عن دائرة الثقافة والإعلام في الشارقة، صدر كتاب النافذ العراقي الدكتور رسول محمد رسول (اللمس والنظر... مقاربات في سرديات المحسوس المتخيلة)، ويضم سبعة عشر فصلاً يتناول بالدرس والتحليل مجموعة من النصوص الروائية، العربية والخليجية، التي يصل عددها إلى سبعة عشر نصاً صدرت بين عامي 2005 – 2011. يقدم هذا الكتاب قراءات في عدد من النُّصوص الروائية القطَرية والإماراتية والسعودية والعراقية والمصرية والمغربية التي يحسبها المؤلف تسير شطر ما هو جديد في الإبداع الروائي العربي، لكنها ليست النُّصوص الوحيدة في هذا المجال؛ ولهذا يعتقد المؤلف أن المشهد الروائي العربي الراهن، خصوصاً في العشرية الأولى من القرن الحادي والعشرين، أصبح يعزف موسيقاه الإبداعية بعيداً عن أنظمة الخطاب السَّردي قبل عقدين من الزمان، من حيث تقنيات القول الروائي، وأساليب التوصيل والتمثيل فيه، ناهيك عن فتح آفاق الواقع، بكل متغيراته، على التناول الروائي، وفتح آفاق منطق الإبداع السَّردي على الواقع من خلال رهافة المتخيَّل الإبداعي التي تشتغل ليس بعيداً عن الحراك الكوني والمجتمعي والإنساني والطبيعي الذي يعيشه إنسان الألفية الجديدة.
ويؤكد الباحث العراقي، المتخصص بالفلسفة الألمانية الحديثة منذ حصوله على درجة الدكتوراه فيها من جامعة بغداد عام 1997، أن انفتاح الكتابة السَّردية على الواقع لا يجعلها تنحدر إلى التسجيلية الساذجة، بل هي ترتقي به إلى عوالم المتخيل الإبداعي عبر إدراك فحوى حراك الواقع الواقعي، وتمثيل ما يمكن تحويله إلى واقع متخيَّل يستجيب لشروط الإبداع السَّردي.
إن حياة الإنسان المعاصرة، كما يعتقد رسول، تحفل بما هو مرئي؛ بل إن المرئي فيها صار يندس ليستقر في لا وعي الإنسان في كل مكان؛ ليتسربل إلى كل الحواس، وإلى كل المُدركات، ويضرب عمقاً في مسارات الإحساس والإدراك ليخلق تمثيله الخاص به.
ولذلك، نلاحظ رسول على النُّصوص السَّردية العربية المعاصرة انزياحها صوب تمثيل المرئي في أدق تحرُّكاته داخل الوعي، في ظل عيش لا مفر من الركون فيه إلى ما هو مرئي ومنظور ومحسوس وملموس.
وكل ذلك، بحسب المؤلف، وجد ضالته لدى مجموعة كبيرة من الروائيين العرب المعاصرين الذين سار بعضهم في دروب تمثيل المرئي في أكثر صوره مفارقة للواقع بغية خلق واقع مرئي متخيَّل يجلي أكوان المنظور والمحسوس والملموس إلى ما وراء ذلك سردياً.
إن هذه الرؤى النظرية وجدت تطبيقاً لها في كتاب (اللمس والنظر..)، الذي درس سردية القاص والروائي العراقي محمد خضير "كرّاسة كانون"، وسردية الروائي المصري عزت القمحاوي "مدينة اللذة". وربما يمثل ذلك أقصى الطاقة التجريدية التي تحتفي بمرئيات ما وراء المرئي صوب المرئي المفارق للواقع الباهت كما يقول المؤلف.
إلى جانب ذلك، يقرأ الباحث العراقي نصوصاً أخرى تشتغل في أكوان المرئي، ولكن المتخيَّل المجتمعي منه، الذي يرصد أحوال الذات البشرية وأهوائها ورغباتها وغرائزها، وهو ما يجده الباحث في عدد من الروايات المغاربية التي جعلت من الجسد الأنثوي مداراً للتمثيل الذكوري القامع لمجرى الأنوثة كما هو الحال في رواية "الملهمات" لفاتحة مرشيد، وليس بعيداً عن سردية محمود سعيد "الطعنة" التي جعلت من شهوة الخطف والاغتصاب السياسي والأخلاقي فضاءها لتمثيل الجسد الأنثوي المعطوب والمُهان. ليس بعيداً عن سردية وفاء عبد الرزاق "أقصى الجنون.. الفراغ يهذي" التي يتلاحق حضور الذات في عذابات الهروب من جحيم الوطن المحروق. وكذلك تجربة الروائية السعودية سمر المقرن في تمثيل الغيرة روائياً، وتجربة الروائية السعودية رجاء عالم في تمثيل جسديات الأشياء المرئية وعلاقتها بالفعل المسرود، وصولاً إلى تجربة الروائيين العراقيين فلاح رحيم ومرتضى كزار في روايتيهما "القنافذ في يوم ساخن"، و"السيد اصغر أكبر".
وهكذا، يرى رسول في المشهد الروائي العربي المعاصر ذلك الاحتفاء بتسريد الذات كجسد مقهور مرّة، ومرغوب به أخرى وفق جدلية التواصل والتواصل المضاد ليس بعيداً عن تمثيل المتغيرات الجديدة التي تضرب حياة المجتمع العربي والإنسان العربي، خصوصاً تلك المتغيرات المصيرية وما يتمظهر عنها من أحوال وجودية كما هي تجربة الكاتب العراقي عواد علي في روايته "نخلة الواشنطونيا" حيث النخلة رمزاً للاحتلال الأمريكي في العراق.
إن المشهد الروائي، من المحيط إلى الخليج، يتواصل في رصد الحالة؛ حالة الإنسان في هذا الوطن الكبير في آلامه؛ ولذلك آثر الدكتور رسول محمد رسول قراءة بعض النُّصوص الخليجية، خصوصاً القطرية والإماراتية والسعودية لما فيها من تمثيلات تحتفي بالجسد والعلامة والتواصل مثلما تحتفي بالذات والأنا والمصير والمكان والزمان بكل ما فيها من معطيات تستدرج المتخيَّل السَّردي تمثيلاً وكتابة ونصوصاً وخطاباً.
في هذا الكتاب، يتشبث المؤلف بالنُّصوص كوحدات قرائية، لذلك نراه حريصاً على النظر في متونها الحكائية والبنائية في فصول كتابه هذا ليبتعد عما اسماه ب "النقد العليل" الذي يستهدف الخطاب دون التدليل على وحداته القرائية، والارتقاء بها إلى سطح النَّص المقروء على نحو تطبيقي واضح، وذلك من خلال النظر في نصوص كل من: أسماء الزرعوني، وفاطمة عبد الله، وزينب الياسي، ومريم السويدي من الإمارات. ومحمد خضير، ومحمود سعيد، وعالية ممدوح، وعواد علي، وعدنان عبد الجليل، ووفاء عبد الرزاق، وفلاح رحيم، ومرتضى كزار من العراق. ورجاء عالم، وسمر المقرن من السعودية، ومريم آل سعد من قطر. وفاتحة مرشيد من المغرب، وعزت القمحاوي من مصر.
أخيراً، يقول رسول محمد رسول: "إننا نعيش في عالم يزداد فيه دور المرئي والمحسوس لحظة إثر أخرى، ولذلك لا بدّ من قراءة الكثير من السرديات الروائية بمنهج التحليل السِّيميائي الذي يبتغي دراسة المعنى والتمثيل والإشارة والعلامة والتواصل والجسد كما هي متخيَّلة في بنية المسرود روائياً".