البحسني يشهد تدريبات لقوات النخبة الحضرمية والأمن    عقلية "رشاد العليمي" نفس عقلية الماركسي "عبدالفتاح إسماعيل"    تصريحات مفاجئة لحركة حماس: مستعدون لإلقاء السلاح والانخراط ضمن منظمة التحرير بشرط واحد!    تطور مهم.. أول تحرك عسكري للشرعية مع القوات الأوروبية بالبحر الأحمر    الشيخ الزنداني رفيق الثوار وإمام الدعاة (بورتريه)    ارتفاع عدد الشهداء الفلسطينيين جراء العدوان الإسرائيلي على غزة إلى 34305    إيفرتون يصعق ليفربول ويعيق فرص وصوله للقب    انخفاض الذهب إلى 2313.44 دولار للأوقية    المكلا.. قيادة الإصلاح تستقبل جموع المعزين في رحيل الشيخ الزنداني    هيئة السلم المجتمعي بالمكلا تختتم دورة الإتصال والتواصل الاستراتيجي بنجاح    فيديو صادم: قتال شوارع وسط مدينة رداع على خلفية قضية ثأر وسط انفلات أمني كبير    ذهبوا لتجهيز قاعة أعراس فعادوا بأكفان بيضاء.. وما كتبه أحدهم قبل وفاته يُدمي القلب.. حادثة مؤلمة تهز دولة عربية    مفاوضات في مسقط لحصول الحوثي على الخمس تطبيقا لفتوى الزنداني    تحذير أممي من تأثيرات قاسية للمناخ على أطفال اليمن    امين عام الاشتراكي يهنئ الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين بنجاح مؤتمرهم العام مميز    الجهاز المركزي للإحصاء يختتم الدورة التدريبية "طرق قياس المؤشرات الاجتماعي والسكانية والحماية الاجتماعية لاهداف التنمية المستدامة"    لابورتا يعلن رسميا بقاء تشافي حتى نهاية عقده    فينيسيوس يتوج بجائزة الافضل    مقدمة لفهم القبيلة في شبوة (1)    "جودو الإمارات" يحقق 4 ميداليات في بطولة آسيا    نقابة مستوردي وتجار الأدوية تحذر من نفاذ الأدوية من السوق الدوائي مع عودة وباء كوليرا    المجلس الانتقالي بشبوة يرفض قرار الخونجي حيدان بتعيين مسئول أمني    نبذه عن شركة الزنداني للأسماك وكبار أعضائها (أسماء)    الإصلاحيين يسرقون جنازة الشيخ "حسن كيليش" التي حضرها أردوغان وينسبوها للزنداني    طلاق فنان شهير من زوجته بعد 12 عامًا على الزواج    الإطاحة بشاب أطلق النار على مسؤول أمني في تعز وقاوم السلطات    اشهر الجامعات الأوربية تستعين بخبرات بروفسيور يمني متخصص في مجال الأمن المعلوماتي    رئيس الاتحاد الدولي للسباحة يهنئ الخليفي بمناسبه انتخابه رئيسًا للاتحاد العربي    رجال القبائل ينفذوا وقفات احتجاجية لمنع الحوثيين افتتاح مصنع للمبيدات المسرطنة في صنعاء    حقيقة وفاة ''عبده الجندي'' بصنعاء    الشاعر باحارثة يشارك في مهرجان الوطن العربي للإبداع الثقافي الدولي بسلطنة عمان    تضامن حضرموت يظفر بنقاط مباراته أمام النخبة ويترقب مواجهة منافسه أهلي الغيل على صراع البطاقة الثانية    سيئون تشهد تأبين فقيد العمل الانساني والاجتماعي والخيري / محمد سالم باسعيدة    لغزٌ يُحير الجميع: جثة مشنوقة في شبكة باص بحضرموت!(صورة)    دعاء الحر الشديد .. ردد 5 كلمات للوقاية من جهنم وتفتح أبواب الفرج    اليونايتد يتخطى شيفيلد برباعية وليفربول يسقط امام ايفرتون في ديربي المدينة    لأول مرة.. زراعة البن في مصر وهكذا جاءت نتيجة التجارب الرسمية    رئيس كاك بنك يبعث برقية عزاء ومواساة لمحافظ لحج اللواء "أحمد عبدالله تركي" بوفاة نجله شايع    الخطوط الجوية اليمنية تصدر توضيحا هاما    وحدة حماية الأراضي بعدن تُؤكد انفتاحها على جميع المواطنين.. وتدعو للتواصل لتقديم أي شكاوى أو معلومات.    "صدمة في شبوة: مسلحون مجهولون يخطفون رجل أعمال بارز    مليشيا الحوثي تختطف 4 من موظفي مكتب النقل بالحديدة    - أقرأ كيف يقارع حسين العماد بشعره الظلم والفساد ويحوله لوقود من الجمر والدموع،فاق العشرات من التقارير والتحقيقات الصحفية في كشفها    الديوان الملكي السعودي: دخول خادم الحرمين الشريفين مستشفى الملك فيصل لإجراء فحوصات روتينية    صحيفة مصرية تكشف عن زيارة سرية للارياني إلى إسرائيل    برشلونة يلجأ للقضاء بسبب "الهدف الشبح" في مرمى ريال مدريد    دعاء قضاء الحاجة في نفس اليوم.. ردده بيقين يقضي حوائجك ويفتح الأبواب المغلقة    «كاك بنك» فرع شبوة يكرم شركتي العماري وابو سند وأولاده لشراكتهما المتميزة في صرف حوالات كاك حواله    أعلامي سعودي شهير: رحل الزنداني وترك لنا فتاوى جاهلة واكتشافات علمية ساذجة    كان يدرسهم قبل 40 سنة.. وفاء نادر من معلم مصري لطلابه اليمنيين حينما عرف أنهم يتواجدون في مصر (صور)    السعودية تضع اشتراطات صارمة للسماح بدخول الحجاج إلى أراضيها هذا العام    مؤسسة دغسان تحمل أربع جهات حكومية بينها الأمن والمخابرات مسؤلية إدخال المبيدات السامة (وثائق)    دعاء مستجاب لكل شيء    مع الوثائق عملا بحق الرد    لحظة يازمن    - عاجل فنان اليمن الكبير ايواب طارش يدخل غرفة العمليات اقرا السبب    وفاة الاديب والكاتب الصحفي محمد المساح    تصحيح التراث الشرعي (24).. ماذا فعلت المذاهب الفقهية وأتباعها؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قراءة تحليلية من منظور سوسيولوجي
التعليم العالي في اليمن: خصائصه ومشكلاته
نشر في الجمهورية يوم 13 - 10 - 2009


مدخل :
بادئ ذي بدء يمكن القول ان التعليم العالي في اليمن يشهد تطورا كميا في أعداد الجامعات والكليات والمعاهد وفقا لتزايد الطلب المجتمعي ووفقا لتزايد مخرجات التعليم ماقبل الجامعي وبالرغم من حداثة النشأة لبعض الجامعات الحكومية والخاصة إلا انها جميعا تشترك في العديد من الصفات والملامح التى تشكل في مجموعها خصائص التعليم العالي وفق محددات وظيفية وبنيوية تنعكس فيها ملامح الضعف أكثر من ملامح القوة . ونسعى في الدراسة التي نقدم من خلالها قراءة تحليلة أولية لتكون بمثابة صورة بانورامية تعكس مجمل الأبعاد والمتغيرات التي ترتبط بالتعليم العالي وتعكس خصائصه ومظاهره . ولما كان هذا القطاع من التعليم (اقصد التعليم الجامعي ) يحتاج الى دراسات موسعة ومعمقة تشمل كل مجالاته إضافة الى الدراسات الإحصائية المقارنة فإننا هنا سنقدم قراءة تحليلية معمقة في الرؤية والرسالة الاستراتيجية للتعليم العالي بالتركيز على جوانب القوة والضعف ومن ثم فإننا وبتواضع نقول ان مسار هذه الدراسة تحليلي نقدي لا نهدف من ورائه إلا إلى تحقيق مصلحة عامة..
وإن رؤانا النقدية ليست من قبيل جلد الذات او التشهير بقدر ما تعبر عن رغبة صادقة لبناء الوطن انطلاقا من مرتكزات التعليم العالي . وإذا كنا نعتمد القول بان التعليم والتكنولوجيا هما مفتاحا التطور والتحديث فلابد من إعمال النقد السوسيولوجي بغية كشف واقع التعليم العالي بالتركيز على المسكوت عنه في مجمل منظومته المؤسسية.
