موقف بطولي.. مواطنون يواجهون قياديًا حوثيًا ومسلحيه خلال محاولته نهب أرضية أحدهم.. ومشرف المليشيات يلوذ بالفرار    إصابة مواطن ونجله جراء انفجار مقذوف من مخلفات المليشيات شمال لحج    اليونسكو تطلق دعوة لجمع البيانات بشأن الممتلكات الثقافية اليمنية المنهوبة والمهربة الى الخارج مميز    وعود الهلآّس بن مبارك ستلحق بصيف بن دغر البارد إن لم يقرنها بالعمل الجاد    600 ألف دولار تسرق يوميا من وقود كهرباء عدن تساوي = 220 مليون سنويا(وثائق)    للجنوبيين: أنتم في معركة سياسية تاريخية سيسقط فيها الكثير وتنكشف أقنعتهم    تغاريد حرة.. عن الانتظار الذي يستنزف الروح    أقذر أنواع الحروب هي حرب الخدمات... بريطانيا وإسرائيل أشرف من الاحتلال اليمني    يوفنتوس يتوج بلقب كأس إيطاليا للمرة ال15 في تاريخه    انطلاق أسبوع النزال لبطولة "أبوظبي إكستريم" (ADXC 4) في باريس    تسليم الجنوب لإيران "لا يجب أن يتم عن طريق دول الجوار"    المملكة المتحدة تعلن عن تعزيز تمويل المساعدات الغذائية لليمن    ترحيل أكثر من 16 ألف مغترب يمني من السعودية    وفاة طفل غرقا في إب بعد يومين من وفاة أربع فتيات بحادثة مماثلة    أوقفوا هذا العار.. إعلان إسرائيلي غاضب ضد ''توكل كرمان'' بسبب تصريحاتها الجريئة عن حرب غزة    انهيار جنوني .. لريال اليمني يصل إلى أدنى مستوى منذ سنوات وقفزة خيالية للدولار والريال السعودي    عاجل: قبائل همدان بصنعاء تنتفض ضد مليشيات الحوثي وتسيطر على أطقم ومعدات حوثية دخلت القبيلة "شاهد"    سرّ السعادة الأبدية: مفتاح الجنة بانتظارك في 30 ثانية فقط!    نهاية مأساوية لطبيبة سعودية بعد مناوبة في عملها لمدة 24 ساعة (الاسم والصور)    الكشف عن ترتيبات أمريكية مؤلمة للحكومة الشرعية وقاسية على القضية الجنوبية    هل تتجه المنطقة نحو تصعيد عسكري جديد؟ كاتب صحفي يكشف ان اليمن مفتاح اللغز    ظلام دامس يلف عدن: مشروع الكهرباء التجارية يلفظ أنفاسه الأخيرة تحت وطأة الأزمة!    نجل قيادي حوثي يعتدي على مواطن في إب ويحاول ابتزازه    البريمييرليغ: اليونايتد يتفوق على نيوكاسل    شاهد: مفاجأة من العصر الذهبي! رئيس يمني سابق كان ممثلا في المسرح وبدور إمراة    600 ألف فلسطيني نزحوا من رفح منذ تكثيف الهجوم الإسرائيلي    وصول دفعة الأمل العاشرة من مرضى سرطان الغدة الدرقية الى مصر للعلاج    تطور مفاجئ.. فريق سعودي يقدم عرضا ضخما لضم مبابي    اختتام البرنامج التدريبي لبناء قدرات الكوادر الشبابية في الحكومة    استعدادا لمواجهة البحرين.. المنتخب الوطني الأول يبدأ معسكره الداخلي في سيئون    ياراعيات الغنم ..في زمن الانتر نت و بالخير!.    