إسقاط طائرة تجسس حوثية في شقرة بمحافظة أبين    قبل قيام بن مبارك بزيارة مفاجئة لمؤسسة الكهرباء عليه القيام بزيارة لنفسه أولآ    تأجيل مباريات الخميس في بطولة كرة السلة لأندية حضرموت    القوات المسلحة الجنوبية تحبط هجوما للقاعدة في أبين    السكرتير السابق للشيخ الزنداني يكشف مفاجأة عن تصريحه المتداول حول ''عودة الخلافة'' في 2020    دراسة: اقتصاد العالم سيخسر 20% بسبب التغيرات المناخية    عن العلامة اليماني الذي أسس مدرسة الحديث النبوي في الأندلس - قصص رائعة وتفاصيل مدهشة    وفاة مواطن وجرف سيارات وطرقات جراء المنخفض الجوي في حضرموت    المهندس صعتر و جهاد الكلمة    أضرار مادية وخسائر بشرية بسبب الفيضانات شرقي اليمن وإغلاق مدينة بالكامل    ترحيل آلاف اليمنيين من السعودية    ريال مدريد يثأر من مانشستر سيتي ويتأهل إلى نصف نهائي أبطال أوروبا    ركلات الترجيح تحمل ريال مدريد لنصف نهائي الأبطال على حساب السيتي    ليلة للتاريخ من لونين.. وخيبة أمل كبيرة لهالاند    نعيبُ جمهوريتنا والعيبُ فينا    أهلي جدة: قرار رابطة الدوري السعودي تعسفي    حراس الجمهورية تجبر ميليشيا الحوثي التراجع عن استهداف مطار المخا    الكشف عن استحواذ جماعة الحوثي على هذه الإيرادات المالية المخصصة لصرف رواتب الموظفين المنقطعة    الحوثيون يضربون سمعة "القات" المحلي وإنهيار في اسعاره (تفاصيل)    آية تقرأها قبل النوم يأتيك خيرها في الصباح.. يغفل عنها كثيرون فاغتنمها    فضيحة قناة الحدث: تستضيف محافظ حضرموت وتكتب تعريفه "أسامة الشرمي"    غرق شاب في مياه خور المكلا وانتشال جثمانه    بن بريك يدعو لتدخل إغاثي لمواجهة كارثة السيول بحضرموت والمهرة    "استيراد القات من اليمن والحبشة".. مرحبآ بالقات الحبشي    حضرموت تستعد للاحتفاء بذكرى نصرها المؤزر ضد تنظيم القاعدة    "ليست صواريخ فرط صوتية"...مليشيات الحوثي تستعد لتدشين اقوى واخطر سلاح لديها    ثلاث مساوئ حوثية أكدتها عشرية الإنقلاب    فيديو اللقاء الهام للرئيس العليمي مع عدد من كبار الصحفيين المصريين    دوري ابطال اوروبا ... ريال مدريد يطيح بمانشستر سيتي ويتأهل لنصف النهائي    مأساة إنسانية: صاعقة رعدية تُفجع عائلتين في تعز    اليمن: الكوارث الطبيعية تُصبح ظاهرة دورية في بعض المحافظات الساحلية، ووزير سابق يدعو لإنشاء صندوق طوارئ    على رأسهم مهدي المشاط ...ناشطة حوثية تدعو إلى كسر الصمت حول قضية السموم الزراعية في اليمن    رافقه وزيري العمل والمياه.. رئيس الوزراء يزور محافظة لحج    دراسة حديثة تحذر من مسكن آلام شائع يمكن أن يلحق الضرر بالقلب    انس جابر تعبر الى ثمن نهائي دورة شتوتغارت الالمانية    استقرار أسعار الذهب عند 2381.68 دولار للأوقية    مفاجأة صادمة ....الفنانة بلقيس فتحي ترغب بالعودة إلى اليمن والعيش فيه    محافظ المهرة يوجه برفع الجاهزية واتخاذ كافة الإجراءات الاحترازية تحسبا للمنخفض الجوي    وفاة وإصابة 162 مواطنا بحوادث سير خلال إجازة عيد الفطر    أبناء الجنوب يدفعون للحوثي سنويا 800 مليون دولار ثمنا للقات اليمني    تصحيح التراث الشرعي (24).. ماذا فعلت المذاهب الفقهية وأتباعها؟    