عضو مجلس القيادة الرئاسي الدكتور عبدالله العليمي يلتقي قيادات التكتل الوطني للأحزاب والمكونات السياسية    حكومة صنعاء تمنع تدريس اللغة الانجليزية من الاول في المدارس الاهلية    فاضل وراجح يناقشان فعاليات أسبوع المرور العربي 2025    الهجرة الدولية: أكثر من 52 ألف شخص لقوا حتفهم أثناء محاولتهم الفرار من بلدان تعج بالأزمات منذ 2014    انخفاض أسعار الذهب إلى 3315.84 دولار للأوقية    مجلي: مليشيا الحوثي غير مؤهلة للسلام ومشروعنا استعادة الجمهورية وبناء وطن يتسع للجميع    وزير الصناعة يؤكد على عضوية اليمن الكاملة في مركز الاعتماد الخليجي    حرب الهيمنة الإقتصادية على الممرات المائية..    "خساسة بن مبارك".. حارب أكاديمي عدني وأستاذ قانون دولي    رئيس الوزراء يوجه باتخاذ حلول اسعافية لمعالجة انقطاع الكهرباء وتخفيف معاناة المواطنين    عرض سعودي في الصورة.. أسباب انهيار صفقة تدريب أنشيلوتي لمنتخب البرازيل    هل سمعتم بالجامعة الاسلامية في تل أبيب؟    وكالة: باكستان تستنفر قواتها البرية والبحرية تحسبا لتصعيد هندي    لأول مرة منذ مارس.. بريطانيا والولايات المتحدة تنفذان غارات مشتركة على اليمن    هدوء حذر في جرمانا السورية بعد التوصل لاتفاق بين الاهالي والسلطة    الوزير الزعوري يهنئ العمال بمناسبة عيدهم العالمي الأول من مايو    عن الصور والناس    حروب الحوثيين كضرورة للبقاء في مجتمع يرفضهم    أزمة الكهرباء تتفاقم في محافظات الجنوب ووعود الحكومة تبخرت    إغماءات وضيق تنفُّس بين الجماهير بعد مواجهة "الأهلي والهلال"    النصر السعودي و كاواساكي الياباني في نصف نهائي دوري أبطال آسيا    الأهلي السعودي يقصي مواطنه الهلال من الآسيوية.. ويعبر للنهائي الحلم    اعتقال موظفين بشركة النفط بصنعاء وناشطون يحذرون من اغلاق ملف البنزين المغشوش    غريم الشعب اليمني    مثلما انتهت الوحدة: انتهت الشراكة بالخيانة    الوجه الحقيقي للسلطة: ضعف الخدمات تجويع ممنهج وصمت مريب    درع الوطن اليمنية: معسكرات تجارية أم مؤسسة عسكرية    رسالة إلى قيادة الانتقالي: الى متى ونحن نكركر جمل؟!    جازم العريقي .. قدوة ومثال    دعوتا السامعي والديلمي للمصالحة والحوار صرخة اولى في مسار السلام    العقيق اليماني ارث ثقافي يتحدى الزمن    إب.. مليشيا الحوثي تتلاعب بمخصصات مشروع ممول من الاتحاد الأوروبي    مليشيا الحوثي تواصل احتجاز سفن وبحارة في ميناء رأس عيسى والحكومة تدين    تراجع أسعار النفط الى 65.61 دولار للبرميل    معسرون خارج اهتمامات الزكاة    الدكتوراه للباحث همدان محسن من جامعة "سوامي" الهندية    الاحتلال يواصل استهداف خيام النازحين وأوضاع خطيرة داخل مستشفيات غزة    نهاية حقبته مع الريال.. تقارير تكشف عن اتفاق بين أنشيلوتي والاتحاد البرازيلي    الصحة العالمية:تسجيل27,517 إصابة و260 وفاة بالحصبة في اليمن خلال العام الماضي    لوحة "الركام"، بين الصمت والأنقاض: الفنان الأمريكي براين كارلسون يرسم خذلان العالم لفلسطين    اتحاد كرة القدم يعين النفيعي مدربا لمنتخب الشباب والسنيني للأولمبي    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    النقابة تدين مقتل المخرج مصعب الحطامي وتجدد مطالبتها بالتحقيق في جرائم قتل الصحفيين    برشلونة يتوج بكأس ملك إسبانيا بعد فوز ماراثوني على ريال مدريد    الأزمة القيادية.. عندما يصبح الماضي عائقاً أمام المستقبل    أطباء بلا حدود تعلق خدماتها في مستشفى بعمران بعد تعرض طاقمها لتهديدات حوثية    غضب عارم بعد خروج الأهلي المصري من بطولة أفريقيا    علامات مبكرة لفقدان السمع: لا تتجاهلها!    