أولا: التطور الكمي في مؤسسات التعليم العالي :
من الأمور الملموسة والواضحة تزايد عدد الجامعات الحكومية (والمعاهد والكليات) وتماثل كلياتها وأقسامها العلمية وهذا الأمر يعكس استجابة لواقع المجتمع الذي تتزايد فيه أعداد الراغبين في الالتحاق بالتعليم الجامعي إضافة الى ان مخرجات التعليم الثانوي تتزايد عاما بعد عام الأمر الذي يخلق تحدياً كبيرا لدى الحكومة بضرورة استيعاب العد الأكبر من هذه المخرجات ضمن التعليم الجامعي الحكومي . ولكن لا يجب اعتماد هذه الصورة ذات الإيحاء الايجابي ونبني عليها أحكاما تؤكد تطور وتقدم التعليم الجامعي في اليمن .. فهذا مجانب للصواب ذلك ان التوسع الكمي في عدد الجامعات والكليات والمعاهد ليس دليلا بحد ذاته على التطور الايجابي للمسألة التعليمية فهذا الأخير يتطلب معايير نوعية لا كمية حتى نبني حكمنا عليها . وباعتماد معايير الجودة والنوعية في كل مكونات العملية التعليمية نستطيع حينئذ ان نقول بتطور ما لحق بهذا القطاع من التعليم في اليمن .
صحيح القول ان تزايد السكان يستلزم بالضرورة احتياجات تعليمية وهذا واجب الدولة خاصة وان الثروة الوطنية اذا ما أديرت بأسلوب رشيد كفيلة بتلبية كل احتياجات المواطنين الأساسية وهنا لا يجب النظر الى المؤسسات التعليمية من منظور ادائها الوظيفي ذلك ان متغيرات متلاحقة ترتبط بالمنهج التعليمي ونظرياته وأساليبه وبسوق العمل ومتطلبات التنمية كلها يجب أخذها في عين الاعتبار عند تصميم العملية التعليمية .. من الأمور الايجابية التوسع الكمي في الجامعات بالرغم من المآخذ الكثيرة على ذلك- ولكن الإشكال الحقيقي الذي أغفلته الحكومة ووزارة التعليم العالي هو ان تعدد الجامعات الحكومية جاء بصورة مكرورة لبعضها خاصة وان الجامعة الرئيسية (جامعة صنعاء) نقلت خبراتها ومناهجها وأساليبها الإدارية وهي تقليدية بطبعها الى الجامعات الجديدة . ولذلك فنحن لا نجد جامعة حكومية تتميز بكلية نوعية تنفرد بها ولا بأسلوب إداري متطور ولا بأساليب تعليمية متطورة بل نجد الكثير من المقررات التعليمية نفسها تتطابق في معظم الكليات. ومما زاد الأمر سوءا نوعية الإدارة الجامعية التي تتصف بالبؤس الفكري والعلمي.. ما نروم قوله ان تعدد الجامعات الحكومية ارتبط برغبة سياسية شعبوية أكثر منه برؤية علمية ومن هنا يدرك المرء أهمية الجامعات للنظام السياسي وحتى هذا الأخير لم يأت من باب المشروعية الحداثية للدولة فنحن نجد مقررات تعليمية جامعية تناهض المسار الديمقراطي للدولة كما يغيب عن هذه المقررات أي إشارة الى حقوق الإنسان .. بشكل عام يمكن القول انه على الدول التى ترغب في الاستفادة من متغيرات العولمة ان تحدث تحولات حقيقية في هياكلها وابنيتها التنظيمية وعلاقاتها بمواطنيها بما يعزز مواطنتهم وان تتبنى نظاما تعليميا يستوعب متطلبات العصر وحاجات المجتمع وفق رؤية ديناميكية باستمرار. فالاستعداد للقرن الحادي والعشرين لا تتناسب معه طرائق التدريس السائدة في الجامعات والمعاهد والمدارس اليمنية .
الجدير بالذكر ان التطور الكمي للجامعات الحكومية مطلوب وفق رؤية استراتيجية تعتمد منظوراً واسعا لمفهوم التعليم ودلالاته. فلا يكفي القول انه لدينا عدداً من الجامعات والكليات ذلك ان الواقع المعيش بكل تعقيداته الديموجرافية والتطورات المتلاحقة في تكنولوجيا العمل وما يصاحبها من مهارات ومعارف وخبرات إضافة الى الإبعاد الحقوقية والثقافية جميعها يجب ان تكون موجهات لبناء نظام تعليمي فاعل . ويمكننا ان نتساءل: هل تعدد الجامعات الحكومية والخاصة في اليمن له اثار ومظاهر ايجابية على مستوى الأفراد والمجتمع؟ وهل استطاعت هذه الجامعات ان تساهم في التغيير الثقافي والمجتمعي العام ؟ ما دور هذه الجامعات في البحث العلمي والتطور المعرفي؟ اعتقد ان الإجابة ستكون محدودة الأثر فالجامعات لم تضف الكثير من المعارف والمهارات الى الأفراد كما انها لم تستطع ان تحدث تغيرا في بنية المجتمع التقليدية ومنظمتها الثقافية وذلك يرجع الى أسلوب إدارة الجامعات ومقتضيات الأداء التعليمي بصورته التقليدية .
((عدد الجامعات الحكومية 8، عدد الجامعات الخاصة 21، معاهد حكومية 3 ، معاهد وكليات خاصة 5، الإجمالي العام لمؤشرات الالتحاق بالتعليم الجامعي لليمنيين في الأعوام 2007- 2008م جامعات حكومية (ذكور 138405 ) (إناث 60863 ) (إجمالي كلا الجنسين 199268 ) (جامعات خاصة) الذكور ( 38595) الإناث (13324 ) الإجمالي(51919). الإجمالي المعاهد والكليات الخاصة للأعوام (ذكور 1139 ) (إناث 1015) (كلا الجنسين 2154 ) الإجمالي العام لمؤشرات الالتحاق بالجامعات الحكومية والخاصة والمعاهد بنوعيها(ذكور 187446 ) ( إناث 75370 ) (كلا الجنسين 253816 ). )). ((عدد اعضاء هيئة التدريس بالجامعات الحكومية من اليمنيين جامعة صنعاء (ذكور 1231 ) ( اناث 237 ) (الاجمالي 1425 ) جامعة عدن (ذكور 955 ) (اناث 225 ) (اجمالي1180) جامعة تعز (ذكور 348 ) ( اناث 63 ) ( اجمالي 411 ) جامعة الحديدة ( ذكور 262 ) ( اناث 39 ) (اجمالي 301) جامعة اب (ذكور 230 ) ( اناث 33 ) (اجمالي 263 ) جامعة ذمار (ذكور 329 ) ( اناث 50 ) (اجمالي 379 ) جامعة حضرموت (ذكور 559) (اناث 84 ) (اجمالي 643 ). اجمالي هيئة التدريس من غير اليمنيين(ذكور 436) (اناث 68 ).
تعكس الأرقام السابقة التطور الكمي في اعداد الطلاب في مختلف الجامعات والكليات وهذا يعكس رغبة كبيرة في الإقبال على التعليم وتزايد الطلب المجتمعي عليه ولكن هذا الطلب المجتمعي ينظر الى التعليم من باب الوظيفة أملا بان خريج الجامعة يمكنه الترقي في المكانة والكسب المادي وفق تدرجه الوظيفي وهذا أمر مقبول في جانب واحد منه ذلك ان التعليم لا يجب ان يكون هدفه التوظيف بل أهدافه تتسع الى بناء المعارف العامة وبناء العقل الإنساني وتمكين الأفراد من توسيع خبراتهم ومعارفهم انطلاقا من ان التعليم حق لكل مواطن وغاية انسانية . . ومن جانب آخر فإن تزايد عدد الجامعات والكليات لم يرتبط به تزايد في اعداد هيئة التدريس بمختلف درجاتهم العلمية فنسبة الطلاب الى هيئة التدريس 50-1 كما ان هذه الجامعات لا تزال تعتمد على أساتذة موفدين من الخارج بما في ذلك جامعة صنعاء التى يجب ان تكون قد تجاوزت الاحتياج للموفدين من هيئة التدريس المعارين وهذا يعكس غياب رؤية مستقبلية لمسار العملية التعليمية على مستوى البلاد بشكل عام وعلى مستوى كل جامعة بحد ذاتها . المفروض ان ينتهي حاجة جامعة صنعاء الى الموفدين في مرحلة التعليم الجامعي وتتحول حاجاتها الى أساتذة زائرين يعملون في مرحلة الدراسات العليا.
الجدير بالذكر ان التوسع الكمي للجامعات لم يقابله توسع مماثل في احتياجات العملية التعليمية فقاعات المحاضرات قليلة مقارنة بعدد الطلاب وهي غير مزودة بأي وسيلة من وسائل التعليم الحديثة إضافة الى فقر المكتبات الجامعية وتخلف محتواها وغياب النشاط الثقافي والعلمي العام للطلاب داخل الحرم الجامعي وغياب المحفزات المادية والمعنوية التى تستهدف هيئة التدريس والطلاب في آن واحد .
