يوم الأول من إبريل عام 1977 توفي والدي يوسف صالح الدعيج عن عمر يناهز 63 عاما. كانت ميتة مفاجئة من دون أي مقدمات، فقد صلى الفجر في المسجد وقرأ الجريدة.. سمعت صوت والدتي تكلم أخي وتطلب منه أن يأخذه للطبيب، وذهب ولكنه لم يرجع، إذ توفاه الله وهو بالطريق، وصعدت روحه إلى بارئها بسرعة، نتيجة ذبحة صدرية من دون ألم، وكان أخي يسمعه ينطق الشهادتين وهو يقود السيارة. لقد كان يوم جمعة، معظم الأهل، خصوصاً الشباب، كانوا يظنون أن خبر وفاته كذبة إبريل، يقولون لأخي: كيف؟ ومتى؟ لقد كان معنا بالأمس في عرس ابن عمنا يضحك كعادته! هل يعقل أن يمزح أحد في خبر وفاة أبيه؟! آخر مرة رأيته فيها في الليلة التي قبل وفاته. كان واقفا عند باب بيت عمي يستقبلنا أنا واخوتي بحرارة وفتح لنا باب السيارة ضاحكا يوبخنا على التأخير على الحفلة وكأنه يودعنا. من كان يدري أنه سيرحل بهذه السرعة وبهذه الصورة المفاجئة. ظللت أحلم به لسنوات عدة، بأنه بعث للحياة من جديد، أراه يخرج من البحر حيا يرزق، وأذهب إليه أقبله وأحتضنه، ويقول لي إنه عاد إلينا من جديد، وعندما أستيقظ من الحلم أشعر بخيبة الأمل. إن عقلي الباطن يرفض أن يصدق أنه رحل بلا عودة. من شدة الصدمة لم أبك في البداية عند سماعي الخبر أول مرة. ولكن عندما بدأ العزاء وتم الدفن لم أستطع البكاء فقد كنت في حالة إنكار ولكن بعدها ظللت أبكي وأبكي لسنوات. من سيطرق باب غرفتي في الصباح الباكر ويعطيني المصروف الآن؟ من سيصنع لنا البيض الشهي المحلى بالسكر في رمضان للسحور؟ لقد كان أبا وزوجا حنونا لا يحب أن يكلف أحدا، ويساعد أمي حتى لا تتعب. تيتمت وأنا صغيرة في السادسة عشرة من عمري، فقدت حنانه فلم يصرخ في وجهي قط ولم يضربني ولم يوبخني قط. وكان عزائي الوحيد هو أن كل من يعرفه من العائلة أو حتى من خارجها كان يذكره بالخير إلى الآن، ويترحم عليه لشهرته في حب الوصل، ودماثة خلقه، ومساعدة الناس ماديا. لقد حضر جنازته آلاف المصلين من جميع الطبقات، وبكى عليه الفقراء الذين كان يتصدق عليهم، وهو في طريقه إلى دكانه في سوق الدعيج، ويكفيني فخرا أنني بنت يوسف الصالح كما كانوا يسمونه آنذاك. تزوجت في الثانية والعشرين من عمري بابن خالتي وسكنت مع أهله لمدة عامين. كنت صديقة مقربة لعمي علي راشد الدعيج، والد زوجي، حتى قبل أن أتزوج، كونه زوج خالتي. كنت أستأنس بحديثه وقصصه المشوقة وكانت لنا ذكريات جميلة معه أثناء التخييم بالبر بالربيع أو الشاليه في فترة الصيف، حيث كان يحب أن يطرح علينا الغطاوي ويطلب منا الإجابة. لم أشعر أنه والد زوجي بل كان الصديق الذي ألجأ إليه عندما تواجهني مشكلة وأشكو إليه همي وأستشيره في أمور الزواج الجديدة علي. كان يناقشني في كل صغيرة وكبيرة وإذا صدر مني خطأ غير مقصود يوجهني ويلومني حبا في وحرصا على مصلحتي. لمست فيه الرجل المحب لبيته وزوجته وأولاده. يفرح لفرحهم ويحزن لحزنهم، لديه عاطفة نادرا تجدها عند الرجال. تزوج أولاده وأنجبوا الأحفاد، ومعظمهم ما شاء الله من الذكور. عرفناه الجد الحنون الذي يطلب من أولاده وأحفاده ألا ينقطعوا عن زيارته. يحب التجمع على الغداء ويحرص على تقديم أفضل أنواع الطعام ويفرح كثيرا عندما نزوره. على الرغم من حبه لملازمة البيت وعدم رغبته في الخروج للزيارات إلا نادرا إلا أنه يلبي الدعوة وأحيانا يشد على نفسه ويأتي لتناول الغداء عندنا في البيت. وفعلا يأتي ويذهب بسرعة بعد أن يشكرنا ويمتدح غداءنا فهو حلو اللسان يحب المجاملة وفي الوقت نفسه صريح لا يحب النفاق. يوم الجمعة، قبل يومين من وفاته، دعانا على وجبة الغداء (سبيطي مشوي طلبه بنفسه وأمر باعداده فهو يحب السمك كثيرا). عندما نزل إلينا بعد قيلولته لأنه يتناول غداءه باكرا كغيره من كبار السن شكرته على السمك اللذيذ وكانت هذه آخر مرة أراه فيها. في يوم الأحد الثالث من إبريل فجعنا بخبر وفاته في الصباح الباكر بسبب سكتة قلبية. سبحان الله ميتته كميتة والدي فجأة وبسرعة والظروف نفسها في الشهر نفسه ولكن عمي أكبر بكثير من والدي فقد توفي عن إثنين وثمانين عاما قضاها في البر والتقوى وكان يردد القرآن على لسانه طوال الوقت وعندما يقترب موعد الصلاة بربع ساعة يقول دائما حان وقت الفترة الدينية ولا يكلم أحدا بل يردد الأدعية ويسبح ويهلل. كان يحب الوسطية والاعتدال في الدين ويكره التزمت والتحرر في الوقت نفسه يحب الشعر كثيرا. لسانه فصيح وثقافته عالية وملم بجميع أنواع المعرفة. يحب القراءة وسريع الحفظ ويستشهد دائما بالآيات القرآنية أو أبيات من الشعر، كما ذكر أخي عبداللطيف الدعيج عنه في مقالة منذ عدة أسابيع وأسماه بعلي الراشد، لأن عائلتنا فيها أسماء متكررة، ولتمييز الأشخاص يذكرون باسم آبائهم مضافا الى الاسم «ال» التعريف. كان عمي يحب والدي الذي يكبره بخمس عشرة سنة كثيرا ويقول لي إنه كان يحمله ويعطيه قطعا نقدية عندما كان صغيرا. اللهم ارحم والدي وعمي وأسكنهما فسيح جناتك واخلف عليهما بجنات النعيم وارزقنا ذرية صالحة تكون خير خلف لخير سلف. اللهم أعنا على حسن طاعتك وعبادتك واغفر لنا وأرحمنا وأصلح لنا أمورنا في ديننا ودنيانا وألحقنا بالصالحين. مريم يوسف الدعيج