حضرموت اليوم قالت كلمتها لمن في عينيه قذى    القلة الصامدة و الكثرة الغثاء !    عصابات حوثية تمتهن المتاجرة بالآثار تعتدي على موقع أثري في إب    حضرموت والناقة.! "قصيدة "    حضرموت شجرة عملاقة مازالت تنتج ثمارها الطيبة    الأوقاف تحذر المنشآت المعتمدة في اليمن من عمليات التفويج غير المرخصة    ازدحام خانق في منفذ الوديعة وتعطيل السفر يومي 20 و21 أبريل    يا أئمة المساجد.. لا تبيعوا منابركم!    دور الشباب في صناعة التغيير وبناء المجتمعات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هل أنت كاتب قصة.. أم حكاء سمج ؟! (2-3)
نشر في الجمهورية يوم 06 - 11 - 2008

الحقيقة أن بعض الممارسين للكتابة القصصية والروائية يظنون أن مسألة الكتابة القصصية تتوقف على تقديم حكاية ما للقارئ ، واضعين كل طاقتهم الإبداعية رهن الحكاية المخترعة أو المختلقة أو كما يقال “المفبرَكة” .
ثمة حكاءون إذن يسعون إلى وضع الصفة الحكائية محل الصفة الأدبية . ومن ثم لا يجب مناقشتهم فى حقول الأدب، لا لشيئ إلا لأنهم كعامة البشر يحكون، فكل البشر لديهم القدرة على الحكي وعلى اختلاق الحكايا ، إلاّ أن الأدب القصصى والروائى يتعلق بداية بالقدرة على تحويل المخيل السمعى إلى مخيل كتابى .. إلى نص .. وبغير النص الذى عماده اللغة لا الحكاية يجب ألا نناقش هذه الأعمال من الأساس، لكنما وفى الغالب نحن مضطرون إلى مناقشتهم طالما أنهم مصرون على الجلوس تحت راية المسمى الأدبي .
ثانياً: الجوانب الفنية للنص القصصي
1 القصة كعمل درامي:
لقد تطور فن القصة خلال القرون الثلاثة الماضية حيث وصل في عصرنا الحاضر إلى ما يُسمى بالقصة الدرامية، ولا شك أن القصة ذات الطابع الدرامي هي أرقي أنواع التعبير القصصي المعاصر ، والدراما تعني ببساطة الصراع في أي شكل من أشكاله ، والتفكير الدرامي هو ذلك اللون من التفكير الذي لا يسير في اتجاه واحد ، وإنما يأخذ دائماً في الاعتبار أن كل فكرة تقابلها فكرة، وأن كل ظاهر يستخفي وراءه باطن، وأن التناقضات وإن كانت سلبية في ذاتها فإن تبادل الحركة بينها يخلق الشيء الموجب، ومن ثم كانت الحياة نفسها إيجاباً يستفيد من هذه الحركة المتبادلة بين المتناقضات.
وإذا كانت الدرما تعني الصراع ، فإنها تعني أيضاً الحركة من موقف إلى موقف مقابل، ومن عاطفة أو شعور إلى عاطفة أو شعور متقابلين، ومن فكرة إلى وجه آخر من الفكرة ، وهي موضوعياً أي الدراما تتخذ مادتها من الحياة ، وربما لهذا يقال : إن الحياة في طبيعتها درامية .. طبيعة بناء الحياة في مجملها قائمة على هذا الأساس الدرامي، فلا غرو أن تتمثل الدراما في كل جزئية من جزئيات هذا البناء، وأعني مفردات الحياة ذاتها. وربما لهذا يقال إن التفكير الدرامي تفكير موضوعي إلى حد كبير حتي عندما يكون المعبر عنه موقفاً أو شعوراً ذاتياً صرفاً. وعموماً فإنه ليس من السهل أن يتحقق الطابع الدرامي في العمل القصصي ما لم تتمثل وراءه أو فيه العناصر الدرامية الموضوعية الأساسية وأعني بها الإنسان والصراع وتناقضات الحياة ومفارقاتها.