بائعات "اللحوح" والمخبوزات في الشارع.. كسرن نظرة العيب لمجابهة تداعيات الفقر والجوع مميز    بريطانيا تخصص 139 مليون جنيه استرليني لتمويل المساعدات الإنسانية في اليمن مميز    استقرار اسعار الذهب مع ترقب بيانات التضخم الأميركية    وزارة الحج والعمرة السعودية توفر 15 دليلاً توعوياً ب 16 لغة لتسهيل رحلة الحجاج    بمشاركة أهلي صنعاء.. تحديد موعد بطولة الأندية الخليجية    نيمار يتصدر معدل صناعة الفرص في الدوري السعودي رغم غيابه! (فيديو)    وزيرا المياه والصحة يبحثان مع البنك الدولي تمويل إضافي ب50 مليون دولار لمشروع رأس المال البشري مميز    صحة غزة: ارتفاع حصيلة الشهداء إلى 35 ألفا و233 منذ 7 أكتوبر    تسجيل مئات الحالات يومياً بالكوليرا وتوقعات أممية بإصابة ربع مليون يمني    دعوة مهمة للشرعية ستغري ''رأس المال الوطني'' لمغادرة صنعاء إلى عدن وتقلب الطاولة على الحوثيين    هل الشاعرُ شاعرٌ دائما؟ وهل غيرُ الشاعرِ شاعر أحيانا؟    لماذا منعت مسرحيات الكاتب المصري الشرقاوي "الحسين ثائرآ"    قطع الطريق المؤدي إلى ''يافع''.. ومناشدات بتدخل عاجل    قصص مدهشة وخواطر عجيبة تسر الخاطر وتسعد الناظر    وداعاً للمعاصي! خطوات سهلة وبسيطة تُقربك من الله.    ثنائية هالاند تُسحق ليفربول وتضع سيتي على عرش الدوري الإنجليزي!    في الذكرى ال 76 للنكبة.. اتحاد نضال العمال الفلسطيني يجدد دعوته للوحدة الوطنية وانهاء الانقسام مميز    وفاة امرأة وطفلها غرقًا في أحد البرك المائية في تعز    سنتكوم تعلن تدمير طائرتين مسيرتين وصاروخ مضاد للسفن فوق البحر الأحمر مميز    افتتاح مسجد السيدة زينب يعيد للقاهرة مكانتها التاريخية    أسرارٌ خفية وراء آية الكرسي قبل النوم تُذهلك!    الامم المتحدة: 30 ألف حالة كوليرا في اليمن وتوقعات ان تصل الى ربع مليون بحلول سبتمبر مميز    في افتتاح مسجد السيدة زينب.. السيسي: أهل بيت الرسول وجدوا الأمن والأمان بمصر(صور)    احذر.. هذه التغيرات في قدميك تدل على مشاكل بالكبد    دموع "صنعاء القديمة"    اشتراكي المضاربة يعقد اجتماعه الدوري    هناك في العرب هشام بن عمرو !    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هل أنت كاتب قصة.. أم حكاء سمج ؟!
نشر في الجمهورية يوم 05 - 11 - 2008

الحقيقة أن بعض الممارسين للكتابة القصصية والروائية يظنون أن مسألة الكتابة القصصية تتوقف على تقديم حكاية ما للقارئ ، واضعين كل طاقتهم الإبداعية رهن الحكاية المخترعة أو المختلقة أو كما يقال “المفبرَكة” .
ثمة حكاءون إذن يسعون إلى وضع الصفة الحكائية محل الصفة الأدبية . ومن ثم لا يجب مناقشتهم فى حقول الأدب، لا لشيئ إلا لأنهم كعامة البشر يحكون، فكل البشر لديهم القدرة على الحكي وعلى اختلاق الحكايا ، إلاّ أن الأدب القصصى والروائى يتعلق بداية بالقدرة على تحويل المخيل السمعى إلى مخيل كتابى .. إلى نص .. وبغير النص الذى عماده اللغة لا الحكاية يجب ألا نناقش هذه الأعمال من الأساس، لكنما وفى الغالب نحن مضطرون إلى مناقشتهم طالما أنهم مصرون على الجلوس تحت راية المسمى الأدبي .
لكنما ويجب أن نحْذَر الدخول معهم فى مناقشات واسعة عالية، طالما تأكد لنا أن هذه التجارب لم تحقق أوليات التجربة الإبداعية واشتراطاتها؛ إذ المفترض فى هذه الحالة هو تحقيق الصدمة المطلوبة لهذه المنجزات الحكائية حتى نصل بهم إلى صحوة الحياة الأدبية / التوالد الإبداعي، والإنزياح عن الإرث المشترك إلى اللغة الخاصة.
