في الكتابة السيميائية / الإشارية نلاحظ ثمة نسقاً من المفاهيم مثل : معنى / هوية /موضوعية / حقيقة / حدس / إدراك / تعبير ، وأن القاسم المشترك بين هذه المفاهيم هو الوجود كحضور أو تقارب مطلق للهوية مع الذات . وهذا يؤكد أن وظيفة الكتابة الأبجدية . تكون ثانوية وآلية في الوقت نفسه ، فوظيفتها هي ترجمة الحديث الذي كان في ما مضى ( أصلاً ) ، وبالتالي فإن (الكتابة ) هي دال للدال ، فهي تبتعد شيئاً فشيئاً عن ذلك (الأصل) ، وتقع تحت الإمحاء والإرجاء ، وتعيد صياغة ( الدال ) من جديد . ودريدا نفسه قد مثل عملية الكتابة الأبجدية هذه بلفظة (فارماكون Pharmakon ) الذي أكد عليها في كتابه ( صيدلية أفلاطون ) ، ف(الفارماكون Pharmakon ) لفظة لاتينية غامضة ترجمت على أنها (عقار ) ، ذلك العقار الذي يعني (الدواء والسم ) في آن واحد . وما دامت الكتابة قد شبهت بهذا ال(Pharmakon )، فيتعين علينا الحذر من هذا الدواء ، الذي ينقلب إلى نقيضه ، وهو مهدىء كان من الأفضل الاستغناء عنه . لقد فكر دريدا جيداً ، وهذا هو الشيء الرائع ، أن تحقيق الحضور وبشكل مطلق ، عملية مستحيلة ، إلاّ أنه يمكن ذلك اسطورياً في الإله . وإذا ما كان هذا يتحقق اسطورياً ، يمكننا أن نحلم به فقط ، وبما أن الحلم يٌشبع الرغبة رمزياً . أي إن الحلم يقوم بالتعويض عن اللاإشباع الحقيقي للرغبة . أي كرغبة من المستحيل إشباعها ، لذا فقد أقترن الحلم بقوة الخدعة . وعن إجابة لدريدا على سؤال ل(جوليا كرستيفا) حول نزعة العقل المركزية في داخل الصوت : (يبدو الدال وكأنه قد أمحى أو أصبح شفافاً كي يترك المفهوم يقدم نفسه . إن خارجية الدال تبدو متقلصة ، وبطبيعة الحال فإن هذه التجربة تعدّ خدعة .. خدعة قد انتظمت من أجل ضرورتها ، بنية بأكملها أو عصراً بأكمله )( مواقف / جاك دريدا . منشورات مينوي .ص/ 33) . ولكي يتم تبديد هذا الحلم وتفكيكه ، سنكون الآن برفقة (روسو) ففي جزيرة سان بيير أعتقد روسو بأنه يقوم بتجربة حضور خالص ، حيث سيكون هناك في الوقت نفسه ، حياة ، استمتاع بالزمن ، حضور أمام الذات ، حركة بدون فاصل ، بدون انقطاع، بدون اختلاف، حيث يدوم الحاضر باستمرار بدون أن يسجل مدّته ، وبدون أي أثر للتعاقب.. (الكراماتولوجي . جاك دريدا . منشورات مينوي / ص/ 354 ، نقلاً عن كتاب ,, مدخل إلى فلسفة جاك دريدا ، السالف الذكر ، ص / 23 ) .إن الوصول إلى هذه الرتبة . هو وصول إلى ما هو إلهي ، بكون الحالة في هذه الرتبة - مستمرة ، وإن الذات ستكفي ذاتها مثل الإله . وقد توصل ( روسو ) من خلال هذه الحالة إلى اللغة المثالية ، تلك اللغة التي تكون في حالة الطبيعة ، لغة بدون خطاب ، كلام بدون جمل ، بدون تركيب ، بدون أجزاء ، بدون قواعد نحوية . لغة ذات تدفق خالص . إذا كان الحضور هو عملية اسطورية . فهو لا يتحقق ، هذا يعني أن النظام الميتافيزيقي قد انخدع بهذا الحلم . هو نفسه لا يعترف به كحلم . لحضور امتلاء أو اقتراب من الذات . حقيقة إننا نخشى مثل هذا الحضور ، وإذا ما رجعنا إلى حلم جزيرة سان بيير ، نقرأ مع دريدا هذا النص العائد ل(إعترافات جان جاك روسو ) : (التمتع ! هل صُنع هذا المصير من أجل الإنسان ؟ آه ! لو كنت قد ذقت ولو مرة واحدة في حياتي كل متع الحب في امتلائها ، فانا لا اتصور أن وجودي الضعيف سيكون قادراً على الاكتفاء بها ، إذ سأكون قد مت على الفور ... إن الحضور مرغوب فيه ومثير للخشية ، وفي آن واحد . لأن المتعة نفسها . لن تكون سوى اسماً آخر للموت.) (الكراماتولوجيا . جاك دريدا ، السالف الذكر . ص / 223 ) .ولكن السؤال الذي يمكن طرحه الآن : هل يمكن إشباع رغبة الإنسان والتي هي طبيعية وشاذة في آن واحد ؟ إن عملية استحضار هذا الحلم كحضور ، يبقى على بُعد مسافة ، فإن هذا الحضور يتم إهداءه إلى الذات ، في الوقت الذي يبقى بعيداً على بعد مسافة منها .والعملية هنا هي عملية ( وهم ) إننا قد حلمنا وحسب . أليس هذا الاستحضار لهذا الطيف/ الحلم . يُعدّ طريقة من طرق الإثارة الجنسية الذاتية ، وأن روسو في إعترافاته لن يتخلى عن هذا الحلم ، إن استدعاء هذا الحلم / الطيف / الشبح معناه الانقطاع عن الطبيعة ، بغياب هذا العالم . أن هذه المسألة تجرنا إلى منطق غريب في المفارقة ، على أن الحضور / الحلم / الطيف / الشبح ، هو جزء مضاف . ويمكن القول بمعنى آخر أنه ( تتمة / أو ملحق ) . أي إن لفظتي (تتمة/ ملحق ) معناهما إضافة ما ينقص ، فهما إذن فائض. ولكن كيف يمكننا تفكيك هذا الحضور ..؟ إذن يجب علينا التدقيق في لفظتي ( تتمة / ملحق) ، وذلك بتفحص مدلولاتيهما المتناقضة في آن واحد ، فبوساطة هذه القراءة يمكننا اختراق السياج الميتافيزيقي في حضور هاتين اللفظتين والتعرف على ثنائياتهما . فإذا ما أخذنا كلمة (تتمة) حرفياً ، نجد إن معناها هو ما يضاف إلى الشيء ، بهذه الصفة تُعدّ كلمتا (تتمة / ملحق) فائضاً ، وكل شيء ينضاف فهو إذن فائض ، امتلاء ينضاف إلى امتلاء آخر أي إمتلاء لحضور ، وهكذا فإن هاتين اللفظتين ( تتمة / ملحق ) تقومان بالتعويض عن النقص الحاصل في الشيء، فهذه (التتمة / أو الملحق) تتدخل وربما تندمج وتكمل الشيء الناقص ، بهذه الصفة يمكننا القول، إن العملية تتجلى في امتلاء فراغ ما . الكتابة المألوفة من هذا المنطلق تُعدّ ( الكتابة ) المألوفة ، الكتابة الأبجدية . هي إضافة ، تتمة أو ملحق أو هامش ، فهي تسمح لنا بإعادة امتلاك ولو بشكل رمزي . فأذا كان حلم روسو يعدّ اللاإشباع الحقيقي للرغبة الجامحة للذات الإنسانية ، فإن هذا الحلم يمكن مقارنته بالإثارة الجنسية للذات ، هل يمكن أن نعدّ (الكتابة ) نوعاً من أنواع الشذوذ ، والتي ترتكز في تفضيلها للإضافة على الشيء الطبيعي ذاته ..؟ إن (الكتابة) هي الشيء المصطنع على الطبيعي ، فهي إذن متعة مزيفة ، نحن نختارها لأننا في كل مرة نؤجل فيها المتعة الحقيقية . ولكن ألا يمكن أن تكون هذه العملية هي تحقيق(الدرجة القصوى للعنف ) ، العنف مع الذات من أجل القرب المطلق ، من أجل الحضور أمام الذات . ولكن هذا لا شيء سوى أنه حلم فقط، إن الوصول إلى هذه الحالة هو من أجل إيقاض الرغبة ، لأن الحلم هو الذي يقوم بتعويض تلك الرغبة ، وكما أكد روسو يكون بدون إنقطاع بين الحروف ، الكلمات ، الجمل أو الكتب . في هذه الحالة لا يمكن لأي ( دلالة ) أن تستيقظ . الاختلاف والزمن إن مفهوم ( الاختلاف ) المتمثل بالمدة الزمنية الفاصلة بين