وبجانب خاصيتي الحركة والموضوعية اللتين تميزان التفكير الدرامي هناك خاصية اساسية هي التجسيد ، إذ لا يأتلف التفكير الدرامي ومنهج التجريد؛ لأن الدراما أي الحركة لا تتمثل في المعنى أو المغزي ، وإنما تتمثل فيما يؤدي إلى معنى ومغزى، وأعني الوقائع المحسوسة التى تصنع نسيج الحياة ، ومن ثم كان التفكير الدرامي هو التفكير بالأشياء، أي مجسماً لا تفكيراً تجريدياً، ولهذا فإن من سمات العمل القصصي الدرامي أنه يعنى بالتفصيلات الحية والجوهرية.
ولذلك فإن طبيعة العمل الفني الرامي ينظر إليها من جانبين، الفني والرؤيوي معاً، إذ لا يمكن أن يكون التفكير دراميا والناتج الفني غير ذلك، والعكس أيضاً صحيح، ولا يمكن أن يكون التعبير درامياً مالم يكن الدافع الأول للكتابة يحمل في ثناياه بذوراً درامية.
فمن حيث الرؤية فإن الفنان في إطار التفكير الدرامي يدرك أن ذاته ليست معزولة عن بقية الذوات الأخرى في العالم الموضوعي بعامة، وإنما هي ومهما كان استقلالها ليست إلا ذاتاً مستمدة من ذوات تعيش معها في عالم موضوعي تتفاعل معه ، وهو ينفتح ببصيرته على دراما الحياة في مسيرة سعيه الدؤوب لرصد الأشياء وفهم الحياة على التناقض الذي يتمثل في أبسط جوانب الحياة قبل أن يكون في أكثر الجوانب تعقيداً. وهو أي الفنان في حالتي الصراع ورصد المتناقضات ، و المفارقات قادر على أن يقدم إلينا إنتاجاً درامياً من الطراز الأول، إذ يستطيع أن يقيم بناء فلسفياً يفسر لنا الحياة والأشياء تفسيراً خاصاً. ، ومن ثم وفي إطار التفكير الموضوعي لا يمكن للفنان أن يصب شعوره أو فكره إلا في إطار البنية الدرامية العامة للحياة.
ولذلك يقال إن من طبيعة التفكير الدرامي أنه لا ينظر في اتجاه واحد ، ولا يتوقف عند السطوح ، ولا يقول ما قيل من قبل ، ولا يقول ما قيل دون معاناة، وكما قال الدكتور عز الدين اسماعيل في معرض حديثه عن النزعة الدرامية : ” إننا في عصر لم تعد فيه السطوح الملساء تستثيرنا، لكثرة ما استثارتنا من قبل ولم تعد الأنوا وحدها تبهرنا، ولم يعد الظلام وحده يخيفنا، ولكن حين يجتمع النور والظلام يكون البهر والخوف” ، وربما أن المثل القديم ” إنما يظهر الشىء ضدُه” قائم أساساً على تصور الفكرة بين نقيضين، هكذا يمكننا أن نقرر أن النبرة الوعظية المباشرة ، والخطاب الممهود المسطح،الذي يؤثر السلامة فوق السطوح الملساء، لم يعد لهما موضع في الخطاب العصري الدرامي، ربما لأنهما