ولعل هذا ما يجعلنا نقرر أن الانزياح هو الذي يحكم اللغة الأدبية بينما الدلالة الواقعية البسيطة أو حتى العميقة هى التى تحكم اللغات الوظيفية بوجه عام .
إن الأديب يعكس وعيه بالحياة من خلال اللغة وطريقة استخدامه لها لا من خلال الحكاية التى يمارسها .
وخضوعا لمنطق الحكاية التى لا نشك أنها عنصر من عناصر كثيرة تخص العمل القصصي أو الروائي فإننا مضطرون أن نعرج إلى التفرقة اللازمة بين الأحداث التى تنبني عليها القصة فى وجودها المستقل، قبل أن تتحول إلى عمل أدبي، وبين النص الأدبي باعتباره وسيطاً روائيا أو قصصياً له منطقه الخاص فى إعادة رصد هذه الأحداث من منظور زماني ومكاني مغاير، وثمة تفرقة أخرى بين المؤلف والراوية (السارد) … المؤلف له استقلاليته باعتباره مخترعاً للراوية (السارد) وإن شئنا الدقة خالق له، والمؤلف بالضرورة هو خالق لعشرات الرواة (الساردين) فى عشرات النصوص، ولكن استقلال المؤلف يجعله بمنأى عن الالتحام بالراوية ( السارد) .
من ناحية أخرى ثمة تفرقة بين القارئ الضمني الذي يتوجه إليه المؤلف بالخطاب لحظة الكتابة، وبين القارئ المفترض.. القارئ الضمني هو قارىء وهمي يتوجه إليه المؤلف بالخطاب لحظة الكتابة ، والقارئ المفترض يظل مفترضاً فى التاريخ وهو الذى يتوجه إليه الراوية بالنص، وهو قارئ حقيقي، هو من بيننا نحن جمهرة القراء المفترضين في التاريخ.
هذه التفرقة تبدو أولية وضرورية ومن دون الوعى بها سيصبح المؤلف راوية، والقارئ المفترض هو القارئ الضمني ، ومن ثم ستصبح الرواية أو القصة باعتبارها نصاً أدبياً مجرد حكاية يتوجه بها كاتبها إلى آخرين لا باعتباره أديباً، وإنما باعتباره ممارسا لتزجية الفراغ أو حكاءً مهمته تسلية الجماهير بدعوى توعيتهم ، ثمة زعم أن تتحول التسلية إلى عمل مؤثر يثَوِّر الجماهيرأو يوعيها، هذا كلام من قبيل الهرطقة لأن الأديب ليس جماهيرياً من ناحية ومن ناحية أخرى الغرض يظل عبثياً؛ لأن المهرج يظل مهرجا فى نظرنا إليه.
الأديب أديب بلغته وإلا فلا .. إن اختيار لغة الرواية ليس أمراً ميسوراً .. إذ هل علينا ونحن نكتب أن نراعي مستويات المتلقين الذين نفترض وجودهم افتراضاً ما ، وذلك على مذهب الأدب التعليمى الذى يذهبه النقاد العرب التقليديون والمتمثل فى أن الأدب يجب أن ينهض بوظيفة تنويرية في المجتمع، وعليه أن يفيد الناس ويهذبهم تهذيبا ؟ ومع إننا لا نذهب هذا المذهب العليل، ومع أننا أيضا نقر بأدبية اللغة حين تنشط عبر نفسها، فإننا مع ذلك نميل إلى ألا تكون هذه اللغة عامية ملحونة أو سوقية هزيلة أو متدنية رتيبة، و إلي استخدام لغة شعرية ما أمكن، مكثفة ما أمكن ، موحية ما أمكن، تصنع الجمل القصار ما أمكن، وتكون مفهومة مع ذلك لدى معظم القراء الذين لن يكونوا بطبيعة الحال عمالاً أو فلاحين أوحتى معلمى المدارس . هذا من ناحية ،ومن ناحية أخرى يوم أن يتنازل الأديب عن دوره وعن لغته التى هى دوره ليتحول إلى رجل مخترع للحكايات مفبرك للأحداث، خاضع تماماً لمنطق الواقع ومستخدم لأية لغة للتوصيل لا التخييل، فبماذا يمكننا مناقشته غير أن نُخضِع النقاش لنفس المستوى، وننظر فى حكايته التى يفبركها لنحصي له ما سقط فيه من فجوات أثناء الحكاية وما فاته أن يسبر غوره أمام الصابرين من القراء .