عمليتي الإنصات إلى الذات والكلام، أو بين وحدتين صوتيتين يكون غير مسموعاً. وأن هذا الاختلاف بين تلكما الوحدتين ، هو الذي يسمح لهما أن يوجدا ، وأن يعملا بصفتهما وحدتين صوتيتين ويتجلى لنا هذا ( الاختلاف) واضحاً في حالة الطفل الصغير حينما يبدأ في التكلم ، نجد وحداته الصوتية مدمجة مع بعضها وبدون تمييز أو التأكيد على الاختلاف بين وحدة صوتية وأخرى ، وعند سماعه ، لن نفهم الطفل عن أي شيء يتكلم . وحينما نجد ثمة تقدماً قد حصل للطفل ، فإن هذا التقدم يتمثل في التمييز بين تلك الوحدات ، أي باستطاعته تبليغ ما يريد .والعملية هي التركيز على التلفظ الواضح . وعليه فأن هذا الاختلاف / أو التمفصل بوصفه شرطاً للكلام ولكنه يظل شرطاً محبوس اللسان ، يقع في لعبة صامتة . لذا يمكن القول إذا أردنا الدقة أكثر إن ثمة انكساراً يحدث بين تلك الوحدات الصوتية، يتمثل في الاختلاف الذي يسمح بتمفصلها . لذا فأن هذا الانكسار / التمفصل / الاختلاف . هو الذي يُوسم في الكتابة المألوفة / الأبجدية ، بما يسميه دريدا ب( الفسحة ) . و(الفسحة) هذه . هي علامة الوقف ، تلك العلامة التي تعطي السمة الصوتية داخل الكتابة . وبواسطة هذه (الفسحة) / أو ( الفاصل ) يقوم روسو بتعريف الغناء : (إن الفسحة ليست العرض الطارىء على الغناء ... إنها تلك التي بدونها ، ما كان للغناء أن يحدث بالتدقيق.) (الكراماتولوجي / جاك دريدا . السالف الذكر ، ص / 286 ) .ذلك هو قانون الفسحة الذي يؤكد على (سر الخلق ) ولكن هل يمكننا من اكتشاف هذا السر ..؟ إننا كل ما يمكن عمله أو اكتشافه ، هو اقتفاء (أثر ) ذلك السر المفقود / المعنى المخبأ، الذي كان في ما مضى (أصلاً)، والذي يتلاشى وينطفئ بمجرد حضور مدلوله منطوقاً في الهواء في لحظة زمن معين . إن عملية نسيان ( الدال ) وانطفاء (مدلوله) حال حضوره هو ما يسميه دريدا ( الدرجة القصوى للكتابة ) أو(التمركز حول الكتابة) أو (الكتابة الأصلية ) ، هذا ما يؤكده في كتابه القيم (الكراماتولوجيا . علم الكتابة ) . هو ذلك العلم الذي يحدث قبل الكلام وفي داخل الكلام في آن واحد . فهناك كتابة رياضية ( من الرياضة ) . لا يستخدم فيها (الدال) كنقش في المكان ، ولا تستخدم فيها الوحدات الصوتية والتمفصلات التي تحدث فيها ، فهي نوع من تلك الكتابة التي يمكن أن يكون فيها نقش ( الدال ) كأثر في الفراغ ، حتى ولو كان خارج البنية الصوتية . وهو النقش الحاصل من حركة الكرة في الفراغ ، ( إن الدرجة القصوى للكتابة ، لا يمكنها ، بصفتها شرطاً لكل نسق لسني ، أن تنتمي إلى النسق اللسني ذاته، وأن تكون محددة كموضوع داخل حقل هذا النسق.) (الكراماتولوجيا / جاك دريدا ، السالف الذكر، ص / 88 ) .وعليه يمكن استبدال ( الدال) هنا بكلمة (أثر ) الذي لا يخضع لأي امتلاء محسوس، مسموع أو مرئي ، صوتي أو خطي . وعلى أساس ذلك فإن ( أثر ) دريدا ليس مثالياً أكثر مما هو واقعي ، أو ليس معقولاً أكثر مما هو حسي ، أو بعبارة أخرى ليس دلالة شفافة أكثر مما هو طاقة كثيفة . وأن الخطاب الميتافيزيقي نفسه لا يمكنه أن يصف هذا ( الأثر ) ، كبصمة متروكة في رمال النص . وكل ما يمكن أن نفعله هو اقتفاء (أثر) تلك البصمة .