فقدا جدواهما على التأثير، لمجافآتهما طبيعة الحياة من جهة ، ومن جهة أخرى لأن إنسان العصر لم يعد من السذاجة التي تجعله بحالة ما يتأثر بخطابات لا تتماهي مع طبيعة الحياة المتصارعة، بمفارقاتها، وانهياراتها المتلاحقة، وحركيتها التي لا تريم. وربما لهذا يقال: لا تسطح ولا استواء في العمل الدرامي، والفنان المنهمك في فهم الحياة لا يمكن بحالة ما إلا أن يكون صاحب نزعة درامية مسيجة بالوعي الشمولي، وإن وعي الفنان هذا هو ما يحميه دائماً من التسطح والإبتذال والتفاهة، وربما لهذا يقال أيضاً : إن السارد (الراوية) المطمئن غير مقنع وغير منطقي وغير مؤثر، إن اطمئنانه يجعله منفصلا عن الواقع المضطرب الذي يتصارع من حوله، ولذلك يفرض عليه اطمئنانه كثيراً من التمهيدات والتهييئات قبل الدخول إلى الحدث، كما يعطيه سلطة السيطرة على الزمن ، فنراه يوقف الدراما ويعطل الحركة أحيانا ممارساً ثرثرته حول الحدث، وحول أفعال الشخوص وتصرفاتهم، وهو غير مقنع لأنه في عالم اللايقين يمكنه أن يدخل إلى رؤوس ونفوس الشخوص لينقل لي بدلاً عنهم كيف يشعرون الآن، وفيما يفكرون.
ومن حيث الفن فإن للتعبير الدرامي وسائله في النص القصصي الكثيرة، منها ما نلمسه من عناية بالتفصيلات الحية والجوهرية والتي من خلالها تتجسد رؤية القاص، فمهما يقال إن الدراما متجسدة في الحياة ، فإن اكتشافها رهن برؤية الفنان عموماً.، ما نلمسه على مستوى الحدث من صراع بين النقائض، وفي الحركة والحركة المتقابلة بين الأفعال وردود الأفعال، وسائر المقابلات التي تغذي الدراما، ، وعلى المستوى التعبيري ما نلمسه فى اللغة من مقابلات.بين الصور والمفردات، أوبين الجمل والألفاظ، أو المقابلات بين الأبعاد الداخلية للشخوص وخارجهم، ولهذا كان الحوار بنوعيه الداخلي (المنولوج) والخارجي (الديالوج) من العناصر المغذية للدراما في النصوص لو أحسن توظيفهما، ومن شواهد التعبير في الدراما أيضاً ارتباط اللغة بالموقف الدرامي الذي يعبر عنه الفنان، ولذلك من ضمن فنيات القصة الدرامية وجمالياتها أن تأتي لغة السرد الدرامي متوائمة مع الحدث ومع الشخوص وبيئاتهم ورغباتهم ومستوى تفكيرهم.
ولنا أن نتوقف ونحن في طريقنا إلى الأسس البنائية للقصة القصيرة عند السارد (الراوية) باعتباره صاحب السرد، وصاحب وجهة النظر القصصية ، وصاحب منظور القص الذي يمارس من خلاله رصد الأحداث، أو باختصار هو أداة المؤلف للتعبير عن الدراما.