10 أشخاص ينزحون من اليمن إلى الفضاء في رواية    مصير الأردن على المحك وليس مصير غزة    من هم الذين لا يدخلون النار؟.. انقذ نفسك قبل فوات الأوان    باريس سان جيرمان يرد ريمونتادا برشلونة التاريخية ويتأهل لنصف نهائى دورى الأبطال    نيابة استئناف الامانة تتهم 40 من تجار المبيدات والأسمدة بارتكاب جرائم بيئية وتعريض حياة الناس للمخاطر    الكشف عن آخر تطورات الحالة الصحية للفنان عبدالله الرويشد    ارنولد: انا مدين بكل شيء ل كلوب    خطة تشيع جديدة في صنعاء.. مزارات على أنقاض أماكن تاريخية    وللعيد برامجه التافهة    السيد الحبيب ابوبكر بن شهاب... ايقونة الحضارم بالشرق الأقصى والهند    ظهر بطريقة مثيرة.. الوباء القاتل يجتاح اليمن والأمم المتحدة تدق ناقوس الخطر.. ومطالبات بتدخل عاجل    أبناء المهرة أصبحوا غرباء في أرضهم التي احتلها المستوطنين اليمنيين    وزارة الأوقاف تعلن صدور أول تأشيرة لحجاج اليمن لموسم 1445ه    تراث الجنوب وفنه يواجه.. لصوصية وخساسة يمنية وجهل وغباء جنوبي    تأتأة بن مبارك في الكلام وتقاطع الذراعين تعكس عقد ومرض نفسي (صور)    تخيل أنك قادر على تناول 4 أطعمة فقط؟.. شابة مصابة بمرض حيّر الأطباء!    النائب حاشد: التغييرات الجذرية فقدت بريقها والصبر وصل منتهاه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المرضى الذين علموني خيبة أمل
نشر في الجمهورية يوم 03 - 07 - 2010

جاءت المريضة إلى عيادتي بمفردها، ولم يرافقها أحد من أقاربها أو أبنائها أو صديقاتها وهو أمر قليل الحدوث، لأنني في العادة أتضايق من كثرة المرافقين من الرجال والنساء والأطفال لمريض واحد أو مريضة واحدة، وكأن الجميع في نزهة إلى حديقة عامة وليس في زيارة إلى عيادة طبيب.بادرتني قبل جلوسها وبدون إلقاء التحية العادية، وبدون أن تمنحني الفرصة للترحيب بها، وكان صوتها عالياً وأقرب إلى الصياح منه إلى الحديث المعتاد:
أني قد لي سنين ما أروحش لدكاتره.. ولا أتعاين.. بس جيت لك اليوم بعد أن صممت عليَّ صديقة وقد لها أكثر من شهر تحاول تقنعني.. وقالت لي أنك عالجت أمها وتباخرت.. وأخيراً قلت باجي لك.. وأني مش مصدقة أنك تقدر تعمل لي حاجة.. بس قدأني باجربِّ.
استطعت مقاطعتها أخيراً:
طيب.. طيب.. بالراحة شوية.. أهدئي قليلاً.. قولي لي اسمك أولاً وهل أنت متزوجة وهل لديك أبناء؟
هذا كله ما فيش منه فايدة.. أني تعاينت عند كل الدكاترة في تعز وصنعاء.. وأصبحت مقتنعة أن كل الأطباء زي بعض.. وأصبحت معقدة منهم جميعا.. ولا حد منهم قدر حتى مرة واحدة يعطي لي حتى دواء مهدئ للوجع.
كنت قد قدرت أنها في حوالي الخامسة والثلاثين من العمر، طويلة الجسم ونحيفة وعظام وجنتيها بارزة مع أنف دقيق وجبهة ضيقة، مما يعطيك شعوراً بقسوتها وحدتها وعصبيتها الظاهرة التي تفوح منها وتسمم أجواء المكان.
أخذت أتساءل بيني وبين نفسي كيف يقدر المرضى القلقين أن يشحنوا الجو المحيط بالقلق والانفعال، وأن ذلك قد يصيبني بالنزق وسرعة الغضب ويؤدي إلى سوء التفاهم مع المريض، إذا لم أقم بالإجراءات الوقائية التي أتمكن بها من السيطرة على أعصابي وتمالك هدوء نفسي، وكيف يمكن كذلك للمرضى بالاكتئاب أن ينقلوا شعورهم إليك ويصيبونك بالكآبة والحزن والوجوم وهبوط المعنويات، هل الاكتئاب والقلق ينتشر عن طريق العدوى المباشرة؟! أو بنوع من الشحنة الكهرومغناطسية؟ أو بنوع من التفاعل الكيميائي عن بعد، أم ماذا؟.
