بيت الموت.. هكذا نسميه في اليمن.. بيت من فقدوا عزيراً لديهم، ويتضح من خلال التسمية.. مدى ما يشعر به الإنسان من حزن وألم، عندما يفقد عزيزاً لديه ولكن في بلد الحكمة قد نحيل هذا البيت إلى بيت تكاليف ومشاق.. ثم إلى بيت حسرات وآلام بعد ذلك، ويحدث ذلك بفضل تقاليد ترسخت لدينا وفي غياب عقولنا، وبدون توجيه من عقلائنا وسكون من علمائنا.. نكلف أهل الميت في عملية المأتم مالا يطيقون، في وقت كانوا أحق بالمواساة؛ وإذ بنا نثقل عليهم ونفرض أنفسنا ضيوفاً عليهم في وقت غير مناسب في وقت تسمع فيه نواح اليتامى والأرامل والثكالى وزفرة الآه، التي تحرق أفئدتهم وتقطع أحشاءهم، يتوافد المعزون زمراً وجماعات القريب والبعيد الأصدقاء والأهل يأتون إليهم من كل حدب وصوب دون مراعاة لمشاعر وأحاسيس الحزانى والأرامل والثكالى وخلال أيام الحداد وأيام الحزن يظل أهل الميت مشغولين بمن سيأتي ولا يستطيعون أن يقصروا في ذلك بما جبلوا عليه من كرم الضيافة حتى في أحلك الظروف نحلت أجسادهم وكلفت وجوههم جراء فقدانهم عضواً من الأسرة وجراء تلك التكاليف الباهظة للوفود المعزية. هنا كان لابد لنا أن نستشعر المسئولية ونفتح هذا الملف الشائك محاولة منا لمعرفة مدى تنامي هذه العادات التي باتت تخيم على كثير من البيوت والأسر اليمنية. لمحة تاريخية حرصت “الجمهورية” أن تلتقي بجميع الشرائح والفئات وتزور عدداً من المناطق لمعرفة أوجه الشبه والاختلاف من منطقة إلى أخرى وكان بداية هذا اللقاء مع سلطان مقبل من مديرية المعافر والذي بدأ حديثه بهذه اللمحة السريعة بعد سقوط الدولة العباسية في يد التتار دخل العرب في نوم عميق ردحاً من الزمن كان ذلك الزمان كفيلاً بانتشار البدع والخرافات والشركيات والعادات التي صارت عند كثير من الناس وكأنها عبادات ومن هذه العادات السيئة تعزية أهل الميت والذهاب إليهم أفواجاً رجالاً وركباناً وكلفوهم ما لا يطيقون حتى صارت التعزيات أشبه بالولائم والدليل على عدم إحراج أهل الميت الحديث المشهور عندما عزى الصحابة آل جعفر قال لهم "ص" : “ اصنعوا لآل جعفر طعاماً” وأضاف قائلاً “ بمرارة”: مثلاً هناك بعض الناس يقولون إذا كان أهل الميت ميسورين وأرادوا أن يتصدقوا ويطعموا الطعام فأنا أقول لا ينبغي لأنهم بذلك يعملون على إحراج غيرهم من المعسرين. وكان يستحسن لمن كان موسراً أن يتصدق بالمال أو يقوم بتوزيع اللحوم إلى بيوت المساكين إن أراد لا أن يكرس البدعة ويخالف السنة فيولم ويبذر ويقول: مما يزيد الظاهرة أو العادة سوءاً أن 60% ممن يذهبون للعزاء يجتمعون للمقيل “مضغ القات” والانخراط في السياسية والهرج والمرج فلا تجد عبرة للموت وبذلك يزعجون أهل المصاب ويثقلون عليهم بكثرة العمل وإعداد الطعام وملحقاته من قهوة وماء ووسائد وبعد أن أخذ قليلاً من الهواء تحدث بحزن بالغ رافضاً لهذه