2 السارد ووضعيته:
كثيراً ما تنتاب المرء منا رغبة أن يحكي لأصدقائه حكاية ما حدثت معه أو أمامه في الحقيقة، وهو يعلم أنه بمجرد أن يشرع في الحكي عليه أن يتحول إلى راوية، ومهمته واضحة هو نقل حكاية ما، حدثت حقيقة، لكنه حقيقة يتساءل: لماذا أنا راغب في نقل هذه الحكاية للآخرين؟ .. وعليَّ أن أجيب بيني وبين نفسي؛ إذ لابد أنني أهدف إلى توصيل رؤية ما من وراء الحكي، إذ ليس من المعقول أن يكون الهدف هو مجرد التسلية، أو حتي مجرد إعادة إنتاج الواقع الذي يراه ويشاهده الناس ويألفونه.. إن مجرد ألفتهم للواقع تعني أنني بالنسبة لهم أطرق المطروق، أو أعيد عليهم ما يخبرونه جيداً .. من ناحية أخرى لابد أن أسأل نفسه: أين أنا من الأحداث التي سأرويها: أو بالمعنى هل أنا مجرد مراقب من الخارج ودوري الآن هو النقل فقط،، أم النقل والتعليق والتعقيب على الأحداث، أم أنني حقيقة كنت مشاركاً فيها مثل بقية الشخوص، وهل أنا مشارك بدور أساسي أم كنت هامشياً في الأحداث، أم أنني حقيقة سأنقل أحداثاً لم أكن مشاركا فيها، ولم أكن أعي تماماً ما يدور ولكني سأنقل ما يمكن أن يكون قد وصلني منها على قدر استيعابي .. باختصار على الراوية أن يحدد وضعيته من الشخوص والأحداث .. السؤال الذي يمكنه أن أسأله لنفسه قبل أن أشرع في الحكي: من أين أبدأ ؟ لقد حدثت الأحداث في الحقيقة دفعة واحدة أو جملة مترابطة، وفي زمن مركب ( زمن القصة في الحقيقة) وعليَّ الآن أن أسلسلها في زمن آخر متسلسلة أفقيا حدثاً وراء حدث ( زمن القصة في النص) ، ثم أقوم بعملية الربط بينها حتي يستوعب المحكي له العلاقة بين جزئيات الحدث، إذن عليَّ أن أكون صاحب منظور قصصي معين يؤهلني لتشويه زمن القصة التى حدثت حقيقة؛ ليتسني لي عرضها بشكل آخر وفق تراتبية زمنية مختلفة.. من ناحية أخرى أنا أسأل نفسي أيضاً : كيف أبدأ الحكاية .. هل سألتزم بمنطق حدوثها في الحقيقة أم سأبدأ وفق منطقي الخاص، كأن أبدأ من نهايتها مثلا ثم أعود لاحقاً إلى البداية، أم أبدأ من المنتصف، ثم أرتد إلى البداية، وهذا معناه أنني لابد أن أكون صاحب منظور معين للقص يتفق مع وضعيتي التي حددتها سلفا، ويتفق مع وجهة النظر التي أمتلكها أساساً، وعلي أن أتساءل أيضاً هل أنا مجرد سارد للقصة، أم أنني في الحقيقة صاحب أسلوب قصصي مشوق وممتع ومتفرد ( مؤلف ) وعليّ أن أفصل بين كوني مؤلفاً، وبين كوني سارداً، وربما أنني تراجعت أمام عملية القص إذا اكتشفت في لحظة ما أنني لست أهلا لأن ألعب دور المؤلف .. ومن جهة أخرى علي أن أسأل نفسي هل ما حدث فى الحقيقة يصلح لعرضه الآن كحكاية لها خاتمتها المنطقية، أو المفارقة؟، وهل لها مبتدأها الممهود لاستيعاب وجهة النظر، وهل هي حكاية غنية بما يؤهلها لتغذية السرد بعناصر مؤهلة لصنع حكاية مشوقة ذات مغزى؟؟ .. ثمة اسئلة كثيرة إذن وسمة أدوار، ووضعيات ووجهات نظر ومنظور قص، وأسلوب سرد، ورؤية ما من وراء السرد، وفي النهاية ثمة مؤلف ناسج له سمة الأديب الذي يستطيع أن ينشيء باللغة وعليه أن يتسامى عن مجرد كونه سارداً إذ المفترض أن السارد من إختراعه، والمفترض أن السارد مجرد أداة من ضمن أدواته الأخرى.