أفقت من تساؤلاتي ورحت أعيد اهتمامي وتركيزي نحو مريضتي.. وعرفت منها بعد أن استطعت مقاطعتها أنها مقيمة في مدينة تعز مع زوجها وثلاثة من الأبناء، ولدين وبنت في السادسة من عمرها، وطلبت منها أن تحكي لي عن مرضها منذ بدايته، وأن تهدأ حتى تستطيع التركيز على القصة المرضية وتقدم لي المعلومات الضرورية.
شوف يا دكتور.. الوجع في بطني بدأ مباشرة بعد الولادة الأخيرة أني لا شفت في حياتي مثلها ولا سمعت.. يمكن السبب أني ولدت بنت في المرة الأخيرة، بينما لم أحس بمثل هذي الآلام عند ولادة عيالي الذكور قبل ذلك.
وصيحوا الجيران حقي لممرضة عجوز، جاءت وأني في حالة قريبة من الموت، وعملت لي إبرة، وزاد عندي الألم والطلق حتى خرجت الطفلة.. وبدل ما تهدأ الآلام بعد الولادة.. زادت حتى أصبحت أشد من الطلق حق الولادة.. أني أقول يمكن الإبرة اللي عملتها لي الممرضة لتسريع الولادة هي السبب.
طيب.. طيب.. وبعدين بعد الولادة وانتهائها وخلال هذي السنوات.. ما الذي يحدث لك بالضبط.
آلام في البطن كله.. آلام بشكل فظيع في كل مكان في البطن.. تبدأ من سُفال البطن وتطلع إلى رأس القلب والأشقاق والحقو، وبعدين تفتح لي في ظهري طاقة تخليني ما أقدرش أتحرك أي حركة.. آلام مستمرة يومياً.. ست سنين حتى اليوم.. ولا حصلت حتى يوم راحة.. من يقدر يتصور أن هذي حياتي وحالتي.. وأني كنت ما فيش أحسن مني..!!,
طيب قولي لي كيف الألم حقك.. هل هو مغص، عصرة أو وجع مستمر مثل الجرح، أو طعن أو نغزات أو لهيب أو أي حاجة ثاني!؟
لم أدر أن سؤالي الهادئ وما أبديته على ملامحي من تعاطف صادق واهتمام حقيقي بمشكلتها سوف يثير حنقها وغضبها، مما جعلها ترد عليَّ بصوت أكثر ارتفاعاً مما كان عليه سابقاً، وصارت كلماتها سريعة ومحملة بشحنات من التوتر العميق، وقالت:
ألم.. ألم. يا دكتور أيش أنت ما تعرفش الألم؟! آلام رهيبة زي ما قلت لك في كل مكان في البطن.. تشوفني كذه ذلحين.. لكن لو شفتني بعد ما يبدأ الألم خلاص ما عد بتعرفنيش.. آلام فظيعة تعمل لي دوخة ولا أقدر أرفع رأسي.. والطاقة اللي في الظهر تخليني لا قادرة أرفع إيد ولا رجل.. آلام فظيعة كل يوم.

أدركت أنني أمام حالة صعبة من حالات العداء للمهنة الطبية، وأن عليَّ أن استجمع كل ما في طاقتي وقدرتي على كبت المشاعر والانفعالات، وأن عليَّ مسايرتها وأن أركز حواسي على تجنب الألغام التي يمكن أن تنفجر بيننا في أي لحظة، وتنحرف بالعلاقة المهنية بيننا، ونصل إلى طريق مسدود.
وقد يعادي بعض المرضى أفراداً بعينهم من الأطباء، نتيجة لسوء تفاهم حدث بينهم، أو لإحساسهم بحدوث تقصير أو خطأ من الطبيب، أو بسبب ما يعتقدون فيه من الفظاظة والقسوة أو الطمع أو الغرور، وهذا أمر مفهوم ومقبول لأنه ضمن طبائع من الأشياء وما تشتمل عليه العلاقات بين البشر على اختلافهم.
أما العداء غير العقلاني وغير المبرر نحو جميع الأطباء والمهنة الطبية كلها، فأمر قليل الحدوث، ويشكل تحدياً للطبيب وامتحاناً لصبره وقدرته على الاحتمال، بسبب المشاعر السلبية الفوارة التي يحملها المريض، وشكوكه العميقة بكل الأطباء والإجراءات الطبية التي يعتبرها وسائل لابتزاز المرضى واستغلالهم، ويعلن سخطه طول الوقت وغضبه على جميع الأطباء باعتبارهم جميعاً أوغاداً أغبياء قساة القلوب.
