شاعر مختلف, لأن القصيدة مختلفة بالضرورة, وذاكرة ترشح بالحكايات المفعمة بالشجن المعتق, ورؤى تتجاوز حد الأفق المرسوم فيما وراء الخريطة المغيبة في تلافيف الروح وبين شغاف القلب, ورواية مستمرة للتاريخ الفلسطيني كما لم يرو من قبل, ووزن شعري أنيق يراوح بين بلاغة الإيجاز وسلاسة الاستطراد, ورؤية متقدمة في جيلها وقصيدة متصالحة مع شاعرها حد التكامل. ذلك هو إبراهيم نصر الله. ولد إبراهيم علي إبراهيم نصر الله العام 1953 في العاصمة الأردنيةعمان, لأسرة فلسطينية من قرية الولجة الواقعة بالقرب من القدس, وقد اضطرت تلك الأسرة ككثير من الأسر للهجرة من فلسطين في أعقاب نكبة العام 1948م, إلى الأردن. وهناك بدأت تلك الأسرة تلملم جراح النكبة والتهجير وتحاول أن تبدأ من جديد من دون أن تفقد هاجس الوطن وفكرته, وهي الفكرة التي عاشها إبراهيم نصر الله منذ أن بدأ يعرف معنى أن يكون كلمة على هامش القصيدة والرواية وكل ما كتب. درس نصر الله مراحل التعليم الأولى في مدارس وكالة الغوث في مخيم الوحدات للاجئين الفلسطينيين في الأردن, وأكمل دراسته في مركز عمان لإعداد المعلمين, وبعد أن تخرج فيه معلماً سافر إلى المملكة العربية السعودية ليعمل في مدارسها لمدة عامين عاد بعدها إلى الأردن صحفياً في عدة صحف ومجلات ثم مستشاراً في مؤسسة عبدالحميد شومان الثقافية ومديراً للنشاطات الأدبية فيها قبل أن يتفرغ للكتابة الشعرية والروائية والتصوير الضوئي والزيتي أخيراً. ولعل في تفرغ إبراهيم نصر الله للعوالم التي يجب أن يعيش في خضمها يشير إلى مدى انغماسه بهذه العوالم التي استطاع أن يمسك بأطرافها بشكل مثير ومتناغم من دون أي تقاطعات حادة فيما بينها, ولعله واحد من قلة من الشعراء الذين جعلوا من قصيدتهم أرضية ثابتة لكل مايمارسونه من حياة كتابية فوقها. فنصر الله الشاعر الفذ, هو نصر الله الروائي الفذ, هو نفسه التشكيلي الفذ, هو نفسه التشكيلي الفذ, هو نفسه المصور الفذ.. هو كل هذا وهو أيضاً ذلك البشري السادر في بحثه المستمر وراء كمائن الحياة عن أسرار التكوين فيها. وعلى الرغم من أن إبراهيم نصر الله بدا في السنوات الأخيرة يكتب وكأنه يحاول صنع حياة فلسطينية جديدة تتوسل أساطير شعرية وروائية من لحم ودم ووجدان منغمس في المأساة الفلسطينية فإن هذه الحياة التي يصنعها الشاعر والروائي ليست حياة افتراضية بقدر ماهي اقتراح مسيج بجماليات لانهائية كي تكون فلسطين مشروع وطن لانهائي. إن إبراهيم نصر الله في كل ماكتب من شعر ونثر يؤكد أهمية أن تكون فلسطين هي قلب القصيدة وقلب الرواية من دون أن تتحول القصيدة إلى منشور سياسي أو أن تتحول الرواية إلى وثيقة تاريخية.. إنه يكتب وكأنه يؤطر الذاكرة بجمالياتها الخاصة, وينبش من قاع الروح شيئاً مما ركد وتعتق من المغنى والمبنى خلال مائة عام من التراجيديا المستمرة. لكن القصيدة ظلت هي مسرح إبراهيم نصر الله الإبداعي المفضل, ففيها وحدها, كما يبدو يتواصل الشاعر مع هواجسه الخفية بطرائق مبتكرة وسريعة وقادرة على تلبية هاجس الجمال الذي ينبغي أن يكون الملاذ الأخير للمعنى البشري فيه, وأن يكون الصورة الأكثر وضوحاً في بلاغتها للخلاص في سمته الكوني. لقد تحرر إبراهيم نصر الله من الصورة النمطية لتاريخ الحكاية الفلسطينية, بل وساهم في تحريرها لتبدو تلك الصورة أكثر عفوية وتعود إلى سمتها البشري, وتعود للحكاية تقاطيعها الإنسانية العذبة ومنمنماتها اليومية. بدأ نصر الله رحلة النشر على صعيد الكتب العام 1980م بمجموعة شعرية أسماها”الخيول على مشارف المدينة”, وظلت خيوله واقفة تحمحم على مشارف المدينة دائماً حتى وهو يتابع رحلة النشر على صعيد القصيدة, فتوالت مجموعاته في الصدور ومنها:”نعمان يسترد لونه”, و”أناشيد الصباح”, و”الفتى والنهر والجنرال”, و”عواصف القلب”, و”حطب أخضر”, و”فضيحة الثعلب”, و”شرفات الخريف”, و”كتاب الموت والموتى”, و”بسم الأم والابن”, و”مرايا الملائكة”, و”حجرة الناي”. و”لو أنني كنت مايسترو”. أما رواياته فقد بدأها: ب«براري الحمى» التي صدرت العام 1985م, وألحقها بعدة روايات أخرى قبل أن يبدأ بكتابة مشروعه الكبير وربما غير المسبوق تحت عنوان”الملهاة الفلسطينية” وهي مكونة من عدة روايات لكل منها استقلالها عن الروايات الأخرى وهي:”طيور الحذر”, و”طفل الممحاة”, و”زيتون الشوارع”, و”أعراس آمنة”, و”تحت شمس الضحى”, و”زمن الخيول البيضاء”. ولعل في أفق الملهاة المزيد من النوايا الروائية.وعلى الرغم من أن الشعر والرواية احتلا المساحة الأكبر من مشروع النشر لدى نصر الله, فإن هذا لم يمنعه من نشر كتب أخرى في السينما والتصوير وغيرهما. من قصائده دمهم دمهم صباح الخير دمهم مساء الخير دمهم تحيتهم.. رسالتهم إلينا دمهم حكايتهم.. وخوفهمو علينا دمهم مساجدهم.. كنائسهم نوافذ دورهم دمهم محبتهم وغضبتهم دمهم عتاب جارح دمهم فضاء فاضح دمهم حكاية أمهم لصغارها دمهم رسالة وردة لرحيقها دمهم طيور بلادهم ورياحها دمهم معاركهم.. وهدنتهم وطرفتهم إذا اندفع الغزاه دمهم ذراع صلاتهم دمهم صلاة لم يتركوا شجراً يعاتبهم ولاقمراً على شرفات منزلهم ولا أغنية عطشى لأنهرهم لم يكسروا أمنية سكنت عيون صغارهم أو خاطر الزيتون فوق تلالهم هم أصدقاء البحر هم أصدقاء النهر هم أعين الزيتون هم زهرة الحنون هم خضرة الأشجار وطفولة الأنهار هم قبلة الشعراء وذخيرة الفقراء هم شارع في الفجر هم ضحكة في الصخر ووضوح هذا السر دمهم صباح الخير دمهم مساء الخير