لعلني بهذه المقدمة أكون قد مهدت للوصول إلى ما أقرته نظرية البويطيقا بخصوص دور السارد (الراوية) ووضعيته، وبخصوص التفرقة بين القصة كما حدثت في الحقيقة، وبين العمل القصصي.. وقبل أن أعرض لهذه الآراء أتوقف عند مقولة من عينة ما قرأناه ونقرأه عند المبتدئين وأحيانا غير المبتدئين وهم يضعون لافتة فوق النص تؤكد أن ” هذه قصة واقعية” دون أن يدركوا أن كلمة واقعية لا تعني أنها حدثت في الحقيقة، فثمة واقعي وحقيقي، الواقعي هو النقيض من الرومانسي، وهو أيضاً النقيض من السريالي، وهو النقيض من الأسطوري، ولا يعني ذلك حدوثه على وجه الحقيقة، بل يعني إلتزامه بالواقع على مستوى الرؤية، هو تصنيق رؤيوي فلسفي إذن، يجر إلي اشتراطات فنية عند الكتابة، أما الحقيقي فهو ما حدث بالفعل وما يمكن أن نقرأه في صفحات الحوادث في الجرائد، وما يجري على ألسنة الناس من حكايا حول ما فعلوه أو ما شاهدوه ، ومهما كان أسلوبهم، فإن ما يحكونه ليس عملا قصصياً، لأنه لم يجب عن كل الأسئلة التي سبق أن طرحتها، ولأن مهمة عرضه ليست مهمة الأديب / الفنان، فإعادة إنتاج الواقع ليست من الفن في شيء، الفنان هو من يفن، ولعل الإبداع أساسا كتعريف قاموسي هو الخلق على غير مثال سابق .
ولعل كل الدراسات التي تمت أو تتم على القصة القصيرة أو الرواية ، تبدأ من اعتباره عملاً سردياً، له سارد (راوية) وهو شخصية وهمية مخترعة لأداء دور معين، مثله مثل الكاميرا أحيانا في يد المصور عليه أن ينقل الأحداث بحيادية، إذن هو في النهاية أداة من أدوات القاص (المؤلف) وله مستوى لا يتخطاه، أو بالمعنى هو في إطار دوره يختلف عن المؤلف، ومن ثم له وجهة نظر ترتبط بوضعيته بالنسبة للشخوص والأحداث، وله مستوى معين من الفكر والثقافة في إطار دوره أيضاً، وهو مختلف بالضرورة عن مستوي المؤلف (صاحب آلاف الرواة أو الساردين عبر أعماله الإبداعية) لذلك يمكننا ببساطة اكتشاف سطوة المؤلف على الراوية ودوره عندما نجد أسلوب الراوية أعلى بكثير من وضعيته في القصة، وأعلى من مستواه الفكري والثقافي المفترض إذا كان من الشخوص ساعتها يمكننا التعرف على مستواه من خلال حكيه عن نفسه ، ومن خلال سلوكه الفعلي ومساهماته في الأحداث، أو من خلال المعلومات التي يوفرها لنا عن نفسه، كأن نأتي بعامل في البلدية مثلا، ولم يتلقى تعليماً، ومن وسط فقير ثقافياً، ومادياً وحضارياً، ثم نجعله بطل القصة وراويها ، ثم نجعله يتكلم فى حواراته بلغة قاموسية رصينة ، ثم ننطقه بمنطق المثقفين، ثم نجري على لسانه حديثا يفيض فلسفة وتحليلاُ للواقع ، أو تتساقط منه عبارات تنم عن تخصصية علمية، أو تبحر فكري .. هنالك نكتشف أن المؤلف أعطى الراوية إجازة مفتوحة وبدأ يتحدث نيابة عنه، وهنالك نقول : لقد سقطت الأداة الأولى في يد المؤلف وهو الراوية ومن ثم لا عمل قصصي في الأساس، إذ بانهيار السارد (الراوية) ينهار السرد تماماً.
إذن عندما نشرع في السير فى دراسة وضعية /وضعيات السارد فى علاقتها ببنية النص يجب أن نفرق بداية بين القصة كما حدثت أو تحدث في الحقيقة وبين العمل القصصي / النص باعتبار الأخير وسيطا قصصياً / خطاباً.
ثمة فارق كبير إذن بين النص القصصي والقصة أو الأحداث الحقيقية قبل أن تتجسد فى نص إذ تُرى أحداثا ينظر إليها على أن لها وجوداً مستقلا عن أية وجهة نظر معينة تظهر من خلالها الأحداث في العمل القصصي/ النص. ويُنطر إليها على أن لها خصائص الأحداث الحقيقية التي لها وجود فعلي ، والأحداث فى وجودها الفعلي يمكن أن تحدث جملة ” فى لحظة واحدة ” لكنها فى الخطاب القصصي تأتي بكيفية ما وفق نظام زمني أفقي تراتبي قد يستغرق مساحة زمنية طويلة لذلك يمارس السارد( الراوية ) كافة صلاحياته – باعتباره صاحب الخطاب القصصي وصانعه - فى تشويه هذا الزمن الأفقي ليربكه ويجعله قادرا على استيعاب الأحداث بشكل أو بآخر، وربما يترتب على هذا الإرباك والتشويه الزمني أن العمل القصصي ربما لا تظهر فيه العلاقات بين حدث وحدث بشكل يتفق ومنطق الواقع أو منطق حدوثها فى الحقيقة أو حتى ترتيبها.