وقد يبدأ هذا الموقف العدائي العدواني للمريض تجاه المهنة الطبية بعد وفاة قريب عزيز لديه لم يستطع الأطباء أن يفعلوا له شيئاً، أو بعد إصابته هو بمرض مزمن كالروماتيزم أو الربو أو الشلل، لكن الأغلبية من هؤلاء هم من المرضى المصابين بأنواع العصاب والأمراض الوظيفية أو الجسدية النفسية، والذين يترددون على الكثير من الأطباء والاختصاصيين، ويسمعون منهم آراء مختلفة ومتضاربة، وتشخيصات متغيرة وتفسيرات متباينة وغير مقنعة، وأدوية متنوعة لا تحقق لهم ما يرجونه من التحسن والشفاء، وبعضها تسبب لهم أعراضاً جانبية لا تطاق، ويزيد من تفاقم الأمور أن المريض عندئذ، تساوره الشكوك والظنون، ثم تترسخ لديه مواقف العداء غير العقلاني نحو الأطباء والمهنة الطبية، ويقاطعهم جميعاً معلناً سخطه وغضبه وكرهه لهم جميعاً.
وإذا أصيب مثل هذا المريض بمرض عضوي حاد فإن عداءه للمهنة الطبية يدفعه إلى التأخر في التوجه إلى الطبيب في الوقت المناسب، ويسبب له الكثير من الأضرار والمضاعفات الفادحة.

بدأت توجيه الأسئلة المعتادة إلى المريضة عما يصاحب الألم من أعراض أخرى مثل الطرش أو الإسهال أو الإمساك أو انتفاخ البطن أو حرقة في البول، أو تغييرات في البراز أو البول، وكانت تجيب بالنفي بحدة على كل سؤال حتى نفد صبرها، فقاطعتني قبل أن أكمل قائمة الاستجواب المعتادة للأعراض الأخرى، واندفعت تقول بحدة وعصبية:
قلت لك يا دكتور أني ولا عندي إلا ألم.. ألم شديد حول حياتي كلها إلى عذاب.. ولا عندي حاجة ثاني غيره.. وكل الأطباء اللي تعاينت عندهم.. ولفيت عليهم كلهم ثلاث سنين.. مش شهر ولا شهرين.. كلهم يسألوني هذي الأسئلة..
وأني أقول لهم ما عندي إلا هذا الألم فقط..ولا عندي أي شيء ثاني...ولكن مافيش أحد قدر يفهمني...ولا يفهم مرضي..ولا يجيب لي حاجة تريحني...أني الآن يائسة من كل حاجة..وتعقدت من كل الدكاترة...لأنهم ما يفهموش...ماقدروش يعرفوا مرضي..وكل واحد يكتب علاجات..وكلها بلا فائدة..
أدركت أنه لم يعد هناك جدوى من محاولة الحصول منها على قصة مرضية معقولة، أو الخروج بأية معلومة جديدة توجهني نحو التشخيص، فطلبت منها الانتقال إلى سرير المعاينة، وسارت إليه بخطوات متعجلة، وطلبت منها أن ترفع ملابسها حتى أتمكن من الكشف على بطنها، وفعلت ذلك بسرعة.
وشاهدت على بطنها ندبة عملية استئصال الزائدة الدودية، وندبة جراحية أخرى عظيمة تشمل ثلثي البطن على الجهة اليمنى بجوار الخط المنصف للبطن.
وأدهشني ذلك فقلت لها مستغرباً:
ها..أنا شايف أنك قد قمت بعمليتين جراحيتين، ولكنك لم تذكري لي عنهما شيئاً!
هذي ما لهاش علاقة بشيء...عملية الزائدة أجريت لي وأنا صغيرة..والثانية الكبيرة بعد ما اصبت برصاصة في البطن، أصابت الكبد والمرارة والأمعاء قبل عشر سنوات...ما لهاش علاقة بمرضي..لأني قد جلست سنين بعدها ولا عندي حاجة..المشكلة هي الألم وبس...يادكتور...زي ماقلت لك..
