اتجه بعض المفكرين على أن غاية الفن هي الجمال, وأن وظيفة الفنان لاتقوم على تقليد الطبيعة ومحاكاتها، بل مهمته أن يضيف عليها جمالاً من خياله وتصوراته.. وهنا يفترق الفن عن العلم, فغاية العلم هي اكتشاف الحقيقة وغاية الفن هي التعبير عن الجمال .وقد امتزجت عند اليونان فلسفة الجمال بفلسفة الاخلاق إذ اعتبر- الرواقين - الجميل هو وحده الكامل في عرف الأخلاق . ويقول راسكين إن الذوق ليس جزءاً من الأخلاق وشاهد عليها فحسب بل إنه وحده الكفيل بالتعبير عنها. ويشير اميل زولا: على أن رسالة الفن ليست وعظاً وارشاداً بل هي رسالة حق وجمال. كما رفض تولستوي الفصل بين الفن والحياة. أما كانط فيقول : إن الذوق هو حكم جمالي قوامه الوجدان. غير أن بعض المفكرين اعتبر أو فهم أن الذوق حكم تأملي وأن التجربة التأملية هي حالة عقلية وبالتالي فليس هناك فرق بين الوجدان والعقل من ناحية الإدراك والإحساس والتأمل . ولكن بما أن موضوعنا هو الإبداع و التذوق إذن علينا أن نسأل أهل اللغة عن معنى ومفهوم هذين المصطلحين. الذوق: مصدر ذاق الشيء يذوقه ذوقاً و ذواقاً و مذاقاً. فالذواق والمذاق يكونان مصدرين ويكونان طعماً . كما تقول ذواقة ومذاقه طيب. والمذاق طعم الشيء والذوق يكون فيما يكره ويحمد. ويكون أيضاً بالفم وغير الفم . وكذلك ما نزل بالإنسان من مكروه فقد ذاقه . الإبداع: بدع الشيء يبدعه بدعاً وابتدعه : أنشأه وأبداه وبدع الركية استنبطها وأحدثها . والبدع : المبدع، وابتدعت الشيء: اخترعته لا على مثال. والبديع : الزق الجديد (الوعاء) والسقاء الجديد . وأبدع الشاعر: جاء بالجديد ..بعض الفلاسفة أطلقوا على التذوق بالعقل الإبداعي. والعقل الإبداعي هو جامع بين خصائص العقل الظاهري والعقل الباطني ومتولد عنهما وخارج منهما ولكنه ليس هو هما, بل هو شيء ثالث ينتج عنهما ويحويهما ويولد خصائص جديدة متولدة عنهما . ومن خصائصه: - النزوع المستمر نحو الجمال والتطلع للكمال . - الإحساس بالجمال والشعور الذوقي والإبداعي الجمالي. - توجيه النفس نحو الجمال والكمال . ويذكر البعض بأن العقل الإبداعي إو العقل الثالث قد أعطاه الله للإنسان وميزه عن بقية الكائنات وهو ما يطلق عليه - بالأمانة - وقد وجدنا في الرسائل التي بعثها فان كوخ إلى أخيه - تيو - ( ان الإنسان لم يأت إلى هذه الأرض لكي يكون سعيداً فحسب بل إنه لم يأت إليها إلا ليكون -ببساطة - أميناً ). والقوة الإبداعية مفطورة بالإنسان دون سائر الكائنات الحية وهي تأتي من كيفية الاستفادة من التأثيرات الحضارية والاجتماعية والتفاعل الجاد معها , ثم إخراجها بصورة ممتعة وجميلة تعبر عن المعاني والأفكار الإنسانية . أما التذوق فيقول علماء النفس إنه مرتبط بعوامل مختلفة بعضها نفسي وآخر اجتماعي وبعضها أخلاقي. وأن آلة التذوق أكثر تعقيداً من آلة المعرفة وأن قوة التذوق هي ليس قوة الذكاء .. إذن نحن الآن أمام المشاهد المتذوق, كيف يستطيع قراءة اللوحة او العمل الفني والحكم عليه ؟.. والمتذوق على نوعين : - الأول هو متذوق يقوم حكمه على الفطرة باعتبار أن النفس من طبيعتها الميل للجمال والكمال . - أما الثاني فهو متذوق مثقف و ناقد في أعلى المستويات, وهو يستعيد رؤية الفنان وينظر الى عمله من خلال الرؤية ومن خلال واقع العمل الفني وليس الاشياء ذاتها انما هو واقع حياة وظروف الفنان نفسه . فمثلالايمكن معرفة وفهم أعمال واحد من عظماء الفن كفان كوخ وبيكاسو وسيزان إلا من خلال فهم ما قدمه خلال تاريخه الفني الطويل والمراحل التي حدثت على تفكيره واسلوبه . كما ان التذوق يحتاج الى تربية ثقافية وفنية , فالنظر الى الشيء الجميل لا يعني صورته فقط وانما يجب ان يشمل جميع أبعاده الشكلية والمعرفية والفكرية . وهي للناقد شيء أساسي وجوهري , حيث لايمكن التمتع بالذوق السليم دون تربية ثقافية . والتي تساعد بالتالي الى تقوية المقدرة على التذوق للشكل وفهم مضمونه عن طريق ملكة مشتركة بين الفنان والمشاهد , وهذه الملكة يعبر عنها - بالحدس - الذي هو أشبه شيء بالوجدان عند الاخلاقيين والعقل عند اهل العلم او العلوم .... والحدس بالنسبة للفنان هو عملية تعبير وابداع وتذوق , وبالنسبة للمشاهد تحليل عقلي وذهني وملكة للحكم او استحسان للصورة وتذوقها مباشرة . يقول ابو حيان التوحيدي: ماسبب استحسان الصورة الحسنة؟ هل هذا من آثار الطبيعة ام من عوارض النفس؟ ثم يجيب على ذلك فيقول: إن تذوق الجمال يخضع الى شرطين أساسيين هما : هو اعتدال مزاج المتذوق تناسب أعضاء الشيء بعضها الى بعض في الشكل واللون وسائر الهيئات . اذن يجب ان تتوفر في المتذوق أي المشاهد شروط مثلا ان يكون على مستوى جيد من العقلانية و الفطرة السليمة غير المحرفة والشاذة وان يكون هادىء المزاج منفتح الأسارير وسليم العقل ( ولو قدر ان احدا دخل معرضا بعد خروجه من معركة عائلية او غيرها , وهو الآن يتصفح ويستعرض اللوحات .. في هذه الحالة ماذا سيكون مزاجه؟ .. حتما وبالتاكيد ستكون هذه الاعمال في نظره مظلمة ولو كانت لاحد رواد الانطباعية . ..) وحسب التوحيدي يجب أيضاً توفر شروط أخرى في العمل الفني حتى يكون مقبولاً وهي ان تكون العناصر الفنية الموجودة في اللوحة منسجمة مع بعضها في البناء والشكل واللون والحس . ويذكر التوحيدي . بان جمال الشيء أما ان يكون مرتبطاً بذات الشيء اي الطبيعة او مرتبطاً بنفس المتذوق .. ولنقول بشكل آخر اين يوجد ويكمن العنصر الجمالي هل هو في نفس المشاهد او في العمل الفني ؟. ثم يضيف بأن عملية التذوق هي نوع من الانجذاب والاندماج بين المتذوق والعمل الفني وذلك ان النفس تتحد بالاشكال التي تتكون في الطبيعة نتيجة تأثر النفس فتنزع عنها المادة وتثبتها في ذاتها وتلتحم بها . فمرة تتحد النفس وتنجذب نحو الفكرة أو المعنى للوحة عندئذ ينبهر المشاهد ويحس بجمال العمل .. وهو عادة ما يحدث ذلك مع الاعمال الفنية الحديثة . ومرة أخرى تتحد النفس مع جمال الأشكال نتيجة انسجامها وتناسبها واتحادها .... وهو عادة ما يحدث مع