ومن المسلم به أن الحكم النقدي أو الرأي النقدي التقييمي يركز عند النظر في نصوص القصة القصيرة على أمرين اثنين .. أولهما التحقق أو التأكد من أدبية النص، أو إجراء المراجعات حول تلك الأدبية إذا كانت قائمة بالفعل؛ بغية تصويب مسارها، وهي عملية تتعلق باللغة وكيفية استخدامها وتوظيفها. وثانى الأمرين هو النظر في الجوانب الفنية للنص القصصي بغية التأكد من قيام شرط القصة القصيرة من الناحية الفنية، وكلا الإجرائين رغم شكليتهما في كثير من جوانبهما، إلا انهما لازمين لقيام العمل النقدي علي أساس سليم قبل الولوج إلى أي إجراء آخر.
ولنتوقف عند الأمرين كل على حدة ؟
أولاً : أدبية النص:
من المسلم به أن الخطاب الأدبي خطاب ” غير نفعي” بمعنى أن ما يواجهنا فيه دائماً هو الطريقة أو الكيفية التى ينبني بها الخطاب، وليس واقع ما يجرى الخطاب بشأنه.. ومن ثم فكل الموضوعات التى يناقشها الأدب تبدو أقل قيمة من الطريقة التى يناقشها بها.. وهذه مسلمة أولى.
الثانية : إن جميع المدارس الأدبية فى محاولة تعريفها للأدب رأت أنه قابل للتعريف ليس وفقاً لكونه خيالياً أو تخيلياً، بل لأنه يستخدم اللغة بطرق خاصة. ووفقاً لهذا التعريف يكون الأدب نوعاً من الكتابة يمثل كما يقول الناقد الروسى “رومان ياكبسون” عنفاً منظماً يمارس ضد لغة الحديث العادى، وإلى هذا ذهب كثير من الشكلانيين الروس، عندما حاولوا الانتباه إلى الواقع المادي للنص الأدبي ذاته، عندما رأوا أن الأدب تنظيم خاص للغة, له قوانينه، وبنياته وأدواته النوعية التى يجب أن تدرس فى ذاتها، بدل أن تختزل إلى شئ آخر.
فالعمل الأدبى ليس مركبة لنقل الأفكار، ولا انعكاساً للواقع الاجتماعي, ولا تجسيداً لحقيقة مفارقة متعالية .. إنه حقيقة مادية تلفت إلى نفسها، يمكن تحليل أدائه مثلما يمكن للمرأ أن يفحص ماكينة.. إنه مكون من كلمات, وليس من موضوعات أو مشاعر .
فى هذا الإطار يمكننا أن نتغاضى بضفة إجرائية مؤقتة عن المضمون الأدبى لننظر للعلاقة بين الشكل والمضمون من زاوية أخرى مثيرة للتساؤل : هل المضمون هو الحافز للشكل .. أم أن الشكل هو تعبير عن المضمون؟ وللإجابة أقول : لاشك وبناء على التعريف السابق للأدب أن المضمون هو مجرد فرصة مفيدة أمام الأديب لبناء المجاز، ومن ثم فكل مضمون يكتسب احترامه إذا كان قادراً على أن يظل حافزاً للشكل - المادة الأدبية - النص المعاين, الذي به يصبح الأديب أديباً , وبانهياره تنهار الصفة الأدبية عن النص وعن كاتبه.
