يحتل مبحث السارد في الدراسات السردية الحديثة جانباً مهماً نظراً للدور الأساسي الذي يشغله داخل المحكي، والدور الريادي الذي يضطلع به في الرواية الجديدة. يندرج مفهوم السارد ضمن حقل السرديات أو علم السرد (NARRATOLOGIE) ، ورغم أن هذه التسمية نفسها حديثة العهد، إذ تم اقتراحها سنة 1969 من طرف تزفيتان تودوروف، فإنها تستوعب نشاطاً تمتد جذوره إلى اهتمامات الشكلانيين الروس في العشرينيات من هذا القرن (شكلوفسكي، فلاديمير بروب، توماشيفسكي، اخنباوم ورومان ياكبسون وغيرهم)، وقد انكبت تحاليل هؤلاء الرواد على دراسة اشتغال النصوص الحكائية بالوقوف عن مكوناتها الداخلية، وبنائها الهندسي، دونما الاحتفاء بأيديولوجيتها ومصادرها الاجتماعية والنفسية. وقد ساهم هؤلاء في وضع الحجر الأساس لتشييد علم سردي له انشغالاته ومصطلحاته وأعلامه واتجاهاته الخاصة. وقد كانت سنة 1966 هي المنطلق الحاسم في تاريخ السرديات، لكونها شهدت ظهور العدد الثامن من (تواصلات) المكرس كله لقضايا التحليل البنيوي للسرد بالمعنى العام للكلمة. وفي هذا العدد ناقش عدد من الباحثين الأهمية التي يكتسيها مفهوم السارد في العمل الروائي وعلاقته بالحكي والمسرود والمسرود له. 1 - مفهوم السارد: إن التفكير في مفهوم السارد يضعنا أمام مجموعة من التساؤلات المنهجية التي تتمحور حول الطريقة التي ينبغي التعامل بها مع مفهوم السارد والحكي بصفة عامة، أو ما يشكل البنية الحكائية لنص روائي ما. فمعالجة السارد والبحث في إشكاليته داخل رواية ما، هي معالجة ثنائية علائقية محورها: السارد/ المؤلف، من حيث هي علاقة لا يتصور وجود حركة سردية دونها. وبكونها تشكل منطلقاً لاهتمامات النقد الأدبي الحديث. فالسارد يعتبر الوسيط بين عالم الكاتب والقارئ، وهو محدد من خلال وجهة نظر اختارها ليلاحظ من خلالها الفعل الروائي ويقدمه لنا. «ووجهة النظر هاته.. تظهر لنا الدور الذي يلعبه هذا الوسيط نفسه في المحكي، في المكان الذي يتموضع فيه تبعاً لكونه سيأخذ ما يحكيه، إما كواقع أو كتخيل، وأخيراً في المسافات التي يلزمها اتجاه الأشياء»(1). ويحدد وجوده داخل المحكي من خلال مجموعة من الوظائف أهمها وظيفتا التمثيل، العرض ووظيفة التنظيم، المراقبة. فهو الذي يوزع خطاب الممثلين والأدوار التي تقوم بها الشخصيات الروائية. يرى بعض البنيويين، ومنهم رولان بارت، أن السرد ينطوي على وظيفة تبادل كبرى موزعة بين مانح للسرد أو مرسله، يوجد في مقابله المستفيد منه أو متقبله، ولكن كانت «علامات السارد تبدو لأول وهلة أكثر قابلية للرؤية، وأكثر عدداً من علامات القارئ. إن السرد يستعمل في الغالب ضمير المتكلم أكثر مما يستعمل ضمير المخاطب. كما أن علامات القارئ في الواقع هي أكثر مخادعة من علامات السارد، وهكذا فما إن ينقل إلينا السارد بعض الوقائع التي يعلمها جيداً ويجهلها القارئ، حتى ينتج عن ذلك دليل للقراءة. إذ لا معنى لأن يقدم السارد لنفسه المعلومات بدل أن يقدمها للقارئ»(2)، وإذا كانت بعض التصورات السابقة حول مفهوم السارد، خاصة تصورات هنري جيمس وساتر تعتبر السارد شخصية حقيقية