا، فبعد أن خرج من السجن ظل دون عمل ففتح في بيته غرفة يستقبل فيها بعض الشباب لتدريسهم اللغة العربية، البلاغة، الفلسفة الحديثة لأحمد أمين، بالإضافة إلى الكثير من العلوم الحديثة، ويوزع بعض الكتب من بينها «العدالة الاجتماعية» لسيد قطب، التي كانت تمثل في تلك المرحلة حاجة متقدمة، وتلك الكتب مهمة جداً منها «عقيدة المسلم» و«خلق المسلم» للشيخ محمد الغزالي، وكانت هذه الكتب تقرأ بشكل جماعي وبشيء من السرية، كانت نسخة كتاب «العدالة الاجتماعية» توزع سراً، ونسخة الكتاب كانت تنسخ باليد من قبل الكثير من الشباب في صنعاء.
جاء أحمد حسين المروني وكنت قد توسعت في «الصندقة» بالسلع والحلويات وبالشوكولاته والسجائر والكبريت والجاز، إذ لم تكن توجد في تلك الفترة كهرباء في صنعاء وفي اليمن عموماً، فقد كان الناس يضيئون منازلهم بالجاز، حتى أن الإضاءة بالجاز كانت تعتبر في تلك الفترة حاجة متقدمة. بعد أن كان يلقي حلقاته الدراسية وقراءته للكتب للكثير من الشباب كان المروني يخرج إلى عندي ليشتري «نعنع»، وكنت في تلك الفترة أهوى قراءة الكتب القديمة منها «رأس الغول»، «الف ليلة وليلة» وغيرها، وكان يجد لدي نهماً في القراءة ويناقشني في الكتب التي كنت أنتهي من قراءتها، وكان يجد عندي شيئاً من الاستيعاب فأعجب بي، وحينها لم يكن لدي أي حس أو توجه سياسي أو ثقافي.
بدأ المروني يأخذ بيدي ويعطيني كتباً حديثة، وبدأ يناقشني فيها، ووجدني وقد استسغتها، وعقليتي في تلك الفترة بدأت تتفتح وتشدني إلى عالم آخر، غير العالم الذي كنت فيه، خاصة بعد أن وجدت أجهزة الراديو طريقها إلى بعض منازل صنعاء القديمة.
في تلك الفترة كانت توجد في صنعاء 5 أجهزة راديو في بيوت كبار الأغنياء، وهي بيت السنيدار، بيت عسلان، غمضان، سيوف الإسلام، أولاد الإمام يحيى، وكنا نتجمع بالعشرات في الشوارع والحارات، يفتحون لنا نوافذهم لنستمع إلى الإذاعات، وكنا يومها نشعر أننا في عالم آخر ودنيا أخرى..بعد أن رأى الأستاذ المروني أنني استوعبت ماأعطاه لي، أعطاني كتباً أخرى لأقرأها، وحينها قال لوالدي إنه لا يجب أن أبقى بالكشك، ونصح بإلحاقي بالمدرسة المتوسطة التي تساوي اليوم المرحلة الإعدادية، كانت في تلك المرحلة مابين المتوسطة، والعلمية ودار المعلمين، ومابين الثانوية كأن تقول عليها اليوم «ثالث إعدادي» يدرسون فيها مادة الجبر وهي أعلى سقف للرياضيات حينها. أخذ المروني بيدي وتبناني كابن له، وإذا كان من فضل لإنسان تبناني ورعاني وطنياً وعلمياً وسياسياً فهو الأستاذ أحمد حسين المروني، يليه الدكتور عبدالعزيز المقالح فهو شخصية وطنية معروفة وواعية وذو إطلاع كبير ومتابع لكل مايتعلق بالأدب والثقافة والسياسة. وقد استفدت فائدة كبيرة من رعاية المروني، حيث بدأت أنخرط تدريجياً في العمل السياسي والثقافي والوطني، وأول مابدأت بقراءته كان كتاب «العدالة الاجتماعية»، وكنت أتساءل إن كانت هناك عدالة اجتماعية أو مساواة بين الناس في ظل الوضع الذي كنت أعيشه تحت حكم الإمامة في بلادي.
كان كتاب «العدالة الاجتماعية» يختلف عن كتب سابقة قرأتها مثل «ألف ليلة وليلة» و «رأس الغول»، وبدأ الاستاذ أحمد حسين المروني يشعر بهذا التقدم وأخذ يناقشني سياسياً، بدأت أبادر إليه في تلمس العمل السياسي، بعد أن بدأت ألمس التخلف في نظام بيت حميد الدين، كنت ألمس التمييز الطبقي الموجود في المجتمع وعدم المساواة بين أفراده.