والسارد وهو يقوم بهذا الفعل لا يقوم به اعتباطاً وإنما يتم الأمر وفق منظور معين أو وجهة نظر معينة.
هذا المنظور أو وجهة النظر هو الذى يحدد وضعية السارد مكانياً وزمانياً بالنسبة لشخوص قصصه .
والحقيقة ان وضعية السارد تثير مشكلات منهجية عدة ، يتعلق بعضها ببنية النص وبعضها الآخر يتعلق بالقيم المبثوثة فى النص ، وبعض ثالث يتعلق بالعلاقة بين النص والمؤلف ، وبعضها يتعلق بأسلوب السرد ، وبعضها يتعلق ببنية الزمن القصصي، وبعضها يتعلق ببنية المكانية في النص.
ولقد حدد ” تزفيتان تودوروف ” وضعيات أو تجليات السارد فى النص فى ثلاثة أصناف:
السارد أكبر من الشخصية القصصية أو الروائية (الرؤية من الخلف)وهو ما يسمى بالسارد العليم الذي يبدو أعلى من شخوصه .
السارد مساوٍ للشخصية ( الرؤية مع أو الرؤية المصاحبة) وهو أقرب إلى الكامرا الذي عليها أن تنقل الأحداث بحيادية.
السارد أصغر من الشخصية ( الرؤية من الخارج أو الأمام) وفيها تبدو معلومات السارد أقل من شخوصه، كأن ينقل مثلا قصة من داخل المناجم ، وهو لتوه يدخل منجما لأول مرة في حياته.
ولقد كان القصاص والروائيون التقليديون لايعرفون أو لا يكادون يعرفون إلا مايسمى في تقنيات السرد بالرؤية من الخلف، حيث الراوية المسيطر على الحدث والشخوص يعرف كل صغيرة وكبيرة ويسمح لنفسه بالشروح والتعليق على الأحداث ، وربما أعطى لنفسه حق السخرية من الشخوص، ويسمح لنفسه أيضاً للدخول إلى جوانيات الشخوص وينقل ما في ضمائرهم، ونفسياتهم، وربما يمارس بعضاً من التعليق عليها وشرحها باعتباره عليما بكل شيء، ولذلك يبدو سرده مليء بالثرثرة، وبالفجوات غير الدرامية أي الخالية من الفعل ورد الفعل ، أو الأحداث، فيما يحتل وحده مساحات كثيرة من السرد، بعيدا عن صلب الأحداث.
هذا بالنسبة للسارد ووضعيته .. أما عن القصة القصيرة كعمل نوعي له سماته الفنية المحددة التي تجعله عملا فارقا عن الأجناس الأدبية الأخرى ومهما قيل أنه يستوعبها أو يتماس معها، ومهما قيل أن الحدود سقطت بين العرق والجنس واللون ، فإن كل ذلك يأتي من باب التقارب والاستيعاب وليس من باب القضاء على النوعية.
إننا لا نستطيع أن نلغي تاريخ الأدب ونظرياته والمنجز فيه من أعمال فنية، ولكن علينا أن ننطلق منها لا عليها، هذه واحدة، الثانية لكي أنطلق منها لابد أن أعيها أولاً، ومهما يقال إن الفن هو التجاوز أو اجتياز المحددات التقعيدية ولعل هذا صحيح يبقي شرطنا في مضمار الفن أن الخروج على الفن لابد أن يكون بفنٍ أيضاً .
ولعلني أكون ممهداً بذلك لعرض ما اتفقت عليه المراجع الأدبية في مجال القصة القصيرة كعمل نوعي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.