وواقعية(3)، فإن بارت يرى أن «السارد والشخصيات هي: كائنات من ورق، وأن المؤلف (المادي) لسرد ما لا يمكن أن يلتبس في أي شيء آخر مع سارد هذا السرد. ثم إن علامات السارد هي علامات محايثة للسرد»(4)، ويؤكد ولف غانغ كايزر كذلك أن السارد شخصية مبتكرة من طرف المؤلف. وقد ميز بين أنواع من الساردين حسب طبيعتهم السيكولوجية، فهناك سارد ساذج، هزلي وآخر سريع التأثر أو الانسياق مع السرد، وآخر تغلب عليه السخرية.. إلخ. إن السارد شخصية متخيلة تقمصها المؤلف. إن السارد هو الخالق الأسطوري للعالم(5). ويفرق واين بوث بين الكاتب الضمني والسارد المشخص أو غير المشخص، الكلي المعرفة أو الذي ليس كذلك. وهذا الكاتب «يمكن إلى حد ما أن يختار التنكر، ولكنه لا يمكن أن يختار الاختفاء أبداً»(6). ومن الدراسات الحديثة التي عالجت إشكالية السارد نذكر أعمال فلاديمير كريزنسي وجاب لينتيفلت. لقد رأى كريزنسكي أن تاريخ الرواية الحديثة وبنيات نصها التطوري الدال، تمر عبر القيم الخلافية والتغييرية التي تطبع صور السارد. ويحيل نسقه على الأنساق الأكسيولوجية للمؤلف. بمعنى أن السارد ليس مجرد مفهوم مغلق داخل النص، لكنه يجسد حاجة الإنسانية إلى الرموز والأساطير، ينهض في النص الروائي بدور المنظم لمجموع العلائق التي تشد الوعي الفردي بالوعي الجماعي، ونظراً للصعوبات التي تعتري مفهوم السارد لاتساع حقله المفهومي، وتعدد المقاربات وتباين منظوراتها وتصنيفاتها، فإن كريزنسكي يرى بأن الخطاب عن السارد يحيل إلى مستويات من التأمل والتفكير يحكمها الطابع التاريخي والمعرفي والسردي والفلسفي والتحليل النفسي(7). ومن هنا قام بإعادة النظر في منظومة السارد، إذ حاول أن يضع في الاعتبار المظاهر الشكلية لوضعه الخطابي، وإمكانات توسيع هذا الخطاب الذي هو موضوع له. إن السارد إذاً هو ذلك المنجز للغة الواصفة، لأنه يضطلع داخل الخطاب بنقل الرسالة السردية. ويخلص فلاديمير كريزنسكي إلى أن الخطاب المحكي حول السارد يجب أن ينطلق من فكرة أن السارد هو: أ- ذلك الذي يتكلم ويستهدف نظر الناس بما هو ذاتية تدعي أو تريد أن تقول شيئاً آخر غيرها هي، وعبرها هي ذاتها. ب- ذلك الذي يختبئ وراء مضاعفيه ويتغيأ إنتاج شخصية وصوت مفرد أو جمع. ج- ذلك الذي يسكت في هذا الجانب أو ذاك من الكلام بينما يتحدث الكلام في مكانه(8). الهوامش 1 - كايت فريدمان: «السارد والرواية»، ترجمة عبدالرحيم العلام: العالم الثقافي، السنة 19، العدد 851، نونبر 1987. 2 - رولان بارت: «التحليل البنيوي للسرد»، ترجمة حسن بحراوي، بشير القمري، عبدالحميد عقار، آفاق، عدد : 8-9، 1988، ص 21. 3 - انظر، تصور هنري جيمس وساتر، حول مفهوم السارد، مرجع سابق- نفس الصفحة. 4 - المرجع نفسه. 5 - وولف غانغ كايزير: من يحكي الرواية، ترجمة محمد السويرتي. آفاق، عدد 8-9م م، ص 72. 6 - واين بوث: «وجهة النظر من المنظور السردي»، ترجمة ناجي مصطفى: نظرية السرد من وجهة النظر إلى التبئير، منشورات الحوار الأكاديمي والجامعي، ط 1، 1989، ص 16. 7 - ف - كريزنسكي: من أجل سيميائية تعاقبية للرواية. آفاق، عدد 8-9 م م، ص 169.