ومما زاد في تعقيد الأزمات داخل الجامعات الحكومية اتجاهها الى تبني مسارات تعليمية سميت بالتعليم الموازي والتعليم الخاص مما أثقل كاهل الجامعة وهيئة التدريس ، فهذا التعليم لا نص دستوري أو قانوني يشرعن وجوده بل من باب التحايل وفق رغبات خاصة في زيادة موارد الجامعة التى لم تنعكس ايجابا لا في رواتب هيئة التدريس ولا في تطوير أساليب التعليم ولا في المكتبات ولم يحصل الطالب نفسه على حقوقه من الرحلات والنزول الميداني كتدريب هام في بعض المقررات ولا في الأنشطة الرياضية والثقافية العامة وهنا يمكن القول ان الجامعات ومختلف مؤسسات التعليم لا يمكن باي حال من الأحول النظر اليها كمؤسسات للجباية والإيرادات المالية .
ثانيا: التماثل والتكرار في العملية التعليمية :
من المآخذ على التعليم الجامعي شيوع التماثل والتكرار المفرط لبعض الأقسام دون تطوير ملموس في المقررات التعليمية او مفرداتها .. فاعتماد التكرار في الشكل والمضمون لا يساعد في بناء مجتمع المعرفة ويضعف دور الجامعة في التنمية علاوة على تأثيره السلبي على الطلاب . وهنا لا نقف موقفا مناوئا لتكرار الأقسام في مختلف الجامعات بل لابد من اعمال روح التغير والتحديث في منظومة العملية التعليمية الخاصة بكل قسم . وما تكشف عنه إحصاءات (مجلس التخطيط الاعلى للتعليم) عن تكرار في الأقسام التالية :
قرآن وعلومه ،دراسات إسلامية يتكرر هذان القسمان وبتسميات متعددة 48 مرة في حين لا يوجد في كل الجامعات الحكومية والخاصة سوى 6 أقسام للفلسفة ، 4 أقسام لعلم الاجتماع ، 2 لعلم الاقتصاد وقسم واحد للإعلام ، 4 أقسام لرياض الأطفال رغم اهمية هذه الأخيرة كأقسام نوعية في كلية التربية وحاجة المجتمع العام والمدارس في التعليم الأساسي لخريجيها .
ومجمل القول ان تكرار أقسام الدراسات الإسلامية قد يكون مفيدا اذا تم ادخال جملة من المتغيرات تستهدف دمج مواد دراسية واستحداث اخرى جديدة اضافة الى استحداث مقررات خاصة بالحاسوب واللغات الأجنبية والأكثر أهمية إدخال مواد دراسية من قسمي الفلسفة وعلم الاجتماع الى مصاف المقررات الدراسية في اقسام الدراسات الإسلامية.. فحتى عام 1985 كان قسم الدراسات الإسلامية في جامعة صنعاء يتضمن ثلاثة مقررات من علم الاجتماع وثلاثة مقررات من الفلسفة . وهنا لا يجب ان يفهم حديثنا بأنه افتئات على تخصص مستقل بل يجب ان يفهم في إطار الحقيقية العلمية السائدة في كل جامعات العالم والتي تتمثل بوحدة العلوم ووحدة المعرفة ولا يجوز ان نشهد في جامعاتنا فصلا كاملا بين مختلف الأقسام خاصة في العلوم الاجتماعية والإنسانية.. وكما اشرت سابقا كانت معظم أقسام كلية الآداب جامعة صنعاء حتى عام 85 تتضمن مقررات مساندة تم إلغاؤها وفق رغبات شخصية وحزبية دون اعتماد رؤية علمية . فالمطلوب من أقسام الدراسات الإسلامية ان تخرج علماء ومتخصصين لهم دراية كاملة بالمنهج العلمي والنظريات الاجتماعية التى تشكل دليلا استرشاديا في فهم المجتمع وفهم غايات الدين ومقاصده . وبالمثل هناك مماثلة وتكرار في اقسام اللغات والاقتصاد والجغرافيا والتاريخ دون اضافة مقررات نوعية او مفردات متجددة تضاف الى المنهج التدريسي لكل مادة تعليمية.. ولعل السبب الرئيس في هذا التكرار السلبي يرجع الى إدارة الجامعات وسوء تعاملها مع الشأن الأكاديمي إضافة الى ان الرغبة في افتتاح جامعات جديدة وبأسرع وقت دون الاستعداد الكامل لمثل هذا الأمر يجعل من النقل والتقليد آلية متبعة في البناء التنظيمي والأكاديمي للجامعات الجديدة. ولكن هذا لا يجب ان يعفي مسؤولية هيئة التدريس في كل قسم من الأقسام الأكاديمية عن نشاطها التعليمي وما وصلت اليه مقرراتها ومناهجها من مستوى متدنٍ .. فلابد ان تكون لجميع الأقسام الأكاديمية رؤية ناقدة لنشاطها التعليمي ولمقرراتها التعليمية على الأقل في كل أربع سنوات ولكي تعتمد مثل هذه الرؤى يجب إقرارها في مجالس الجامعة باعتبارها من مفردات الرؤية الاستراتيجية للتعليم الجامعي ومن ثم تلتزم مختلف الكليات والأقسام بتنفيذها .
فالمتغيرات الراهنة التى ارتبطت بالعولمة وتحولاتها معرفيا وسياسيا وتكنولوجيا ترتب عليه تغير وتحول مماثل في جميع المؤسسات الأكاديمية في العالم .. فلا يجوز ان تستمر جامعاتنا بتدريس نظريات اقتصادية واجتماعية وسياسية أصابها التحول والتغير العالمي وتجاوزها الواقع الأكاديمي في الجامعات الأوروبية والأمريكية ..
ثالثا: الوعي الزائف بأفضلية العلوم التطبيقية على العلوم الاجتماعية :
من الأمور الواضحة في وعي قيادات المؤسسات التعليمية العالية (وزير التعليم ورؤساء الجامعات) ولدى قطاع ليس بالقليل من أعضاء هيئة التدريس التناقض والازدواجية في إدراكهم لماهية العلوم التطبيقية والاجتماعية وغالبية هؤلاء من خريجي كليات العلوم الاجتماعية ولم يعرف عنهم أي إبداع او إنتاج علمي الا أنهم في خطابهم المعلن على الأقل- يؤكدون على اهمية العلوم التطبيقية وهم في ذلك يعكسون بوعي زائف ما يتردد في الوعي الشعبي من اهمية مبالغة في مجالات التكنولوجيا والطب على وجه الخصوص ويتناسون بان جميع التخصصات في العلوم التطبيقية كما هي في المجتمع الغربي تستند أساسا الى اطر فلسفية تحدد ماهيتها وعلاقاتها بالمجتمع . ومن هنا نشأ ما نسميه بفلسفة العلوم(فلسفة الرياضيات، فلسفة الفيزياء .....) الجدير بالذكر ان العلوم التطبيقية والاجتماعية ترتكز على محددات موضوعية واحدة جعلت منها علوما وهي وحدة المنهج العلمي مع الاختلاف في موضوعات كل منها . وللعلم فإن هذا الوعي الزائف بأفضلية العلوم التطبيقية تم نقده وتجاوزه في الغرب عقب ثورة الشباب 68 التى استهدفت تحطيم النماذج الفكرية سياسيا ومعرفيا والغاء الرؤية المادية للإنسان والمجتمع وعدم تضخيم التكنولوجيا والمنجزات التقنية ، وجاء اهم نقد فلسفي وسياسي من خلال كتابات هبرت ماركيوز وخصوصا في كتابه «الإنسان ذو البعد الواحد».
وفي مجتمع تقليدي كاليمن تنتشر فيه الأمية والجهل بما يرتبط به من غياب العقلانية وشيوع الشعوذة والدجل يتطلب جهودا كبيرة في تغيير هذه التصورات والآراء والاتجاهات ومن ثم بناء عقل الإنسان وفق محددات المنهج العلمي والمسار العقلاني . هنا يمكن القول ان العلوم الاجتماعية تكون ذات اهمية كبيرة فلا يمكن ان تتأسس العلوم التطبيقية وفق قاعدة مجتمعية تنكر ماهيتها .. واقصد بذلك ماهية العلوم التطبيقية والتي تتضمن العقلانية والتجريب وجعل العقل مصدر أساسي للمعرفة وهنا تتلاقى جميع العلوم وفق تلك المحددات الامر الذي يتطلب خطابا سياسيا (من الحكومة ووزارة التعليم العالي) وخطابا علميا من رؤساء الجامعات وهيئة التدريس يعزز من أهمية العلوم بشقيها التطبيقية والاجتماعية وبحاجة المجتمع اليها معا .