ولاشك أن العمل الأدبى هو تجميع لعناصر مترابطة, أو وظائف ضمن نسق نصى كلى مثل : الجرس ، المخيلة , الإيقاع , بناء الجملة , الوزن , القافية , التقنيات الروائية والقصصية مثل وضعيات الراوية, الزمن, الشخصية,عناصر الدراما, الوظائف الحكائية وما إلى ذلك من رصد لكل العناصر الشكلية الأدبية, ولكن ما يفوتنا أن العامل المشترك بين كل العناصر هو نزع الألفة أو كما تُسمى “الإغراب” , فالشئ النوعي بالنسبة للغة الأدبية, وما يميزها عن أشكال الخطابات الأخرى هو أنها “تشوه” اللغة العادية بطرق متنوعة. فتحت ضغط الأدوات الأدبية تتكثف اللغة العادية وتتركز, وتلوى , وتمدد, وتنقلب على رأسها .. إنها لغة جُعِلت غريبة, وبسبب هذا الإغراب يصبح العالم اليومى بدوره غير مألوف فجأة.. الأدب إذن هو ما يجبرنا دائماً على اكتساب وعي درامي باللغة, ويجعل الأشياء أكثر قابلية للإدراك , ومن خلاله اضطرارنا للاشتباك مع اللغة بطريقة أشد عسراً ووعياً بها من المعتاد, ومن خلاله يتجدد ذلك العالم الذى تضمه تلك اللغة.
إننى ومن هذا المنطلق وبالتركيز على اللغة باعتبارها جوهر العمل الأدبى سأبدأ في طرح بعض النقاط الأدبية التي من شأنها أن تحقق أدبية النص:
1 لابد أن تتحقق صفة الإغراب عن طريق المجاز, وعن طريق الحيودات التى يصنعها الأديب عن اللغة الاعتيادية أوبمعنى آخر عن طريق الانزياح عن الإرث المشتترك إلى اللغة الخاصة للأديب. فثمة ما يقال : اللسان العربى ولغة الجاحظ . الأولى هى الإرث المشترك والثانية هى الخبرة الخاصة عندما تتعلق بالشخص والذوق والأسلوب والاختيار، والأخيرة تتعلق بقدرة الأديب على ممارسة التشويه المستمر للغة الخطاب العادى, وكل ما تعارف عليه الناس وألفوه من أنواع الخطابات الأخرى حتى وإن كانت خطابات أدبية شائعة، والإغراب لم يكن أبداً في يوم من الأيام قاصراً على مذهب أو مدرسة أو جماعة بعينها على مدى التاريخ الأدبي كله، ولم يكن قاصراً على مذهب أو مدرسة أو جماعة بعينها على مدى التاريخ الأدبي كله، بل إنه سمة الأدب في كل عصر من العصور.
وقد يظن البعض أن كلمة حيودات عن لغة الاستخدام العادي تعني أن هناك لغة مخصوصة صالحة لتحقيق الأدبية، وأخري غير صالحة لتحقيقها ، ولعل هذا ما لا نقصده .. إن مقولة إن هناك ألفاظاً صالحة للأدب أو الشعر أو القصة، وألفاظاً غير صالحة مقولة قديمة ، انتفت منذ الأربعينيات؛ فكل المفردات صالحة للاستخدام الأدبي ، المهم هو التركيب ، ومناسبة اللغة بمستواها وطريقة بنائها للموقف الخاص الذى تستخدم فيه أو تعبر عنه، أو كما يقال في البلاغة التقليدية “مقتضى الحال” ، والأديب بحساسيته الخاصة يعرف ما هو المناسب من لغة وتعابير لمقتضى الحال، وربما هو القادر أيضاً على إرباك اللغة لحملها على التعبير عن موقف خاص.. ولعل الأديب وحده هو القادر كذلك على التوفيق بين المفردات توفيقاً جميلا أمثل للتعبير عن الموقف أو الحالة أو المعنى بطريقة جديدة ، ربما أن المتكررأحياناً هو الموقف المعبَّر عنه، لكنما يظل التعبير عنه بطرق جديدة مدهشة هو مهمة الأديب، وبصرف النظر عن كون اللغة مباهية بوجودها المادي، أو برصانتها، أو بضلاعتها القاموسية،أو غير مباهية، فقد تكون البساطة والتلقائية أحياناً هما الأنسب والأجمل لهذا الموقف أو ذاك من غيرهما.