سألت بقليل من الفضول، ورغبة في تحويل الحديث إلى وجهة أخرى خارج نطاف مرضها، لعلي أنجح في إضفاء جو اجتماعي للحديث، يكون أساساً لنزع فتيل التوتر وشحنة الانفعال المشعة من كل جوانبها:
وكيف حدثت لك الإصابة بتلك الرصاصة؟
هذا شيء ثاني..مالوش علاقة..المهم هو أن تداوي الألم اللي عندي.
آه..فهمت..أنت ما تشتيش تتكلمي عن أي حاجة ثانية في حياتك!
لأ...أجابت بنبرة قاطعة وأعادتني إلى جوها المتوتر بعنف.
أكملت الفحص الحكمي العام ولم أجد أي علامات أخرى، وعدنا إلى مجلسينا السابقين، وقلت لها أنه لابد أن الأطباء السابقين قد أجروا لها الفحوصات والكشوفات، وأن المرضى عادة يحضرون معهم هذه الملفات والأوراق لكي أتمكن من مراجعتها قبل اتخاذ أي اجراءات جديدة،فقالت باستنكار شديد:
أيش عملوا لي فحوصات وكشوفات؟!!...عملوا لي فحوصات وكشوفات الدنيا كله!....عملوا لي كل حاجة...وكل ما رحت عند واحد يبدأ لي من جديد وهات يافحوصات وكشوفات وأجهزة وكل حاجة...وكل الفحوصات والكشوفات تطلع صافية ولا في بها حاجة..أقول لهم كيف تطلع صافي..وهذا الألم من فين بايجي لي لوكل حاجة تطلع صافي..وكل واحد يجيب لي كلام ولا تفهم منه حاجة..وبعدين لما تعقدت من الدكاترة...رميت كل حاجة وقطعت كل الأوراق والرشدات ولا خليت منهن حاجة..لأني خلاص تعقدت، وما عاد اشتيش أي حاجة تذكرني بالدكاترة والأدوية حقهم.
سألتها بلهجة محايدة:
وأيش اللي تشتينا نعمله لك اليوم؟
فانفجرت بغضب زائد، وهي تقول باستنكار شديد:
أني؟..أني!!...أني اللي أقول لك يا دكتور أيش نعمل ؟!..لو أني كنت أعرف أيش أعمل ما كنتش باجي لك..أنت الدكتور..ولا أني؟!!
طيب...طيب..حاضر..بس أنا أسألك لأني أشتي أعرف إذا كنا نقدر نعمل فحوصات جديدة وكشوفات أخرى، ونحاول أن نجد سبباً لهذا الألم!
لا..لا..لا..ما باعملش أي فحوصات ولا كشوفات..أني خلاص قلت لك قد عملوا لي كل حاجة..كل الكشوفات وكلها تطلع صافي..يقولوا لي ولا حاجة أقول لهم..طيب لو كان ما فيش شيء وكلها تطلع صافي ولا في بها حاجة..من فين بايجي لي هذا الألم؟..يعني أني أتخيل الوجع ولا أجيبه من نفسي...تقدر أنت تقول لي كيف؟...تقدر؟!!....
يمكن أقدر لو وافقت أننا نعيد اجراء الفحوصات وبعض الكشوفات، ويمكن تظهر حاجة ما ظهرتش من قبل، وعلى الأقل لازم نتأكد أنه ما فيش عندك حاجة خطيرة، ونطمئن على الأعضاء الأساسية مثل الكبد والمعدة والأمعاء والكلى والرحم..ونقدر بعد ذلك نقرر لك الدواء عندما تتوضح الأمور.
لا..لا..لا...أني ولا عاد باسوي أي فحص ولا أي كشف..أني زهقت خلاص ..خلاص أني ضبحانة من كل حاجة..حتى من بيتي وعيالي وزوجي..ولو ما كانت جارتي قد صممت عليّ في الحضور إليك لما جيت..أني خلاص قلت لك معقدة من كل حاجة..ومن كل الدكاترة.
طيب..حاضر..ومفهوم..أنت تشتي مني دواء مهدئ للألم فقط.
لا..وأشتي كما جنب العلاج أعرف أيش سبب ألمي..معقول يكون هذا الألم كله، ست سنين مستمر...وما لوش سبب..معقول..؟! معقول؟!!