ان الوعي الزائف بأفضلية العلوم التطبيقية جعل من قيادات التعليم الجامعي ووزارة التعليم العالي بل والحكومة ان تدفع بجزء كبير من موازنتها المالية نحو مجالات العلوم التطبيقية بل جزءاً من هذه المجالات .. مثال ذلك انشاء مؤسسة البحث العلمي ودعمها بموازنة مالية كبيرة والتى عملت لعدة سنوات بتجاهل للعلوم الاجتماعية مع ان اليمن بكل خريجي العلوم التطبيقية لم يشهد حالة واحدة نابغة او ذات ابداع يستحق التقدير .
ان تغيير الواقع المجتمعي (تنميته وتطويره) يبدأ او يستلزم بالضرورة تغيير تلك الرؤى والتصورات التى يحملها الأفراد داخل مرجعياتهم التقليدية فالمشروع التنموى كى ينجح يجب الابتعاد عن النظر الى الثقافة والمعرفة كشيء قابل للنقل والإلصاق ، اي لابد من قراءة الواقع (وفق بحوث علمية امبيريقية) وتقديم أجوبة على جميع التساؤلات التى يعكسها.
فاعتبار العلم والتكنولوجيا مفتاح تحول المجتمع يستلزم تأسيس إصلاحات جدية قائمة على تعديلات بنيوية فى الدولة والمجتمع ( التمدن والعلم متلازمان ). فالعلم يرتقي بتحفيز من المسائل التى تثيرها الممارسة الاجتماعية ( المادية والثقافية ) وأحيانا تكون السلطة السياسية هى المعبر المباشر عن تلك المسائل . والمعيار الأهم لارتقاء اى مجتمع نامٍ هو مدى تمثله للعلوم الحديثة (التطبيقية والاجتماعية). والتقدم التقني لا يكون ابدا عن طريق امتلاك تجهيزات مستوردة ، بل فى تكوين وبناء المهارات المحلية التى يمكنها ان تؤمن انطلاقة صناعية عميقة الجذور فى المجتمع. هنا يجب تجاوز صنمية العلم والتقانة ، فهذه الأخيرة لا يجب ان تتحول الى ميتافيزيقا وضعانية تجعل الممر كله فى العلم والتقانة فقط.
فحاجة المجتمع اليمنى الى ان يتعقلن فى مؤسساته وعلاقاته الاجتماعية والسياسية والثقاقية ، هو المدخل الحقيقي لتوطين العلم والتقانة ، فالعلم يحمل فى طياته قيما معرفية وثقافية هامة (اهمية الشرط الاجتماعي للتقدم العلمي والتكنولوجي) وهنا يكون منح الأولوية للعقل فى اداراك الوجود و إبداع العالم ( العقل يهتدي به الإنسان ويصوغ عالمه ) متحررا من جميع اشكال الوصاية التى تحجر عليه او تقيد انطلاقه ، وبالعقل يمتلك الإنسان قدرة التعرف والكشف عن الحقائق والموجودات. فيجب احترام العقل ومنحه الأولوية فى تأسيس المعرفة الإنسانية فى مجالاتها المتعددة ( هنا يتجلى مفهوم التنوير - كما عبر عنه كانط- باعتباره خروج الإنسان من قصوره وعجزه عن استخدام عقله ) . فالعلم ( كأحد مكونات مجتمع المعرفة) ليس مجموعة المعارف والنتائج التى تكتسب ويتم نقلها من مكان الى آخر ، بل جهوداً تستهدف توطين العلم وإعادة إنتاجه تلبية لحاجات المجتمع نفسه ، (حاجات بيئية ومجتمعية محلية ) مع امتلاك القدرة على صياغة سياسات علمية وطنية . . ما كانت الفلسفة والعلم هما أس الحداثة الغربية ، فالفلسفة تؤسس للفكر العقلاني عن طريق نقد المعرفة واعتبار العقل معطى أصيل للإنسان ، هنا يلزم تحرر العقل من وطأة البنى الثيوقراطية ومحدداتها المعرفية التقليدية وبزوغ الفرد ككيان ذاتى . ذلك ان تعميق الثقافة مطمح للفرد المتيقظ الواعى بذاته وبالعالم ، وهنا يمكن القول بتبادل التاثير والتاثر بين الثقافة وحاملها الاجتماعى وبين المجتمع ، فطموح الافراد وإبداعاتهم الثقافية والمعرفية هو الذى يؤسس للبناء الحضارى ، وهذا الاخير يؤسس للوعي اليقظ والطموح المبدع للفرد ، وهنا يكون الحديث الهام عن المعنى العقلاني للجامعة (3).
الجامعة هى العقل المدني للمجتمع الحديث ، وشعار العقلانية، والجامعة تكمن دلالاتها الحضارية فى حضور العقلانية وفعل الحضور فى المجتمع من خلال التعليم للطلاب ونشر البحث العلمي .. فالجامعة ليست مدارس فحسب بل هى بنيان للثقافة والحضارة بأوسع معانيها ، بنية يتكون فيها الرجل المثقف والمتحضر ، هنا لابد من اولوية العقل فى المعرفة والفصل بين السلطات على مستوى بناء الدولة ، والمجتمع المدني وسلطته الزمنية على مستوى الامة والمجتمع ، فهي فضاء العقل الخلاق الذى استبدله النقل والتجريب محل التلقين ، استبدال العلم بالخرافة ، والعقد الاجتماعي بالتفويض الالهي ، التأكيد على مابين الحكمة ( الفلسفة ) والشريعة (الدين) من اتصال . وتاسيسا على ذلك فالجامعة يجب ان يكون دورها التعليمي والتثقيفي الداعم لتحقيق التنمية البشرية من خلال تاكيد التقدم لا التخلف ، الانفتاح لا الانغلاق ، الابداع لا الاتباع ، حيوية التنوع والمغايرة لا جمود الاجماع والمصادرة . فالعقل دعامة الدين وسنده وحجته على المتدينين ، ونصوصه تطالب المتدينين بأن يأخذوا بالبرهان ولاتخاطب سوى العقل (4 ).
رابعا: أزعومة التعليم من اجل سوق العمل :
هل التعليم للتوظيف ام لبناء العقل وتنمية القدرات للإنسان، التعليم بشكل عام والجامعي على وجه الخصوص عملية ديناميكية تستهدف الإنسان كغاية بحد ذاته ، ولما كان الإنسان هو غاية التنمية وهدفها الرئيسي فإن التعليم يجب ان يوجه نحو بناء قدرات الإنسان علميا ومعرفيا ومهاراتيا وتمكينه من توسيع الخيارات امامه لاستدامة التحصيل العلمي . وهنا يأتي العمل كنتاج مخطط ومقصود لعملية بناء قدرات الأفراد وتمكينهم الأمر الذي تتسع فيه مجالات العمل وتتنوع وفق تنوع وتعدد مجالات التحصيل العلمي . ومعنى ذلك ان التحصيل العلمي لا يكون مرتبطا بأفق محدود تشكل في سوق العمل المحدود ايضا (مثال ذلك .. سوق العمل في اليمن محدود جدا نظرا لحداثة هذا السوق ومتغيراته التكنولوجية وضعف القاعدة الاجتماعية المنتجة والمستهلكة في آن واحد) ومن ثم فلا يمكن ترديد كلام أصبح شائعا لدى نفر من الساسة والأكاديميين بأن التعليم الجامعي، التعليم العالي يجب ان يكون مرتبطا بسوق العمل فهذا امر مخل بقيمة التعليم واهدافه.
وهنا نتساءل: هل التعليم يجب ان يكون من اجل التوظيف ام لبناء العقل وتنمية الإنسان وتمكينه من توسيع خياراته العملانية؟ هل التعليم مرتبط باقتصاد السوق وفق آليات العرض والطلب ام مرتبط بحاجات المجتمع وتنميته وانسنته؟
إن مقولة التعليم من أجل سوق العمل أزعومة يراد من وراءها باطل وهنا يتجلى الوعي الزائف لدى قطاع كبير من النخبة السياسية والأكاديمية . .فإخضاع التعليم لقانون العرض والطلب فيه كثير من الابتذال وتسطيح مهنة التعليم ومدلولها السوسيولوجي ، فالعلم والمعرفة ليس للتوظيف فقط بل لتحقيق كينونة الإنسان في وجوده الاجتماعي والحضاري وتحريره من التخلف والجهل وتمكينه من التعامل العقلاني مع بيئته الطبيعية والاجتماعية ولكي يكون مشاركا وفعالا في مجتمعه لابد من بناء قدراته معرفيا في اساليب التعامل مع قضايا السياسة الوطنية والقضايا العامة ويكون وجهة نظره ازاء معالم التطور العالمي .
فالتعليم الجامعي مهمته أكبر وأشرف من ان تختزل في التوظيف .. ولما كان سوق العمل في اليمن محدوداً كما اشرنا سابقا فإنه لابد وان تدعم الحكومة تعدد وتنوع مجالات التعليم وتخصصاته في شتى المجالات التطبيقية والإنسانية وهو الأمر الذي ينعكس في توليد فضاءات عمل جديدة.
