مع سقوط كتل الضباب على قمم الجبال وسفوح الوديان, في ذلك اليوم شديد البرودة من فصل الشتاء, كانت الأرض متعطشة لتلك القطرات الصغيرة من الماء لتنبت حتى القليل من العشب لتسد به رمق الأغنام والمواشي التي تعطف جلدها من شدة الجوع, في السنة التي حلّ فيها القحط على المناطق الجبلية، الأغنام تذهب هنا وهناك, تتفرق باحثة عن عشب أخضر نبت من تلك القطرات. تفرقت الأغنام عن بعضها ,ابتعدت عدة أمتار في قمة الجبل. كانت راعية الغنم فتاة في التاسعة عشرة من عمرها. ليست لها أم، اختفت في مكان أشبه بالكوخ لتتجنب لفحات البرد وقطرات الماء المتساقطة, تراقب حركة الأغنام.. تحرسها.. تدفعها من الدخول الى المراعي المحجوزة.. مرت ساعات من الصباح ولا يزال الضباب مغطيا للجبال وسفوح الوديان, وهي في منعزل لم ترَ إلا بعض أغنامها, بدأت كتل الضباب بالارتفاع عن الجبل الشاهق قبل أن تصل الشمس إلى كبد السماء, خرجت من مكانها, صعدت قمة الجبل حيث الدفء, وأرسلت نظراتها لتشاهد أغنامها التي تفوق الثمانين, قلبت أنظارها يمينا وشمالاً, لم تشاهد إلا بضع عشرة من الأغنام العاجزة التي أصابها الكبر وانهكتها السنة المقحوطة, أصابها الخوف والهلع, تذكرت مصيرها إذا ضلت حتى ولو واحدة من الأغنام المنهكة, كيف ستلتمس العذر أمام (الأب ) المتوحش الذي لا يعرف معنى الأبوة و(خالة) لا تعرف الحنان, وليس في قلبها قسط من الرحمة، فاضت الدموع من عينيها, تذكرت أمها التي وافتها المنية قبل تسع سنين, جفت الدموع من عينيها, نهضت والحزن مسيطر على مشاعرها, فتشت عن الأغنام, أعادتها إلى مكان به عشب أخضر في منحدر بالقرب من قمة الجبل نزل عليه بعض من الماء في الأسبوع الأول من الشتاء, لمحها أحد شباب القرية التي تسكنها وهي تحصر الأغنام, تأمل لحالها وما تعانيه من شقاء, تذكر والدتها التي حزنت القرية لوفاتها, كانت مثالاً للرحمة والأخلاق, بينما هو على حالته, دقت في قلبه نبضات حب وشوق, اندفع في طريق عشوائي بعيداً عن أعين الناس, لم يصل إلا وقد اختارت مكاناً جميلاً لتسترح فيه, شاهدته مقبلاً إليها، وجه إليها ابتسامة, وصلت أواصر محبة وحنان إلى قلبها المتعطش, جلس أمامها, لم تفصله عنها إلا قدم واحدة, أطلقت ابتسامة هادئة عبرت عما تكن له من الحب متمنية أن تكون مثله في سعادة, بوجود أبيه, ربت على كتفها, تبادلا الأحاديث التي فاضت منها أعمق المشاعر ,تناثرت القبلات كالأسهم مجسدة قواعد الحب, نسيت أغنامها وعناءها ,شعرت أنها قد كبرت وحان وقت اٍنتقالها من الجحيم الى السعادة وتكوين الأسرة السعيدة بجوار زوج يشاركها الأعمار والعبور إلى شاطئ الحياة الزوجية.