العادة: إنه يندر أن يذهب المعزون أول النهار لأنه ليس فيه قات وطعام ومقيل ويقترح أنه إذا أراد من يحضر تعزية ينبغي عليه أن يأتي معه بما شاء من طعام لأهل الميت ويمتنع عن الطعام وتخزين القات ويكتفي بتذكير أهل الميت بالصبر والدعاء لهم. إذا امتلأت بطونهم.. دعوا خيراً وعلى النقيض تماماً يرى الأخ عبدالجليل سالم سائق بأن مثل هذه العادة لا بأس بها وقال: كل هذا لا أعتبره من العادات السيئة، بل العكس فمثلاً في مجتمعنا اليمني نسبة الفقر كبيرة جداً ومتفاوتة فينبغي على الغني مساعدة الفقير.. وفي بعض الناس عندما تذهب إلى التعزية يأكلون ويشربون مما صنع أهل الميت فتمتلئ بطونهم بما لذ وطاب من الطعام الذي ربما لم يذوقوه من سنوات كاللحم مثلاً فيدعون خيراً للميت بعد أن يشبع بطنه “الله يرحمك يا فلان”. إبراهيم الأصبحي الأصابح هو الآخر يرى أنه ليس في ذلك شيء بل يعتبرها مواساة لأهل الميت وأنها ليست عادة سيئة حيث إنه بهذه الطريقة يجتمع الناس أثناء الطعام والمقيل وبالتالي يكثرون من التهليل والذكر وإهداء كل ذلك إلى روح الميت. ربما النساء أفضل من الرجال الأستاذتان أروى وسهام شرف قالتا: نحن مجتمع تحكمنا عادات وتقاليد موروثة ربما أن أي تغيير يحتاج إلى وقت كبير ونحن النساء ربما نكون أفضل من الرجال لا نكلف أهل الميت الكثير فالجيران يقومون بإعداد الطعام لأهل الميت والمعزين من الرجال وإن كانت هناك عادات سيئة تمارسها النساء الكبيرات في السن كالثرثرة ومضغ القات دون مراعاة لأحزان أهل المصاب. عادل أحمد ذبحان عاداتنا وتقاليدنا أثناء المأتم تكاد تكون هي في كثير من مناطق وأرياف اليمن تكليف أهل الميت أكثر مما لا يطيقون فتثخن جراحهم ويزيد من ألمهم وهذا باطل وغير صحيح.. كما تقام الموالد فيرتفع الصياح وبالتالي ينزعج أهل الميت. نقص في الرجولة وفي إحدى المدارس القريبة لمدينة تعز وبالأخص مدرسة 13 يونيو بالنشمة التقينا بإحدى الطالبات.. أحلام محمد فتحدثت إلينا عما يجري في مجتمعها أثناء المأتم قائلة: العادات تكاد تكون متقاربة في معظم الأرياف.. وتكليف أهل الميت أمر غير مقبول عقلاً وشرعاً، ولكنها عادة مفروضة علينا فإذا لم يجار أحد منا هذه العادة فسيقع اللوم عليه وتوبيخه كأنه ناقص الرجولة فالمجتمع ينظر إلى مثل هذه العادة كالواجب وللأسف الشديد نحن المتعلمين نمارس هذه العادة. نادية علي طالبة وهي الأخرى التي شاركت زميلتها في الرأي وأضافت: إنه عندما يتوفى إنسان ويترك لأولاده تركة فإن الأولاد يقومون بجميع تلك الخسائر أثناء الموت وحصرها وبعد أن تقسم التركة يتقاسم الأولاد ذكورا وإناثا فيما بينهم تلك الخسارة ويخرج كل واحد نصيبه. جئنا مخسرين لامعزين أ.