الخطير في الأمر أن اعتماد مقولة ربط التعليم بسوق العمل أدى الى تقليل وتخفيض مقصود في أقسام الفلسفة وعلم الاجتماع والاقتصاد والإعلام والفنون الجميلة والعلوم السياسية واللغات وغيرها بل ان أقساماً رئيسية من كلية الآداب لا تزال غائبة عن بعض الكليات في الجامعات الإقليمية (جامعة اب كمثال حيث تغيب عنها اقسام الفلسفة وعلم الاجتماع ، وكذلك جامعة الحديدة ،وعمران،كما تمت محاولة إلغاء مواد فلسفية واجتماعية من كلية التربية جامعة صنعاء ).
في هذا السياق ووفق رؤية واسعة لمفهوم التعليم العالي ومفهوم التعليم بشكل عام- يمكن القول بعلاقات ترابط عضوي بين التعليم والتنمية . فالتنمية عملية بناء قدرات الافراد والمجتمع وتمكين الأفراد والمجتمع من الاستفادة من المعارف والعلوم من اجل استدامة شروط الحياة اللائقة للأفراد في المجتمع .
ومعنى ذلك ان استدامة التنمية ترتبط عضويا بالمستوى الثقافي العام في المجتمع ، خاصة في ظل المتغيرات المعاصرة التى ترتبط بثورة الاتصالات والمعلومات، من هنا يظهر التحدي الثقافي للتنمية في اليمن خاصة مع ما يعكسه الواقع المجتمعي من انخفاض المستوى الثقافى وارتفاع حجم الأمية ومع غياب التحديث الاجتماعي في غالبية المناطق اليمنية خصوصا في الريف . فلا يمكن ان تنجح التنمية البشرية دون ثقافه تنموية تسندها وتبلور وعى الأفراد ومعارفهم بحيث تخلق لديهم افكاراً وقيماً وتصورات وميولاً تعزز فاعليتهم الفردية والجماعية وتعزز استيعابهم لمختلف مجالات التنمية ، اى لابد من ثقافة ترفع مستوى الوعي الثقافي والسياسي حتى تكون المشاركة التنموية والسياسية لأفراد المجتمع تتسم بالوضوح والوعي بما يقومون به.
ان التنمية البشرية بشكل عام هى عملية تغيير ثقافي اجتماعي ولا يجوز ان تقتصر على النمو الاقتصادي ، ذلك انه مالم يتغير البناء الاجتماعي القائم ومنظومته الثقافية والقيمية ، فان التنمية تعتبر عملية فاشلة . فالتنمية كجهد واعٍ موجه لتحسين معيشة الانسان وظروفه حاضرا ومستقبلا ترتكز أساسا على تغير ثقافى معرفى ، تنعكس دلالاته فى تغيير اساليب السلوك الموروثة واكتساب بواعث ومعايير وقيماً جديدة تتناسب مع التطور الايديولوجى والسياسي والتنظيمي الجديد ، وتنشيط الدوافع الفردية والجماعية وإشكال التنظيم الاجتماعية التى تساعد على توظيف جهود التنمية . فالمسألة الثقافية كمحددة للوعى والمعرفة هى النبع الذى نستمد منه طاقة الاندفاع والمشاركة فى التنمية ، فالتنمية البشرية ، التى لا تأخذ باعتبارها الجوانب الاجتماعية والثقافية ، تشبه انتاج آلة دون مورد يغذيها بالطاقة .
فالتنمية فى اليمن والعالم العربى لا تكمن مشكلتها فى اكتساب المعرفة الفنية والادوات التكنولوجية واستخدامها، بل فى القدرة على خلق تنظيم اجتماعي ملائم لعملية التنمية البشرية، وامتلاك القائمين على التخطيط التنموي المعرفة الكاملة بالظروف البنائية والهيكلية التى ينتظم فيها الأفراد والجماعات ، وخلق القدرة والرغبة والاستعداد على تقبل عمليات التحديث والتنمية ( اى تقبل التجديد ). معنى ذلك ان التنمية البشرية المستدامة لا يمكن ان تتحقق الا عن طريق إدخال تغييرات جذرية فى البناء الاجتماعي والثقافي اى فى الإطار المرجعي العام ، من خلال : خلق وبناء اطر وانساق تنظيمية مدنية جديدة ، نظم واساليب الإدارة الحديثة ، قيادات مدربة ذات قدرة على تحمل المسؤولية والأعمال الجديدة، فالتنمية لا يتوقف تحققها على العوامل التكنولوجية والاقتصادية وانما على حسن الأداء التطبيقى (التوظيف الامثل ) للثقافة والمعرفة بكافة عناصرها . هنا تبرز اهمية سوسيولوجية التنمية كعلم متخصص يدرس الشروط الاجتماعية والثقافية لعملية التنمية الشاملة والظواهر المصاحبة لها او المترتبة عليها .
المطلوب من النظام التعليمي اليمني ان يكون مرتكزا أساسيا لبناء مجتمع المعرفة وهذا الأخير نعرفه بانه المجتمع الذي يقوم أساسا على نشر المعرفة وإنتاجها وتوظيفها بكفاءة في جميع النشاط المجتمعي. ولإقامة مجتمع المعرفة خمسة أركان هي :
إطلاق حريات الرأي والتعبير والتنظيم وضمانها بالحكم الصالح
النشر الكامل للتعليم راقي النوعية
تعميم البحث والتطوير التقاني في جميع النشاط
إنتاج المعرفة وتعميمها
تأسيس نموذج معرفي أصيل ومنفتح ومستنير
ان اهم معوقات بناء مجتمع المعرفة ، الاعتقاد بغربية العلم والتكنولوجيا ، اى إنهما غربى المنشأ ، والنظر الى التنمية على انها عملية يتم نقلها من تجارب الدول المتقدمة او انها عملية تطور ونمو اقتصادي فقط . فالتنمية فى اليمن - والعالم العربي لا تكمن مشكلتها فى اكتساب المعرفة الفنية والأدوات التكنولوجية واستخدامها.بل فى القدرة على خلق تنظيم اجتماعي ملائم لعملية التنمية البشرية، وامتلاك القائمين على التخطيط التنموي المعرفة الكاملة بالظروف البنائية والهيكلية التى ينتظم فيها الافراد والجماعات،وخلق القدرة والرغبة والاستعداد على تقبل عمليات التحديث والتنمية(اى تقبل التجديد).
ان السياق المجتمعى الذى تتضاءل فيه فرص التحديث الثقافي والمعرفي ومنها تضاؤل القراءة واقتناء الكتب ، يصعب معه القول ببناء مجتمع المعرفة الذى أصبح سمة اساسية لعصرنا . فكى تنجح الدولة العربية الراهنة بتحقيق خطط التنمية لابد وان يرتبط ذلك بمدى قدرة الافراد والجماعات (الدولة والمجتمع) على اكتساب المعرفة وتوطينها وإنتاجها ، واساس ذلك يكون فى تعميم التعليم وتوسيع فرص التعلم الذاتى اضافة الى تحرير المجتمع بشكل نهائى من الامية. ولما كان الإنسان هو هدف التنمية وغايتها فان قدرته على الإنتاج والعمل ترتبط بقدرته على اكتساب المعرفة واستدامتها.
فالمعرفة اهم آليات البناء الحضارى فى السياق المحلى واهم اليات الحضور الايجابى في السياق الحضاري الدولي. معنى ذلك ان المعرفة من اهم اليات مواجهة التحديات الداخلية (الفقر، التخلف، العجز الفردي والمجتمعي ،العجز السياسي والاقتصادي…)والتحديات الخارجية المرتبطة بالتطور التكنولوجي والمعلوماتى الذي تنهض عليه حركة العولمة والمشروع الرأسمالي الغربى. ان تجاوز ذلك العجز ومواجهة تلك التحديات يتطلب ارادة سياسية وارادة مجتمعية (التشديد على اهمية دور النخب الحاكمة -الالتزام السياسي في بناء المعرفة) فى تحقيق سياسات نشطة وديناميكية في مجال التنمية البشرية هذه الرؤية تستلزم تقديم نموذج انمائى جديد تكون المعرفة اهم مرتكزاته ويكون الإنسان هو المحور الذي ترتبط به وتعمل من اجله سياسات التنمية وبرامجها. هنا يكون التعليم اهم الميكانزمات الفاعلة في بناء مجتمع المعرفة، ويشكل البوابة الرئيسية للتحديث والتنمية.