وثمة ما يجب أن نؤكد عليه أن الإغراب لا يتحقق باللغة وحدها ، بل أحياناً يكون الموقف الذي تُستخدم فيه اللغة مساهماً معها في تحقيق صفة الإغراب، ولعل جهد المؤلف أو مستخدم اللغة هنا أنه بلغ من الذكاء مبلغ اختيار المناسب للمناسب، وصولاً إلى هدف بلاغي يبتغيه، أو إلى معني متسع يرتجيه. ولأضرب مثلا على ذلك : عندما نردد عبارة من عينة “هذا عبور مرعب” ونحن نشاهد فيلماً تسجيلياً عن عبور الجنود المصريين لقناة السويس يوم السادس من أكتوبر عام 1973، ربما أن هذه العبارة التى لم تُبنَ على هيئة مخصوصة رغم عفويتها لا تعتبر أدبية أو شعرية في هذا الموقف تحديداً، لكونها عبرت عن المعنى مباشرة، ولكونها اعتيادية في هذا الموقف ، وهي لهذين السببين واقعة ضمن الإرث المشترك من استخدامات لغوية .. لكنما لو ردد هذه العبارة طبيب أو طبيبة أمراض نساء أو جراحة ، في لحظة معاينة أيهما للآثار الدموية والتهتكات الشنيعة التي أحدثها عريس بعروسه ليلة الزفاف.. تُرى كيف يكون حكمنا على استخدامها؟.
إن استخدام العبارة في هذا الموقف الأخير ينطوي على توظيف دلالي مغاير ينشأ عنه إغراب لم يوفره استخدامها في الموقف الأول. فلفظة ” عبور” في الموقف الأول لم تتجاوز دلالة مواضعتها أو دلالتها الاصطلاحية .. أما في الموقف الثاني فثمة “إغراب” منشأه المغايرة بين “فض غشاء البكارة” و “عبور قناة السويس”.. غير أن العبارة في الموقف الثاني تنطوي على تصور خيالي لما حدث ليلة الزفاف على أنه اقتحام ، أو حرب، ومن ثم فالعريس هو العدو المدجج المقتحِم (بكسر الحاء) والعروس من ثم هي المقتحَم (بفتح الحاء) ، وهكذا تنشأ المفارقة عندما تحل العدوانية المستبعدة محل الحميمية المفترَضة ، وهكذا أيضاً يمكننا تصور فكرة التعشق على أنها اقتحام، وبداية الحياة الزوجية على أنها بداية حرب …. وهكذا قد تكتسب العبارة قدرة لانهائية على فتح هويس الدلالة ، والتأويلات المتسعة لمجرد أنها حققت إغراباً من خلال الموقف الذي قيلت فيه، وليس من خلال قاموسيتها أو رصانتها أو ضلاعتها أو ما شابه ذلك.
2 لابد أن تكون اللغة مكثفة، بمعنى محملة بأكبر قدر من الطاقة الايحائية والرمزية والدلالية والنفسية والرؤيوية فى آن، وليس بمعنى الاختزال والرشاقة والنحول كما يفهم البعض فذاك وإن كان مطلوباً إلا أنه ليس أكثر من مظهر خارجى للغة المكثفة.
ولكى يحقق الأديب هاتيك المواصفات لابد أن يكون قادراً على :
1 الاشتباك الدائم مع اللغة بشكل أكثر عسراً ووعياً بها، وربما لكي يكون مؤهلاً للاشتباك مع اللغة لا بد أن يكون مستعداً بجانب الوعي على بذل جهد الانتقاء والتوليف والجمع بين المفردات، وهو جهد مطلوب، وربما أساسي إذ لا يتعين الأسلوب الأدبي بمجرد الخبرة المباشرة وحسب، بل ثمة حساسية فنية باتجاه اللغة لدى الأديب يجب أن تُستحث للقيام بفعلها أثناء الكتابة، الأديب وحده القدادر على أن يجمع كلمة تمتُّ إلى الأرض وأخري تمتُّ إلى السماء من عينة ” شجرة” و “غيمة” ليعطي يعبيراً مثل:” غيمة شجرية” أو”شجر الغيم” .