ع “بنت المعافر” تقول: من التقاليد التي تحدث في بلادنا ومايزال مجتمعنا متمسكا بها هي ذبح المواشي وإعداد الطعام وشراء القات للمعزين في بيت الميت تستمر لثلاثة أيام وأحياناً سبعة أيام وأحياناً أخرى عشرة أيام وبهذا يظن الجميع أنهم جاءوا معزين والحقيقة ما جاءوا مخسرين. مليَّم ومشبك ونحن في السيارة وعلى قرب الوصول إلى مدينة تعز التقينا فؤاد البحري عتمة ذمار بعد نقاش ومقارنة بين عادات وتقاليد محافظتي تعزوذمار فقال: نحن لانكلف أهل الميت سوى الشيء اليسير فعند وفاة أحدنا نقوم أولاً بالدفن وبعدها كل واحد يذهب إلى بيته وأهل الميت يقومون بتوزيع المليم والمشبك للأطفال وصنع وجبة الصبوح للأطفال يكون بينها سمن وعسل وتستمر وجبة الصبوح لمدة ثلاثة أيام وهذه العادة لم تكن موجودة أصلاً، بل هي مستحدثة وأنا أذكر قبل 12 سنة أنه لم يكن أي وجود لمثل هذه العادة، وبالنسبة للميسورين ربما يذبح ويصنع الطعام ولكنهم قلة. عبدالرزاق الضباب يقول: عندنا يستمر العزاء من أول يوم الوفاة إلى ثالث يوم ونسميها “الثوالث” وأحياناً تستمر لسبعة أيام وأحياناً أخرى عشرة أيام ويتم ذبح الأبقار والمواشي وصنع الطعام وهذه عادة سيئة وإجهاد لأهل الميت وقد قال لي أبي إن هذه العادة مستحدثة ففي عهدهم يعني أباه كانت لاتشتعل النار في بيت أهل الميت حتى” الصُعد” المكان الذي يوضع فيه النار ويصنع فيه الطعام. نحن على العكس عبدالغني سيف من مديرية المسراخ عزلة الأقروض ويبدو أنه من بلاد القات الفاخر فتحدث لنا قائلاً وابتسامته لاتكاد تفارقه: نحن قد نكون على عكس ما تحدث به البعض فلا نكلف أحداً شيئا وكل واحد منا يتغدى في منزله ويأخذ معه كلوات قات ويسلمه إلى منزل أهل الميت والبعض منا يذبح، ولكنه يقوم بتوزيعه على بيوت الفقراء. بدع عبدالكريم سلطان شيخ محسن يبدو عليه من الوقار مايبدو .. تحمس للموضوع بادئاً حديثه بقول الرسول صلى الله عليه وسلم :”اصنعوا لآل جعفر طعاماً فإنه جاء ما يشغلهم” أو كما قال صلى الله عليه وسلم وأردف قائلاً: إننا نتناقض كثيراً مع هذا الحديث فبتنا نكلف أسرة الميت تكاليف باهظة ومرهقة وهذا ليس من صميم الشريعة المحمدية، ولكنها عادات سلبية فالواقع شاهد على ذلك فكم من أسر فقيرة أجبرتها تلك العادات الموروثة مجاراتها دون قيد أو شرط .. وهذه الكلفة دليل على عدم مراعاتنا لمشاعر وأحزان أهل المصاب ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “من عز مصاباً فله أجر مثل أجره ولاينقص من أجره شيء” أو كما قال صلى الله عليه وسلم، هذا الذي ورد عنه صلى الله عليه وسلم وما غير ذلك إلا بدع وتقاليد سيئة ينبغي اجتنابها واجتثاثها من مجتمعاتنا الأستاذ عبدالجليل حسان يرى هو الآخر أن ذلك ما هو إلا إرهاق لأهل الميت وأن السنة لاتقبل ذلك مطلقاً. موت أشبه بالوليمة عبدالله البراق يقول: ينبغي علينا جميعاً ألانقوم بتكليف أسرة الميت أعباء مادية حتى لاتكون المصيبة مصيبتين ويجب على الجيران