خامسا : أزمة مساق الدراسات العليا والبحث العلمي :
اذا كنا قد عبرنا عن ملامح ايجابية في مسار التعليم الجامعي من خلال استيعابه لأعداد كبيرة من الطلاب وما يبذله الأساتذة من جهود في العملية التعليمية فان مساق الدراسات العليا والبحث العلمي لاتعكس أي ملمح ايجابي عدا الجهود الطيبة لهيئة التدريس الذين يعملون في هذا المجال دون مقابل مادي يحترم ويقدر جهودهم .
ولما كنا بصدد جامعات تجاوزت في اعمارها 4 عقود (جامعتي صنعاء وعدن) فانه يمكن لهذه الجامعات اعتماد برامج للدراسات العلياء (منح ماجستير ودكتوراه) ووفق رؤى تنظيمية تاخذ في عين الاعتبار عدد هيئة التدريس ودرجاتهم العلمية لكن الامر الهام هنا وهو الذي يشكل مفارقة عجيبة حيث نجد اهتماماً كبيراً من غالبية هيئة التدريس ورغبة كبيرة من الطلاب للالتحاق بمساق الدراسات العليا نجد ادارة الجامعات ووزارة التعليم العالي تتعامل مع هؤلاء وفق بيروقراطية جامدة حيث الإقرار بمساق الدراسات العليا لم يواكبه تجهيزات في البنية التحتية اللازمة (ادارة مؤهلة ، فصول دراسية، مكتبة متخصصة، وسائل تكنولوجية ..) بل وحتى اجور هيئة التدريس متدنية ولا تأتي الا وفق متابعات تأخذ من الوقت اكثر من وقت الدراسة ذاته .
ومن الجيد ان تتطور الجامعات في مساقات تعليمها الجامعي والدراسات العليا ومن الجيد استثمار الكادر التعليمي حيث تفتخر اليمن بهذا الكادر المتنوع في مدارسه الفكرية وان تزايد عدد الاساتذة ممن ترقوا علميا يمكن الاستفادة منهم في الإشراف على الدراسات العليا . وهذه الاخيرة يجب اعادة النظر في اللائحة التنظيمية لها فقد تم اقرارها في غفلة من هيئة التدريس . فالواجب ان ترسل نسخة اولية من اللائحة المنظمة للدراسات العليا الى الاقسام لإبداء رأيها وملاحظاتها وفقا لظروف كل قسم وطبيعة تخصصه .
والسائد ان ادارة الجامعة ومجالس الجامعات والتى اصبحت تعمل وفق منطق رئيس الجامعة حيث يتبادل المنفعة مع اعضاء المجلس من العمداء ولم نسمع يوما انه تم احتدام النقاش في قضية عامة ذات اطار تنظيمي يرتبط بأسلوب الإدارة او النشاط الأكاديمي . فالمعروف ان الواقع المعاش في الجامعات اليمنية يعكس شخصانية مفرطة لا مجال معها للعمل المؤسسي. .ومع الإقرار بمساق الدراسات العلياء الا اننا لم نتمكن من الحصول على احصاء دقيق يشمل كل الأطروحات (الماجستير والدكتوراه) التى تم مناقشتها في الجامعات الحكومية والخاصة وفق ترتيب وتبويب لموضوعاتها وتخصصها .. وأكثر من ذلك أن وزارة التعليم العالي لم تحاول ان تقوم بتقييم مساق الدراسات العليا للوقوف على طبيعته ومشاكله كما يتحدث عنها ذوو الشأن من الطلاب وهيئة التدريس . وبشكل عام نؤكد على ايجابية مساق الدراسات العليا ولكن وفق شروط اهمها اعادة النظر في اللائحة التنظيمية لهذا المساق ومراجعة استعداد الأقسام المختلفة لهذا المساق التعليمي وتوفير التجهيزات اللازمة ...الجدير بالذكر ان مساق الدراسات العليا يجب ان يرتبط بمسار تطور البحث العلمي ودعمه ماليا ذلك ان عدداً كبيراً من الأطروحات الأكاديمية يمكن توجيهها نحو أهم القضايا والمشكلات التنموية بكل مجالاتها وهنا يستطيع الطلاب والأقسام العلمية اعتماد منظور للبحث العلمي يعكس حاجات المجتمع ويلبي رغبات التطور الفكري والمنهجي للكليات والأقسام العلمية . ومن المفارقة هنا ان البحث العلمي في الجامعات اليمنية يأخذ طابعا فرديا فلا بحوث مشتركة او جماعية لغياب خطط مسبقة يتم اقرارها من الأقسام العلمية او من الكليات ناهيك عن غياب الخطط البحثية من إدارة الجامعة ومجالسها الأكاديمية.
اضافة الى غياب الخطط والمشاريع البحثية الجماعية يغيب عنصر التمويل للابحاث وهنا يلجأ بعض الناشطين من هيئة التدريس الى المنظمات الاهلية المحلية او الدولية لتمويل مشاريع ابحاثهم في حين تتحول موازنات البحث العلمي في الجامعات الى بدل سفر للقيادات الإدارية في الجامعة . في هذا السياق نؤكد على تغييب مقصود للبحث العلمي من خلال اعتماد سياسات اقصائية للتمويل الخاص بالبحث والتطوير. وهنا نشير الى غياب التنسيق بين الجامعات والمؤسسات الحكومية المختلفة وهو الأمر الذي يجب ان يخطط له من قبل وزارة التعليم العالي ورؤساء الجامعات وعمداء الكليات ورؤساء الأقسام . ومعنى ذلك ان الجامعات الحكومية وهي أكبر بيوت خبرة في البلاد لا يتم استشارتها او اشراكها في مجالات البحث العلمي والتقييم للمشروعات الإنمائية حيث يتم الاستعانة بخبراء من الخارج وبتكاليف باهضة دون الاهتمام بالعنصر اليمني من الداخل .
ويمكن لنا الإقرار بجهود فردية لبعض هيئة التدريس في هذه الجامعة او تلك لكن المؤكد ان الجامعات الحكومية لا تمتلك رؤية إستراتيجية للبحث العلمي ولم يتم اشراك هيئة التدريس في إقرار مثل تلك الرؤى الإستراتيجية . وهنا لا يمكن تعليل غياب البحث العلمي بغياب او قلة الموازنات المالية فهذا المجال- أي البحث العلمي- يمكن ان يكون أهم مصدر من مصادر تنويع الدخل للجامعات الحكومية والإسهام في تجهيزاتها المؤسسية اللازمة .
ولتدعيم رأينا السابق نستشهد بواقع التعليم والبحث العلمي في اليابان ذلك أهم نقاط القوة التى تتمتع بها اليابان كدولة لديها أيد عاملة على مستوى رفيع من التعليم والمعرفة العلمية ، مستويات عالية من الاستثمار في مجالات البحوث والتطوير العلمي ، رؤية إستراتيجية مستدامة لتطوير التعليم والبحث العلمي . فاليابانيون يؤكدون على ضرورة امتلاك المعرفة فهم يقيمون وزنا كبيرا للنشاطات التعليمية (الجماعية خصوصا) ويعتبر الأساتذة في اليابان كنزا قيما .
سادسا ً: بؤس الإدارة الجامعية :
بشكل عام تتصف مؤسسات التعليم العالي ببؤس في نمط الإدارة الأمر الذي انعكس في مجمل العمل الإداري والأكاديمي . فغياب الرؤية الإستراتيجية لهذه المؤسسات واعتماد التعيين من خارجها دون محددات موضوعية في الاقدمية والعطاء العلمي جعل من القيادات الإدارية ان تسلك في نشاطها مسلكا نخبويا لا تعطي اهمية لمجموع العاملين معها في المؤسسة . ولما كان التعيين وفق اشتراطات حزبية وعلاقات شخصية جعل من الأداء الأكاديمي معيارا ثانويا، ووفقا لذلك برزت في النشاط اليومي صراعات متعددة بين رؤساء الجامعات والموظفين وبينهم وزملائهم الأساتذة وخلق مظاهر تذمر انعكست في مشاعر احباط لدى الغالبية من هيئة التدريس . وللخروج من هذه الأزمات لابد من إعادة انتخاب رؤساء الأقسام وعمداء الكليات وانتخاب شخصين او ثلاثة يتم تعيين واحد منهم كرئيس للجامعة وهنا نعيد لهذه المؤسسات التعليمية احترامها ونعتمد تقاليد أكاديمية تحترمها جميع المؤسسات التعليمية في العالم . ولعل الإدارة الحالية في جميع الجامعات وما قبل التعيينات الأخيرة خير دليل على ما ذهبنا اليه حيث برزت صراعات وتحزبات وفق مجموعات وشلل كل منها يتهم الاخر ويعطل الاداء العام وهذا له تأثير سلبي على العملية الأكاديمية . ووفقا لذلك ولتحقيق المصلحة العامة من هذه المؤسسات التعليمية يجب اعتماد معايير موضوعية في اختيار الأشخاص القياديين واحترام مبدأ الكفاءة والعطاء العلمي دون المحازبة الضيقة او الزبائنية ذات المرجعية العصبوية . فالبناء المؤسسي في مختلف مؤسسات التعليم العالي ذو طابع شخصاني يفتقد الى الإدارة الرشيدة في صنع القرارات ويضع قيوداً على إمكانات الباحثين ونشاطهم العلمي ولا يشكل حافزا لهم على الإنتاج العلمي وينفق موارد البحث والتطوير في مجالات السفر والاحتفالات الكرنفالية .ويمكننا ان نلخص اهم ما ترتب على بؤس الإدارة لمختلف المؤسسات التعليمية كما يلي :
معظم القيادات الجامعية غاية فى السوء.