أما عن الوعي فهو بالضرورة متنامي، ولكي يتنامى بحاجة إلي ري دائم ليس بالاطلاع والتمرس وحدهما، وإنما بالنية المسبقة علي هجر كل ماسبق أن استخدمه الآخرون من تعبيرات في مثل هذا الموقف الذي هو بصدد التعبير عنه، حتى وإن كانت تعبيرات أدبية راقية.. إن مثل هذه النية المخلِصة ستكون دافعاً للخلق على غير مثال سابق كما يُقال أو على الأقل دافعا للبحث عن جديد نسبياً.
2 استخدام اللغة استخداماً سليماً وفق قواعدها على الأصعدة النحوية والصرفية والدلالية واللغوية والإملائية , وأن يكون قادراً على تنظيم الشكل الكتابى وفق آلية معينة يستخدم فيها علامات الترقيم وكافة الأدوات الأخرى, يدخل من ضمنها البنط الكتابى وحجمة ويدخل من ضمنها هندسة البياض والسواد فى الصفحة ، وتحضرني هنا مقولة ” إن الأديب الجيد هو الذي يخدم اللغة بشكل جيد ، لا الذي يستخدمها بشكل جيد ” وأري أن كلا الطريقين مسدودان أمام من لم يسيطر بعد على قواعد الاستخدام الصحيح للغة .
3 أن يضع فى اعتباره أن هناك سمة نوعية فارقة هو معنيٌّ بالضرورة بها لحظة أن يبدأ فى إنتاج النص، وهي سمة نوعية أسلوبية ورؤيوية تتوقف علي طريقته في التعامل مع اللغة، إذ عليه أن يبني اللغة بطريقة مخصوصة ، عندما يعرف متى يقدم ويؤخر عند بناء الجملة أو العبارة ، وعليه أن يعى كيف يأتي المجاز كثيفاً، وكيف يأتي التعبير رشيقاً، غنياً بالدلالات ، وغير ذلك عليه اللجوء إلى التعبير التصويرى والرمزى والإيحائى عن المعنى أو عن الحالة أوعن الموقف ، ليس هذا فحسب بل أيضاً أن يكون قادراً على تحقيق الإيجاز المطلوب، وعليه أن يتوقف عند كل كلمة ، أوعبارة ، أوتفصيلة حدت ليسأل نفسه سؤالاُ مهما : تري لو استغنينا عن هذه أو تلك هل سيتأثر المعنى؟ فإذا كانت الإجابة ب” لا ” فعليه أن يتخلص من الترهلات إذن .. وغير ذلك لابد أن يضع الأديب في اعتباره أنه معنيٌّ بالتعبير عن حالة سديمية، أو عن رؤية غائرة ، وليس عن معانٍ واضحة، أو سطحية، أو محددة جبرياً على عادة الأفكار والمعاني العلمية، مثلما أنه ليس معنياً بالتعبير عن رؤية اعتيادية، أو عن موقف اعتيادي ، وليس ناقلاً لما يألفه الناس، وليس بنفس الطريق التى يعبرون بها وهم يلوكون الأخبار والحكايا .. إننا بحالة ما لسنا على استعداد لأن نتوقف عند محطة كاتب يَدَّعي مثلا أن لدية قصة قصيرة عن حرب أكتوبر بين الجيش المصري والجيش الاسرائيلي في سيناء عام 1973، ثم نفاجأ أنه لم يزد عما تناقلته الدوائر الإعلامية و السياسية و العسكرية أو حتى عما يتناقله الجنود العائدون من الحرب .. لاشك أنه أديب مخيب للآمال إذ يستهلك وقتنا فيما خبرناه، وربما بأكثر من خبرته، غير أن الاشكالية ليست في أنه قدم حكاية ألفناها وخبرناها أكثر منه أو أقل ، الاشكالية تكمن في : ما الذي يريد الوصول بنا إليه من وراء الحكاية تلك ، وهل هذه الرؤية المستهدفة تقع أيضاً في إطار خبراتنا الاعتيادية ام أنه يصعد بنا إلى منطقة رؤيوية جديدة لم نألفها من قبل؟.
فيما أظن أنه بغير ذلك تنتفى عن الأديب خصوصيته كمنشىء باللغة، وكرائي ، وكرؤيوي ، ومن ثم يصبح كل خطاب يقدمة إعتيادياً, ومن ثم فكل كتابة يقدمها تقع بالضرورة خارج الكتابة الأدبية .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.