أن يصنعوا الطعام لأهل الميت هذا في الأسر الفقيرة أما إذا كانت الأسرة ثرية وتكاليف الذبح والقدح لن يؤثر على مستواها المعيشي فلا مانع بشرط أن يكون كل ذلك والقدح للفقراء والمساكين ابتغاء وجه الله. إهدار لحق الأيتام فهد عبدالقادر حبيب أصابح تحدث قائلاً: منطقتي عاداتها كعادات أي بلد غداء وقات وسمر فني في بيت الميت وتكاليف مرهقة وهذا يعتبر إهدارا لحق الأيتام وإغراقهم في الديون. تحتاج إلى خدمات عارف منصر صحفي، يقول: إن مثل هذه العادة باعتقاده عادة مكروهة وذلك لأن أهالي أسرة الميت تتعرض لخسائر مادية وجهود معنوية.. ومثل تلك الخسائر كفيلة بإفادة أولاد المتوفى والناس هذه الأيام تذهب للغداء والمقيل فقط وهذا يتطلب توفير خدمات واحتياجات والعزاء بقراءة القرآن والذكر لاغير. قهوة .. وتمر أم وئام مدينة تعز، تقول: ذهبت أكثر من مرة للتعزية وعندما نذهب للتعزية نجلس لمدة تزيد أو تنقص عن نصف ساعة نتناول فيها القهوة مع التمر وأحياناً قد يمتد الوقت إلى قبيل صلاة المغرب وتبدأ التعزية من أول يوم الوفاة إلى “التاسعة” أي تاسع يوم وأحياناً عشرة أيام ثم تأتي الداعية أو القارئة للقرآن فتستمر بالقراءة إلى صلاة المغرب وفي المدينة يوجد البعض وهم قلة ممن يصنعون الطعام وقت الظهر أو ليلاً ومن وجهة نظري بشكل عام فإنني أعتبرها عادة جيدة لأنها ليست مكلفة كثيراً. من المجازاة .. إلى الاستدانة أ/ عبدالرقيب نعمان العبلي، انتقد تلك العادة بشدة وبعد نقاش طويل تبين لنا أنه يجيد فن الحوار والمناقشة والإقناع وقال: إذا كنا نحن الطبقة الأرقى، الطبقة المثقفة نجاري هذه العادة فمن أين سيأتي التغيير؟! وكيف سنغير عادات ونستبدلها بأخرى حميدة!؟ ففي أثناء مواراة الجثة سرعان ما يفكر أهل الميت بالذبائح وباقي التكلفة من تجهيز الموائد وشراء القات وغيره لهؤلاء العائدين بعد عملية الدفن وهذا بالطبع يكلف أموالاً طائلة، لاسيما حينما يبالغ في ذلك فبعض الناس يتخيل أنه لكي يظهر مكانة من فقد فإنه يبالغ في عملية الإنفاق فلا يكتفي بذبح الغنم بل قد يذبح العديد من البقر في عملية إسراف كبرى وكذا شراء القات(هذا في الأسر الغنية) أما الأسرة الفقيرة فيضطرها مجاراة هذه العادة إلى الاستدانة أما مايحدث أثناء المقيل فحدث ولاحرج؛ حيث لاتراعى مشاعر أهل الميت فترى الجالسين يتبادلون النكات ويتناقشون وينتقدون الأوضاع، بل ويصل الأمر في بعض جلساتهم إلى الجدال في شأن الأحزاب فتعلو أصواتهم، فيتمنى الجالس لو أنه لم يحضر مثل هذه المجالس وهذا سببه القات وأكثر من هذا يتم فحينما تكثر الطلبات المتكررة من هؤلاء الجالسين من ماء وشاي .. وقهوة لعدد كبير يحتاج إلى من يخدمهم فيشغل أهل الميت ويصيبهم بالعناء، وهكذا صار بيت الموت بيت تكاليف وهموم وبيت بذخ وإسراف أحياناً، وبيت فقر وديون أحياناً أخرى.