الأعمال الواقعية أو الانطباعية . يذكر الكاتب الانكليزي هربرت ريد أن الجمال هو أن تكون عناصر اللوحة في انسجام وتنظيم مما يعطي صورة ممتعة وبذلك يبلغ العمل الفني الحس الجمالي .. وهذا ما ذهب إليه أبو حيان التوحيدي بعدة قرون كما أسلفنا ذلك . ثم يقول ولكن لابد من مرحلة أخرى تضاف إلى اعتدال المزاج والتناسق بين عناصر أو أعضاء الشكل وهي حالة الشعور أو الإحساس بقيمة الفكرة التي يحملها ذلك العمل الفني حينئذ نقول إن العمل قد نال تعبيراً . ومن الممكن أن نجد بالطبع التعبير يخلو تماماً من التنظيم الشكلي , مثلا عناصر مبعثرة على سطح اللوحة أو مفردات من الكلمات والجمل على شكل صور أو شخبطة متداخلة مزدحمة أشبه شيء بالكولاج، وهي مرحلة يلعب فيها الحس و الشعور الداخلي دوراً كبيراً أو ما يعبر عنها أحياناً - بالعقل الباطني - ويقول البعض ان التعبير هو دليل على ردود الافعال الوجدانية وان الفن يندرج تحت تلك القيم ذات النوع الوجداني . ولكن لنرى ماذا سيحدث عندما ندخل معرضاً فنياً ونقوم بالاستعراض للاعمال . نلاحظ أحياناً اننا نقف أمام لوحة متأملين ومنجذبين لها دون ان نعرف السبب . وأحيانا اخرى نمر عليها مرور الكرام دون اكتراث . ففي المرة الاولى حدث انجذاب بين المتذوق والعمل الفني مما يشير الى مشاعر واحاسيس مشتركة بين المشاهد والفنان صاحب العمل الفني , وانهما في رقي وحس واحد أو متقارب ( القلب يعشق كل جميل ) وفي المرحلة الثانية نجد ان هناك غياباً تاماً لعنصر التذوق واننا لم نجد هناك في اللوحة ما يخاطب مشاعرنا واحاسيسنا الداخلية . أو ان العمل الفني يخلو من الموسيقى البصرية التي تظهر من خلال انسجام وتنظيم عناصره التشكيلية او ان المشاهد لم يكن في المستوى الجيد للتذوق. وبالتالي نصبح أمام مظهرين من مظاهر الإدراك وهما : الإدراك العقلي والإدراك الحسي . وبهذه المناسبة ننقل رواية من من بطون كتبنا العربية تقول ان هناك مطارحات حدثت بين عقليتين كبيرتين , بين الشاعر الكبير أبي نواس وبين صاحب المنطق المعتزلي ابراهيم المعروف بالنظام , وهو حوار بين المنطق الصوري والمنطق الجدلي أو موقف صاحب الشكل وصاحب المضمون أو بمعنى آخر اتباع الإدراك الحسي واتباع الإدراك العقلي . وكان الجدل يدور حول أن الفنان أو الشاعر كالصوفي يبحث دائماً عن المحجوب يبصر مباهج الكمال والجمال . لذلك صاح أبو نواس في وجه النظام : عرفت شيئاً وغابت عنك أشياء . أي عرفت من الشكل واحد - بالإدراك الحسي - ولكنك فقدت معرفة - الجوهر- معرفة اشياء كثيرة دون الإدراك العقلي. وقد حول سيزان الإدراك العقلي الى حسي عندما ابتعد عن التناقضات الحياتية باتجاهه الى الانطباعية أو الى الطبيعة وهو القائل : ( اعتقد انني أصبح أكثر صفاء في مواجهة الطبيعة). اي انه يتلقى المؤثرات الجمالية كالشاعر من الواقع الذي حوله ثم يعمد الى تخزينها في ذاته ثم يقوم بعملية الإبداع والتذوق .. وهنا نقول بان الفنان والمشاهد كليهما إنسان متذوق .