-كم رقمك؟ راح يحاول الاتصال لذلك الشاب الذي بدا عليه أنه قادم من إحدى المناطق القبلية..منذ ساعة وهو يحاول في الكابينة. -اجلس على ذلك الكرسي..سأحاول لك إلى أن يأتي الخط. قال ذلك ثم راح يحاول الاتصال..لكن الخط لم يأت. الزبائن يروحون ويجيئون..معظمهم من النساء..الشاب كان يحدق في النساء..التفت اليه فالتقت عيونهما فجأة..ارتسمت على شفتيه ابتسامة خفيفة كمن كشف عن نية الشاب...أخفض الشاب بصره بينما راح هو يحاول الاتصال..مرة أخرى التقت عيونهما..نفس الابتسامة الهادئة كانت على شفتيه..عندها لم يعد الشاب قادرا على الإنكار..اتسعت ابتسامته وتحولت إلى ضحكة عريضة كادت معها أن تختفي عيناه. الشارع بالخارج مزدحم بالمارة والعربيات..شارع ضيق بالكاد يتسع عرضه لثلاث عربيات..بعض الحفر بدت فيه وقد تجمعت فيها الأتربة والحجارة الصغيرة من بقية الأمطار ..المارة عددهم يزداد..النساء يلبسن البالطوهات السوداء ومن خلف البراقع بدت عيونهن جميلةوساحرة..الشباب كانوا هنالك أيضا..ينظرون ويتلمضون. ازدحم المحل فجأة فقد دخلت امرأتان ..اتجهت إحداهما الى الكابينة بينما انتظرت الأخرى بجانب الشاب..حضرت ثالثة ورابعة..المقعد الطويل لم يعد يتسع..قام الشاب من مكانه. -تعال هنا. قال مخاطبا الشاب وراح يضع له كرسيا صغيرا بجانبه. -من أين أنت؟ -من مأرب. -حياك الله ..ماذا تفعل هنا؟ -أدرس..أنا في الصف الثالث الثانوي. -لماذا هنا بالذات؟ -تعز جميلة وهادئة. كمن تذكر شيئا..لاحت على وجهه ابتسامة خفيفة..التفت إلى الشاب وهو يقول مداعبا: -لكنكم تقولون عنا... ابتسم الشاب ورفع رأسه وهو يقول: -أنا أقول لك..أنتم متعلمون ومثقفون..لكن ما يعيبكم هو الرجولة. ابتسم بدوره كمن كان منتظرا للرد. -هل تريدهم أن يحملوا السلاح ويقتلوا بعضهم؟ -لا لكنهم لا يقفون مع بعضهم البعض..إنهم يتخاذلون..لو أن كلمتهم واحده؟! لقد سمع مثل هذا الكلام كثيرا..من أصدقائه في الدراسة..أصدقاء كثيرون جمعته بهم الجامعة..من صنعاء والجوف وذمار ومأرب وصعدة وأبين وحضرموت..تناقش معهم..ووجد نفس الكلام. لم يشأ أن يثقل الجلسة بالنقاش..كان الشاب يحدق في إحدى الفتيات..راح يسأله عن البنات. -بنات تعز جميلات. قال الشاب وهو مازال يحدق في الفتاة. -وبنات مأرب؟ -جميلات أيضا..لكن بنات تعز جميلات. منذ ذلك اليوم توطدت العلاقة بينهما..صار يأتيه في الكثير من المرات. -لماذا لا تتركون الثأر؟ سأله ذات مرة. -لا نستطيع ..عيب كبير عندنا أن نفعل ذلك..من ترك ثاره لا يعتبر رجلا. -ألا تتضايقون من هذا الأمر؟ كل يوم وأنتم في قتال وثارات. -والله نتضايق لكن ماذا نفعل.؟ -لماذا لا تتركون هذه الشجاعة الغبية وتعيشون مثلنا هكذا دون ثأر أو قتال؟! اتسعت الابتسامه على وجه الشاب وغارت عيناه..وبدا اثر البرد واضحا على صفحة خده..بينما انسدل شعره الناعم على جبهته. راح هو يحاسب احدى النساء ويرد لها الباقي وكمن تذكر شيئا التفت الى الشاب وقال: -هل شاركت في احدى مرات الخطف؟ -نعم ..كثير من المرات. -وماذا تفعلون بالمختطفين؟ -لا نفعل بهم شيئاً.. نكرمهم غاية الإكرام..إلى أن تنفذ لنا الحكومة مطلبنا. -ألا ترى أن هذا تصرف خاطئ؟ -هذه نظرتكم انتم اصحاب تعز..ان هذه الحكومة لا ينفع معها سوى العين الحمراء. ضحك من داخل نفسه..ربما بدا بعض الأمر حقيقة..لكن الأمور لا تسير هكذا.. ضحك مرة اخرى..ترى هل هو خائف؟..وهل حقا ما يقوله هذا الشاب عنهم؟..بعض الحكمة قد تبدو جبنا..يقولون ان الهدوء مع العجز يبدو ضعفا. -وما هي آخر مرة خطفتم فيها سائحا؟ -قبل شهرين..في العيد السابق..نزلنا صنعاء..كنا بضعة شباب..قلنا نخطف سائحا ونذهب به للشيخ في البلدة..لكنا لم نجد احدا..وعندما يئسنا وجدنا صينياً..نزلنا من السيارة وصوبنا عليه السلاح..رفع يديه وصعد معنا..وعندما وصلنا به الى الشيخ سأل عن جنسيته..وعندما عرف أنه صيني صاح فينا محتجا: -صيني؟ الم تجدوا ياباني على الاقل؟؟ -وماذا فعلتم به؟ -لم نفعل به شيئا..لمدة أسبوعين ظللنا نكرمه ونقدم له الأكل..لكن أحدا لم يسأل عنه..يبدو أنه كان مشردا. -وأرجعتموه إلى صنعاء؟ -نعم ..الشيخ قال لنا ألم أقل لكم إنه تقليد. ضحك عمران وضحك معه الشاب. كان عمران يفكر في جامعته وفي الدراسات العليا التي يريد أن ينتهي منها..ترى لو أنه قال لهذا الشاب بما يفكر فيه هل سيفهمه؟..لا بد أنه سيسخر منه..لقد ضحك منه عندما عرف أنه قد تخرج من الجامعه ولا يريد الزواج بعد.. لا بد أنه شك فيه أيضا..ولو أنه حاول أن يشرح له نظريته في الحياة والتي تقوم على مبدأ الترتيب للأمور لاستلقى الشاب على قفاه من الضحك. في صباح اليوم التالي عندما حضر الشاب لم يكن على طبيعته..وجهه كان مسودا وعيناه مرتعبتان. -بالأمس ابن عمي قتل شخصا من القبيلة المعادية..وبجانبه كانت امرأة وطفل صغير. -لقد قلت لي أن من أعرافكم عدم اطلاق الرصاص في وجود النساء والاطفال..ثم انكم كنتم في هدنة!. -ابن عمي هذا متهور. -وماذا ستفعل؟ -لا بد أن اترك المدينة..سأذهب إلى البلدة. في عصر نفس اليوم كان هنالك شابان مسلحان يقفان أمام باب المحل..سلاح الكلاشنكوف كان معلقا على كتفيهما..كان الامر قد أصبح مألوفا لدى سكان المدينة أن يروا شخصا ما يحمل بندقيته على ظهره..تعودوا على ذلك منذ زمن..ولم تكن الشوارع تشهد مشاكل من هذه الناحية. لم يدر بماذا شعر بالضبط عندما دخل أحدهم ومد رأسه من الفتحة السفلية للزجاج الذي كان يفصله عن الزبائن: -ألم يحضر يحيى حسن؟ لم يعرف الشخص من اسمه ..ما كان يعرفه هو لقبه..لكن حينما وصفه له الرجل هز رأسه وهو يقول: -آه..لا لا لم يحضر. دق قلبه وهو يرى المسلحين واقفين امام الباب..ماذا لو أنهما شكا فيه؟..ماذا سيفعلان؟.. لم يكن خائفا..لكن كيف ستمضي الامور؟..أو ماذا سيحدث لو أن الشاب حضر في هذه اللحظات؟.. راح يدعو الله في سره ألا يحضر الشاب الآن. عيون الرجل ما زالت ماثلة له أمام عينيه..كان يسأله وعيناه محدقتان به..كانتا عينين زرقاوين واسعتين..للحقيقة فقد شعر فيهما بنوع غريب من الألفة..يبدو أن هؤلاء الناس طيبون في الأصل..لولا ظروف حياتهم..راح قلبه يتفطر وهو يتذكر أحوالهم هناك. مضت الأيام والشهور عندما حضر الشاب وهو يبتسم. -أين أنت في كل هذه المدة؟ -حدثت مشاكل وقتالات..كدت أهلك فيها..قتلنا خمسة وقتلوا أربعة..ثم تدخل بيننا بعض الشيوخ وعملنا صلحا لمدة ستة أشهر. صمت الشاب ثم التفت إليه فجأة وهو يقول: -هل حضر إليك شابان في ذلك اليوم؟ -وما أدراك؟ ابتسم الشاب وهو يقول: -لقد أخبراني بعد الصلح..قالا أنهما حضرا ولم يجداني عندك. تخيل المشهد واقشعر بدنه وهو يرى الرجلين مقبلين عليه والشاب بجانبه..ترى ماذا كانا سيفعلان؟ -وماذا فعلت في الدراسة؟ -السنة الماضية ذهبت سدى..سأعوضها بهذه السنة. كانت إحدى الفتيات قد حضرت للاتصال ..بدت جميلة وقد لفت حول رأسها حجاباً وردياً. الشاب راح يحدق في المكان من حوله..ثم راح يحدق في الفتاة .. عندما استدارت وأعطته ظهرها. اتسعت ابتسامته وغارت عيناه وهو يقول: -حياتكم جميلة يا أهل تعز.