بعدها بدأ المرحوم أحمد حسين المروني يعطيني كتيبات حول حركة الأحرار في اليمن، أتذكر أنه أعطاني حينها كتيباً حول الأطراف المعنية في تاريخ الحركة الوطنية للشاعر والثائر الكبير محمد أحمد نعمان، بالإضافة إلى عدة كتب وأدبيات ومنشورات ودراسات للاتحاد اليمني، أثرت كثيراً على حصيلتي الثقافية.
وبعدها جاء الاستاذ عبدالعزيز المقالح من حجة العام 5591فتعرفت عليه خلال تواجده بجانب الاستاذ المروني وتعمقت علاقتنا كثيراً. وهكذا بدأت أطلع على دنيا جديدة، فقد انتشرت أجهزة الراديو في صنعاء، بعد شراء من هو ميسور الحال لهذا الجهاز العجيب، وكان البعض يقوم بمد سماعات من منزله إلى بيوت الجيران، وبدأنا في حينها نستمع إلى إذاعة «صوت العرب» بصوت المذيع الكبير أحمد سعيد، وسمعنا عن ثورة 32 يوليو في مصر، وعن حركة قومية عربية، سمعنا عن مجلات وصحف من بينها «الرسالة»، وهذه الصحيفة كانت تأتينا عن طريق الاستاذ أحمد حسين المروني.
بعد ذلك جاء انقلاب 55، والذي فتح المجال للانطلاق أمام كل الشباب، كان جيل تلك المرحلة في الخمسينات والستينات لايعوض، ومن هؤلاء الشباب طلبة الكلية العسكرية، الحربية، الشرطة، الأسلحة، الطيران، هؤلاء هم النخبة الذين صعدوا من العمق الشعبي الواعي المثقف، ويصعب تعويضهم، فهم الذين قادوا المظاهرة في أحلك الظروف.
قرأت «العبقريات» و «مع الله في السماء» لعباس محمود العقاد، وقرأت أيضاً «صحيفة العروة الوثقى» لجمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده وديوان العبيدي الشاعر العراقي المشهور، وكتب المازني، هذه الكتب أمدني بها الأستاذ عبدالعزيز المقالح.
ودرست «سبل السلام»، 3 أجزاء لابن الأمير في علم الحديث جزء على يد القاضي محمد بن علي الأكوع الذي كان المؤذن للجامع الكبير وعلماء الحديث المشهورين، واختتمتها عند القاضي محمد إسماعيل العمراني، عالم الحديث الوحيد الموجود الآن، وتزاملت في دراسة «سبل السلام» مع الشهيد عبدالله اللقية.
قرأت أيضاً حينها «أهم القضيات» للاستاذ النعمان، وكتيب الاستاذ الزبيري كان من أدبيات الاتحاد اليمني، وقرأت في القصة «رد قلبي» ليوسف السباعي، ودواوين عيسى الناعوري، شاعر أردني ثائر معروف، قرأت القصة المشهورة وباهتمام ونهم للشهيد الزبيري «مأساة واق الواق» التي أحدثت نهضة توعوية رائعة في الساحة اليمنية حينها، وقصة «اللقيطة» وهي قصة مشهورة رائعة تأخذ طابعاً اجتماعياً.
جيلنا جاء على التثقيف الذاتي، وهو الأساس في العملية التطويرية والتجديدية لتوسيع الوعي الثقافي لنا. ومن الكتب التي قرأتها قبل الالتحاق بكلية الطيران وخلال نشأتي الثقافية، جميع كتب أدباء المهجر من جبران خليل جبران، وإيليا أبو ماضي وكتاب «فيض الخاطر» بأجزائه الثمانية لرفاعة الطهطاوي أول المبعوثين إلى فرنسا والعائدين إلى مصر، وقد مدني بهذه الكتب الاستاذ أحمد حسين المروني، و «فجر الإسلام» و «ضحى الإسلام» لأحمد أمين، مدني بها القاضي المرحوم محمد السياغي، الذي كان في السجن عام 55 في حجة وهو مناضل كبير.
وكانت هذه الكتب شيئاً كبيراً وعظيماً في تلك المرحلة التي فيها كل شيء عدم، الثقافة، الوعي والتعليم والعلم والصحة، كل ماهو اجتماعي وسياسي وثقافي واقتصادي كله عدم، فكانت تعتبر هذه الكتب شيئاً كبيراً جداً، وكان تناولها محدوداً، وكانت توجد عند أشخاص محدودين فقط، هذا مايتعلق بنشأتي الثقافية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.