الكثير من العمداء ورؤساء الجامعات يتم تعيينهم ليس لكفاءتهم أو تفوقهم بل لاعتبارات أخرى لا صلة لها بالعلم والمؤهل والكفاءة العلميين.
غياب استقلالية العمل الجامعي وخرق القوانين الحكومية المتصلة بذلك.
الصراع بين رؤساء الجامعات ونقابات هيئة التدريس .
تدني المكافآت المالية للأساتذة من تعليمهم في الدراسات العليا والتعليم الموازي.
تدني المكافآت المالية للأساتذة من أي نشاط علمي يقومون به خارج التدريس.
عدم تمكن الكثير من هيئة التدريس من السفر للخارج في إطار التبادل الثقافي والعلمي.
عدم تمكن الكثير من هيئة التدريس من طبع كتبهم وتضخم الإجراءات الإدارية في حالة الموافقة.
التدخل من رؤساء الجامعات في الشأن الأكاديمي للأقسام العلمية تعيين المعيدين والمدرسين دون اعتماد الشروط الموضوعية المنصوص عليها.
تعيين رؤساء الأقسام من الموالين.
دعم رؤساء الجامعات لبعض الأقسام دون البعض الآخر في تنظيم مؤتمرات سنوية وهو الأمر الذي يعكس غياب رؤية علمية لماهية النشاط العلمي داخل الجامعات .
التحيز الشخصي لرؤساء الجامعات في سفر بعض هيئة التدريس في مؤتمرات حيث يختار رؤساء الجامعات من أصدقائهم والمقربين منهم.
الاهتمام الرئيسي والذي تعطي له الأولوية في نشاط رؤساء الجامعات هو العمل الإداري والشؤون المالية وغياب الاهتمام الحقيقي بالشأن الأكاديمي وهنا برزت مظاهر الفساد التي تكشفها تقارير جهاز الرقابة والمحاسبة سنويا .
سابعا ً: جوانب القوة والضعف في مؤسسات التعليم العالي:
أولاً جوانب القوة :
تنوع المدارس الفكرية والتعليمية التي تخرج منها أعضاء هيئة التدريس من اليمنيين ( الجهل بهذه الميزة جعل المشرفين على احد تقارير المجلس الاعلى للتعليم يعتبرونها بمثابة تشتت وصفة سلبية ).
بروز في القدرات الذاتية للجماعات العلمية اليمنية (نشاط ابداعي فردي ).
بروز فاعل في الإنتاج العلمي لبعض الأساتذة كنشاط فردي.
وجود الجامعات الحكومية وفق مستواها القائم رغم ملامح الضعف لا يقلل من ايجابيات حضورها العام.
جهود طيبة يبذلها غالبية هيئة التدريس بوازع وضمير.
استمرار تعلق غالبية الطلاب بأهمية التعليم الجامعي بغض النظر عن القيمة الحقيقية لهذا المستوى من التعليم.
هناك الكثير من الخبرات والتقاليد الأكاديمية يمكن البناء عليها في حال تم تصحيح الأخطاء المرتبطة بالتدخلات الشخصية والحزبية وتسييس الجامعات .
يمكن الاستفادة من استمرار الطلب المجتمعي على التعليم الجامعي في إعادة الاعتبار لهذا المستوى من التعليم ومن ثم إعادة الاعتبار لدور الدولة الايجابي في دعم التعليم الجامعي وفق منظور المصلحة الوطنية العامة.
ثانياً: جوانب الضعف :
التكرار والمماثلة في الأقسام الأكاديمية دون تطور نوعي.
غياب التطوير الدوري لمفردات المقررات التعليمية.
ضعف كبير في إنتاجية البحث العلمي وغياب تمويله بل وغياب رؤية إستراتيجية مستدامة للبحث العلمي.
غياب كامل للتمويل والدعم الخاص بالترجمة والتأليف .
ضعف كبير في التنسيق بين الكليات والأقسام داخل الجامعة الواحدة ناهيك عن غيابه بين الجامعات.
إقرار مسار تعليمي للدراسات العليا دون تلبية احتياجاته المكتبية والقاعات والدعم المالي.
سوء إدارة الجامعات والتدخل الشخصي والمزاجي في القرارات الجامعية إداريا وأكاديميا.
اختلال كبير في نسبة أعداد الطلاب مقارنة بأعداد هيئة التدريس.
النزعة اللا علمية والتشبه الزائف بالعلم من خلال تصور أداتي يعكس مظاهر شكلانية لاحتفالات تقيمها وزارة التعليم العالي وإدارة الجامعات .
إخضاع التعليم لقانون العرض والطلب فيه كثير من الابتذال وتسطيح مهنة التعليم ومدلولها السوسيولوجي .
تبدل دور الجامعات والهبوط بوظيفتها الى كونها ملحقاً بالسوق والنظر إليها كشركة تعتمد منطق الربح وفق آليات العرض والطلب.
تدمير التقاليد الأكاديمية داخل الجامعات اليمنية في حين تعتز الجامعات الأوروبية بتقاليدها الأكاديمية منذ نشأتها
ثامناً نحو رؤية إستراتيجية لمؤسسات التعليم العالي في اليمن:
صفوة القول: النظام التعليمي اليمني يتصف بأزمة بنيوية تشمل كل مستوياته وهو انعكاس لأزمة الدولة وغياب مشروعها الحداثي ووفقا لذلك يمكن القول في اليمن نظام تعليمي ذو جودة ونوعية رديئة لا يعمل على تجسير الفجوة بين الجنسين ولا يرتقي بمهارات ومعارف الأفراد ولا يضيف الى المجتمع . وهذا التردي يفقد التعليم هدفه الإنمائي والإنساني وينعكس سلبا في تحسين نوعية الحياة وتنمية قدرات الإنسان الخلاقة. ففي كتابه الموسوم ب «الاستعداد للقرن الحادي والعشرين» يشير المؤرخ الأمريكي الشهير بول كيندي الى اليمن في نصف سطر فيقول: في اليمن يعاني كل نظام التعليم من الكآبة، وهنا يؤكد تقرير التنمية الإنسانية العربية ان اخطر مشكلات التعليم في الوطن العربي تتمثل في تردي نوعيته. فتناقص الكفاءة الداخلية للتعليم وضعف الجودة ترتب عليه ان بدأ التعليم يفقد دوره الهام بوصفه وسيلة للصعود الاجتماعي وهنا يمكن ان نرصد ثلاث سمات أساسية تعكس اوجه الضعف في العملية التعليمية في الوطن العربي كما تناولها تقرير التنمية الإنسانية العربية وتشكل أهم التحديات للتعليم الجامعي والتعليم بشكل عام : تدني التحصيل المعرفي ، ضعف القدرات التحليلية طرأ التدهور فيهما معا واهم سبب في تدني التعليم الجامعي يرتبط بعدم وضوح الرؤية وغياب سياسات واضحة تحكم العملية التعليمية فالجامعات تدار وفقاً لمنطق السياسة بأفقها البراجماتي وليس وفقا لسياسة التعليم بأفقها الاستراتيجي وهنا جاء التوسع الكمي في عدد الجامعات وعدد الطلاب على حساب جودة التعليم ونوعيته .
