بين خلط المفاهيم ودمج أوراق يحلو لبعض العابثين التستر وراء المصطلحات لقصف البنايات المحكمة وإزالة نقوش رونقها، وجمالية كمالها، لما أعوزتهم الحيلة لإدراك عليائها وبلوغ منتهاها، فعمدوا إلى رشقها، بأوصاف تباهي زينتها، دون موسيقاها، وإيقاعها، ونظم عباراتها. وأوصى القرآن الكريم بضبط المصطلحات وتحديد المفاهيم حتى لا ينجر المرء إلى مخطط لا يدرك له أبعاداً، ولا يعلم له حدوداً، فقال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا ْوَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة:104] وما عبارات {واسمعوا} إلا تأكيد على أهمية الأمر، وإلحاح على العناية به، حتى لا نأخذ على حين غرة. وبالرغم من كون {راعنا } و{انظرنا} تحملان نفس الدلالة اللغوية فإن من معاني المراعاة تخفيف الأحكام، بينما يكون معنى «انظرنا» الإمهال. ومن الغريب أن يعمد فقهاؤنا إلى قاعدة «لا مشاحة في المصطلح» فإن مشرف أبو هواش له رأي مخالف إذ يقول: «من غير الجائز إذن أن نعمم هذه المقولة الشرعية الخاصة، لأن المقصود بها هو المصطلح أو الاصطلاح الشرعي، ويكون تمامها هكذا: (لا مشاحة في الاصطلاح الشرعي)، فحين يكون المصطلح الشرعي غير معارض للنصوص (الشرعية)، يمكن أن نقول (لا مشاحة في ذلك الاصطلاح). ولا يجوز بالتالي أن نعمم هذه المقولة على عموم المصطلحات الأخرى، لأن هناك مصطلحات غير شرعية شائعة كثيرة، مصطلحات غربية أو علمانية أو لا دينية مناقضة للشرع الإسلامي، ولا يمكن أن تنطبق عليها هذه المقولة، بل يمكن أن يكون كل منها مثالاً وشاهداً حياً على عكس ذلك، أي على (إمكانية المشاحة في الألفاظ والمصطلحات). ولا يصح أن نجعل من مقولة شرعية مثل (لا مشاحة في الاصطلاح) مبرراً لاستعمال الكثير من المصطلحات الغربية غير المشروعة والتي تتعارض صراحة مع الشريعة الإسلامية.» ومن جملة ما أراد بعض الأدباء دمجه وتخليط دلالاته مصطلح الشعر والشاعرية: بين الشعر والشاعرية الشاعرية تلألؤ أمواج الجواهر وتلاطم شكلها ومبناها بين ضفتي الفن والجمال. والشعر ليس هو النظم المقفى ذا معنى في ربى الفن والجمال فقط. تقول الشاعرة نبيلة الخطيب جواباً عن سؤال: «ما رأيك فيما يكتب اليوم من كتابات نثرية تنسب إلى الشعر رغم افتقادها إلى أبسط قواعد الشعر وضوابطه؟» فكان جوابها: «الشعر هو الشعر والنثر يبقى نثراً حتى لو كتبناه بشكل طولي أو عرضي. أقول إن الكتابات النثرية إذا أتقنت كتاباتها تصبح أدباً جميلاً أو نصوصاً قد تكون بديعة ولكن لبست شعراً». ومهما صدقت فحالفها التوفيق أو خالفها، فليست لأقوالها مصداقية القرآن، لكن القرآن يشد على أقوالها؛ إذ القرآن الكريم قول جميل أفحمت بلاغته البلغاء وزادته شاعريته بهاء ونوراً يضيء أرجاءه، ومع ذلك كله يشهد له ربه بقوله {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ} [الحاقة:41]. وحتى نستبين من الأمر تأتي هذه المقاربة لرفع الستر عن كل متستر وراء المصطلحات كي نرد كل أمر إلى بابه ومفهومه. فما عسى أن تكون شاعرية الشاعر؟ أيكتب الشاعر نظماً، أم شعراً؟ أو يكتب الناثر كتابة شاعرية تأخذ بتلابيب العقول وبأحاسيس النفس وتدغدغ القلوب لتهتز من أعماق باطنها فتقبل إقبال المحب وتدبر إدبار العشاق. وقبل أن نتناول أقوال الأدباء بالنقد والتوضيح لماهية الشاعرية كي نستبين من أمرنا نمر مر الكرام على أبيات ازدهت بلاغة ونشرت جمالها وانتشت نشوتها من جراء ما بها من ثقل الإحساس الشعري. وأبيات لنلمح الجواهر تتلألأ من بعد بعيد، في تلاحم للمعنى والمبنى بين ضفتي الفن والجمال. يقول د. حسن الأمراني: في مطلع قصيدة بعنوان «حيراء»: لقد لثمت شفاههم الثربا ويلثم قلبي النور المذابا رحلت إلى الضياء وقد أقاموا ومن رضي الهدى اجتاز السحابا وما سيان قلب مطمئن وقلب راح يضطرب اضطرابا ولي بالمصطفى نسب عريق ولا آلو بحبه انتسابا إذا ما جئت روضته بقلب مشوق يسكب الدمع انسكابا