طيب..بس قبل ما أقول لك رأيي وأكتب لك الدواء الفعال إن شاء الله أشتي أسألك سؤال وأرجو أنك تجاوبيني عليه...أنت تقولين أنك معقدة من جميع الأطباء، ومن الواضح مدى كرهكم لهم...وربما يكون عندك حق...لكن أنا شفت أنك قد أجريت عملية جراحية كبيرة في الكبد والمرارة والأمعاء عندما أصبت برصاصة في البطن...ومن المؤكد أن الأطباء قد انقذوا حياتك...مش كذه؟ أيش اللي يخليك تتعقدي منهم الآن بهذا الشكل وهم قد انقذوا حياتك مرة، ويمكن يستطيع بعضهم أن يساعدك في الوقت الحاضر، ومن يعلم الغيب ربما تحتاجين إليهم في المستقبل إذا أصابك مكروه لا قدر الله؟
لا...لا...مالك من العملية..قلت لك هذي كانت زمان..قبل ما يجي لي الوجع..مالك منّه! أني معقدة منهم ذلحين بعد ما جالي هذا الألم..وما قدروش يعملوا لي لأي حاجة..أيش دخل العملية بالوجع والألم..أني جلست أدور على كل الدكاترة من عيادة إلى عيادة ثلاث سنين، وكلهم نفس الكلام...كيف ما تشتيني أكرههم!..أني بعت كل ذهبي وما بقي لي شيء، وأهنت نفسي عند كل أهلي ومعاريفي حتى يساعدوني..أدفع للدكاترة...تكاليف وفلوس بلا حساب وياليت في منها فائدة...مالك أنت يادكتور...لازم تفهمني...ولا بتعمل زيهم أنت كمان..أني أقنعتني جارتي أنك ثاني..وأنك تختلف عنهم..
طيب...طيب...حاضر..ولا يهمك...خلاص..أنا باكتب لك أدوية خاصة بالتقلصات المؤلمة والتوترات العصبية التي أعتقد أنها سبب آلامك..وسوف أعاينك مرة أخرى بعد شهر، وإن شاء الله ستكون الأمور خيراً.
لا..لا..يا دكتور..أوبه تكون تشتي تكتب لي أدوية حق الأعصاب أو مهدئات..أني لا يمكن أستعمل مثل هذه الأدوية..قد مرة واحد دكتور كتب لي أدوية حق الأعصاب وكان با يميتني...أني أشتي دواء حق الألم..لكن المهدئات وأدوية الأعصاب حق المجانين....أني لا يمكن استعملها....أني ما عنديش أعصاب يادكتور..أني عندي ألم...ألم شديد يبدأ لي من سفال البطن..
أرادت أن تعيد وصف آلامها من الأول ومن جديد، فقاطعتها بلهجة آمرة، وقلت لها أنني قد فهمت ما تريد، ووصفت لها مضاداً للتقلصات وإنزيمات هضمية، وسلمتها الوصفة، وأنا أقول لها أنها تستطيع العودة إلي في أي وقت إذا غيرت رأيها، وقمت من مجلسي واقفاً لإشعارها بأن المقابلة قد انتهت، وأنها قد استغرقت من الوقت ما يكفي خمسة من المرضى، ورددت كلمة الوداع “مع السلامة..مع السلامة” بشكل متكرر يمنعها من التوقف من جديد لتوجيه سؤال آخر أو كلمة أخرى.
أغلقت الباب وراءها، فارتميت على مقعدي مرهق الذهن مجهداً، وكأنني قد عاينت عشرة مرضى في وقت واحد، وقلت لنفسي:”يا إلهي...لو تصادف يوماً أن دخل علي ثلاثة أو أربعة من مثل هذه المريضة، لكان ذلك كافياً لقتلي شر قتلة، ولو أن هناك مريضاً أو مريضة بهذا الشكل عند كل طبيب يومياً لما بقي أحد يمارس العمل الطبي، ولكان على كل منهم أن يبحث له عن أي عمل آخر”.
كنت أتمنى أن يكون كل هذا الجهد والعبء الذي تحملته بصبر وجلد في معاينة المريضة،قد أثمر شيئاً أو خفف عنها ألماً، أو حتى منحها أملاً ليوم أو لأيام، ولكنني كنت متأكداً من خلال كل ما جرى أنها قد أصيبت بخيبة أمل جديدة، وأنني قد أصبحت واحداً آخر من الأطباء الذين قد تعقدت منهم، وأعلنت كرهها لهم بكل صراحة ووضوح.
كان عزائي الوحيد أنني قد بذلت جهدي، ومددت يدي راغباً في تقديم المساعدة والعون، ولكن يدي الممدودة ظلت معلقة في الهواء، ولم تجد من يشد عليها ويعتبرها طريقاً إلى النجاة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.