ووفق التطور العالمي أثر التصنيع والتمدن تأثيرا بالغا على تنمية النظم التربوية والتعليمية ومع تنامي الاقتصاد الصناعي تزايد الطلب على انواع متعددة من التدريس التخصصي القادر على توفير قوى عاملة وقادرة ومع توسع النظم التعليمية تزايد عدد طالبي المعارف الجديدة . وهنا ظهر خلل جوهري بين سوق العمل ومستوى التنمية من ناحية وبين ناتج التعليم من ناحية اخرى (دليل ذلك .. تفشى البطالة بين المتعلمين ) وبالتالي تدني قدرة النظم التعليمية على تلبية احتياجات التنمية .. ومع ضعف دور القطاع الخاص في مجال التعليم العالي ومحورية نشاطه الهادف الى الربح اصبح هذا القطاع في اليمن يعيش متفرجا على النظام التعليمي ففي المجتمعات المتقدمة يمتلك القطاع الخاص 54 % من الكليات والجامعات ومراكز البحث المتقدمة . وهنا لا يجب ان تقف الدولة متفرجة طالما ان القطاع الخاص لا يقدم على الاستثمار المكثف في المؤسسات التعليمية (مع التاكيد على وجود استثمارات محدودة ) ولا يجب ان تضخم وزارة التعليم العالي حجم الموازنة المالية الممنوحة للتعليم العالي بكل مؤسساته (ارتفعت حصة التعليم من النفقات الحكومية الإجمالية من 16,0 عام 96 الى 17.7 عام 2000 ومن 20.7 عام 2002 الى 21.2 عام 2005 ) فهذه الموازنة تنفق غالبيتها في اجور العاملين وان الإنفاق الموجه نحو تطوير المناهج التعليمية وتطوير كفاءة هيئة التدريس وتطوير قاعات التدريس لا اثر لها ناهيك عن غياب الدعم المالي للبحث العلمي وهو الأمر الذي يجعل جامعاتنا تعيش على لإنتاج فكري من خارجها.
في هذا السياق يمكن القول: ان الجامعات لدينا لا تفكر أي لا تنتج علما خاصا بها، وهنا يجب ان نجعل من جامعاتنا مؤسسات لإنتاج الفكر والمعرفة واستيعاب التطور العلمي العالمي وتبيئته محليا . فاكتساب المعرفة لا يقتصر على البناء على قاعدة المعرفة الوطنية لتوليد معرفة جديدة من خلال البحث والتطوير ولكنه يتطلب ايضا جني المعرفة المتواجدة في أماكن أخرى وتكييفها عن طريق الانفتاح بمعناه الواسع وتشجيع الانسياب الحر للمعلومات والأفكار.
ان جامعاتنا في عموم الوطن العربي ظواهر ثقافية افرزها مشروع التنوير الغربي وجدت فيها الدولة الحديثة اداة نموذجية لترتيب بنيتها الداخلية فالجامعات لا تعني أكثر من جهاز شرعي لإنتاج موظفين قابلين للاستخدام في المؤسسات العمومية وهذا التصور الاداتي للجامعة أفرغها من مضمونها التنويري والعقلاني فالجامعة وفق التصور الاداتي تجعل من المعرفة وسيلة للسيطرة السياسية وهي بذلك تكون جسما غريبا في سياقها المجتمعي . فالجامعات لا تلقى القبول المجتمعي الا اذا كان لها دور تنويري خارج أسوارها كما هو داخل تلك الأسوار . ولم يعد دور الجامعات يقتصر على توسيع مدارك الناس وتعميق نظرتهم للحياة عموما بل تعداه الى إعداد أجيال جديدة من المواطنين للمشاركة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
في هذا السياق يقول برتراند راسل ان التعليم ليس مجرد سرد للمعلومات وان كان يتضمن قدرا منه الا انه ليس الوظيفة الوحيدة للمعلم ولا اهم وظائفه ، فدور المعلم هو التوجيه وتمكين التلميذ من إدراك الأمور بنفسه أي تعلم التفكير بطريقة مستقلة بمساعدة مرشد أكاديمي قادر على التوجيه، ومعنى ذلك ان أي مؤسسة أكاديمية تكون قد تحققت وظيفتها الصحيحة بقدر ما تنمي عادات التفكير المستقل وروح البحث المتحرر من التحيز اما إذا أخفقت الجامعات في تحقيق هذه المهمة فإنها تهبط الى مستوى التلقين ولهذا المستوى عواقب وخيمة.. ومن جانبه يذهب كانط الى القول انه لا ينبغي على التلميذ ان يتعلم افكارا بل ان يفكر هو وعلى المعلم ان يقوده في ذلك . فلا شيء اكثر حزنا من وضع عقول الشباب تحت الوصاية فالمادة التعليمية تتلخص بالمنهاج الذي يشمل الكتاب المدرسي المفترض ان يضم بين غلافيه افضل ما تمكن أصحاب القرار والمؤلفون ان يتفقوا عليه كتجسيد لما يعتبرونه ضروريا او جديرا بالتعليم والتعلم، ومحتوى المناهج يتجنب تحفيز التلاميذ على نقد المسلمات الاجتماعية والسياسية ويقتل فيهم النزعة الاستقلالية والإبداع ومن يدخل قاعة الدرس يطلب منه الا يتكلم أي ان يكون صنما مع ان جوهر العملية التعليمية يجب ان يكون حوارا ونقاشا يتعلم من خلاله الطلاب عملية التفكير والنقد ووضع التساؤلات المنهجية.. وهنا يتحقق مفهوم التنوير بخروج الإنسان عن عجزه في استخدام عقله . ووفقا لذلك يمكننا القول ان التعليم الجامعي في بلادنا يمارس وفق مجموعة من الاكراهات الإدارية والقانونية والسياسية والمعنوية جميعها تخلق إحباطا لدى الطالب والأستاذ وتعكر المزاج الفردي والجمعي وتقتل حالات الإبداع والتفكير المستقل.
فاذا كانت الحكومة اليمنية قد اقرت في رؤيتها الإستراتيجية لليمن 2025 ان التعليم العالي جزء أساسي من البنية التحتية للتنمية الوطنية الشاملة . فهذا التصور لا يتجاوز الينبغيات التى تعتمدها الحكومة في خطاباتها ذلك ان الممارسة العملية تسير بشكل معاكس لهذا الخطاب . وبشكل عام نقول ان ولوج اليمن إلى مجتمع المعرفة رهين بتطور نوعي في المؤسسات التعليمية وهذا يتطلب رؤية إستراتيجية تجعل من التعليم هدفا قوميا لا يجوز التلاعب بمدخلاته ولا بنظامه وهنا يكون اعتماد الكفاءات العلمية هو الآلية الناظمة لتعيين القيادات الإدارية . ولا يمكن اعتماد رؤى ذات هواجس أمنية تضخم المخاوف من الطلاب وهيئة التدريس فالأصل انهم جميعا مواطنون يمنيون يعملون لتحقيق مصالح الوطن وهنا يجب ان يستشعر جميع العاملين في هذه المؤسسات مواطنيتهم المتساوية الأمر الذي يعزز لديهم الحوافز الايجابية للعمل الإبداعي . ووفقا لذلك لابد من اتخاذ خطوات ايجابية تجاه إصلاح الجامعات وإعادة الاعتبار اليها من خلال الخطوات التالية :
إعادة هيكلة الجامعات أنظمتها وأبنيتها المؤسسية وقوانينها وأنماط العلاقات والتفاعلات بين الموظف والأستاذ و الأستاذ والطالب.
ابراز رسالة ورؤية الجامعة لدورها العلمي والمعرفي والتنويري العام في المجتمع.
إعادة النظر في المقررات التعليمية وتطوير مفرداتها.
استحداث أساليب تكنولوجية مساعدة في العملية التعليمية .
اعادة انتخاب رؤسا الأقسام وعمداء الكليات ورؤسا الجامعات.
تفعيل نوعي لدور الجماعات العلمية (هيئة التدريس من خلال مؤسساتهم النقابية).
تفعيل دور الطالب في إطار نشاطاته العلمية والثقافية.
إبراز حقيقي لاستقلالية الجامعات وعدم تسييسها.
منع التدخلات من خارج الجامعة والتي تؤثر سلبا في المسار التعليمي.
إعادة النظر في سياسات التعليم العالي مع إشراك جميع هيئة التدريس في الحوار من اجل خلق رؤية إستراتيجية للتعليم العالي.
إعادة النظر في مراعاة شروط تأسيس الجامعات الخاصة واستكمالها على الأقل 50% من شروط بناء الجامعات.
إعادة الاعتبار للتقاليد الجامعية باحترام الأنظمة واللوائح في العمل الإداري والأكاديمي.
إعادة الاعتبار الى الأقسام العلمية باعتبارها الوحدات الأكاديمية الأساسية التي تتأسس عليها مجمل العمليات التعليمية في الجامعات.
إعادة النظر في دور ومهام وزارة التعليم العالي بالتأكيد على دورها الإشرافي والرقابي والتوجيهي وان لا تبقى متفرجة تجاه أزمات المؤسسات الجامعية او تجاوزاتها مثل ما هو سائد في الجامعات الخاصة .
اعتماد خطة سريعة لمعالجة القصور في البنية التحية وتجهيزاتها اللازمة للعملية التعليمية بشكل يتوافق مع تزايد أعداد الطلاب.
النظر الى التعليم بكل مؤسساته من منظور الرسالة والغاية الوطنية والإستراتيجية التى تتحقق من خلالها مشروعية الدولة وواجباتها نحو المسألة الاجتماعية وهنا لا يجوز النظر الى التعليم العالي من باب الربح وآليات العرض والطلب.
(*) استاذ علم الاجتماع السياسي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.