إن أول سؤال يطالعنا ونحن بصدد الوقوف على تعريف للمعنى النحوي هو: هل كان هناك مكان للمعنى في الدراسات النحوية؟ بمعنى آخر: ما نصيب الدراسة الدلالية من تفكير النحاة الأوائل؟ إن ما تقدم من معطيات حول مسألة تأسيس النحو ليبرز بوضوح أن دراسة المعاني أو المعنى بمفهومه الواسع كانت دراسة مغيبة تماماً، وإن كانت حاضرة فإن النحاة كانوا يرجئونها ويؤجلون النظر فيها إلى حين اكتمال عملية تأسيس النحو لا لأن المعنى لا طائل من دراسته ولا لأن الدراسات الدلالية لم تكن قد تطورت بعد، ولكن لعامل أساسي هو كون النحو لم يكن يتجاوز القواعد والضوابط التي كان الهدف منها هدفاً تعليمياً صرفاً كما رأينا، ولذلك ما يبرره بالنظر إلى طبيعة المرحلة التي عرفت دخول كثير من الأمم إلى الإسلام، فما كان إلا أن فسدت السليقة اللغوية. نستنتج أن المرحلة الأولى عرفت ما يسمى بالمعنى الوظيفي أو الإعرابي، ذلك أن «حركات الإعراب ليست شيئاً زائداً أو ثانوياً وهي لم تدخل على الكلام اعتباطاً، وإنما دخلت لأداء وظيفة أساسية في اللغة، إذ بها يتضح المعنى ويظهر، وعن طريقتها نعرف الصلة النحوية بين الكلمة في الجملة الواحدة»(6)، وفي هذا الصدد يعرف ابن جني الإعراب قائلاً: «هو الإبانة عن المعاني بالألفاظ، ألا ترى أنك إذا سمعت «أكرم سعيد أباه وشكر سعيداً أبوه، علمت بنصب أحدهما ورفع الآخر الفاعل من المفعول، ولو كان الكلام شرجاً واحداً لاستبهم أحدهما عن صاحبه، فإن قلت فقد تقول: ضرب يحيى بشرى، لا تجد هناك إعراباً فاصلاً»(7) فمهمة الإعراب عند ابن جني هي الإيضاح والإبانة عن المعنى، والمتأمل في كلامه هذا يجد أن المعنى عنده هو معنى الأبواب النحوية، فالرفع يدل لا محالة على الفاعل، والنصب يدل على المفعول، والكسر يدل على الشيء المضاف أو المجرور، وفي نفس الوقت يكون المعنى عنده شاملاً للإعراب والمعجم والدلالة، إذ إن ابن جني لم يكن نحوياً عادياً كمعظم النحاة الذين سبقوه أو عاصروه، أولئك الذين نظروا إلى النحو نظرة تقليدية وفصلوه عن باقي فروع العربية، بل إن النحو عند ابن جني «ليرتبط بباقي الفروع العربية وليس مجرد قواعد مبنية على شواهد وأمثلة بعيدة عن الواقع اللغوي قريبة من الفلسفة وإعمال الذهن»(8). إن هذا من شأنه نفض الغبار وإزالة اللبس الذي قد يعلق بأذهاننا فيما يخص طبيعة الدلالة في المرحلة الأولى من الدراسة النحوية. لقد أشرنا سابقاً إلى أن النحوي لم يكن يتجاوز المعنى الوظيفي وحصرنا ذلك في المرحلة الأولى التي عرفت تأسيس النحو، أما وقد نضجت الدراسة النحوية بل واللغوية عامة فإن الأمر قد تغير، وابن جني واحد من الذين عاشوا هذه المرحلة وتجاوزوا المفهوم التقليدي للنحو بما هو إعراب لا غير، إذ يمكن القول، إنه مع هذا اللغوي لم تعد دراسة النحاة للمعنى دراسة وظيفية فقط، بل أصبح النحو ذا عمق أكبر في المبحث اللغوي وهو ما يطلق عليه المعنى الدلالي الاجتماعي حسب تمام حسان الذي يؤكد أنه للوصول إلى المعنى الدلالي في صورته الشاملة لا بد أن نضع بعين الاعتبار فروع الدراسات اللغوية المختلفة من صوتيات وصرفيات ونحو، أما المعنى المعجمي فإنه يقصد به العلاقات العرفية الاعتباطية التي تنشأ بين المفردات ومعانيها(9). وهكذا فبإمكاننا أن نأتي بجملة لا يوجد بين مفرداتها علاقات عرفية أي أنها ليس لها معنى، ولكن من الناحية الوظيفية النحوية تغدو صحيحة ومقبولة، وهذا ما أكدته الدراسات اللغوية الحديثة خصوصاً مع العالم اللساني الأمريكي تشومسكي Chomsky في كتابه المعروف بالبنية التركيبية Syntactic structures (1957). ويضيف تمام حسان قائلاً: «لقد كان اكتمال الوظائف سبباً في قدرتنا على إعراب الجملة ولكن قصورها معجمياً واجتماعياً حال بينها وبين أن تكون نصاً عربياً مفهوماً(10)، واضح إذن من قول تمام حسان أنه وإن اتضحت معاني المفردات فإنها لن تكشف لنا حتى عن المعنى الحرفي أو ما يسمى عند الأصوليين ظاهر النص أو المقال عند البلاغيين، وذلك لأن معاني المفردات تحتاج بدورها إلى المعنى الوظيفي والمعنى العرفي حسب تمام حسان يشكل ما يسمى بالمقال. لكن إلى أي حد تستطيع الجملة ذات المعنيين الوظيفي والعرفي أن تكون جملة واضحة المعنى من الناحية الدلالية ؟هاهنا يصبح من الضروري أن نضيف عنصراً ثالثاً هو عنصر المقام أو العنصر الاجتماعي على حد تعبير تمام حسان لأن الجملة الواحدة تصلح لأن تدخل في سياقات متعددة فوجود الجملة متجردة عن مقامها التخاطبي بقرائنه اللسانية وشبه اللسانية والخارج لسانية قد يؤدي إلى نوع من اللبس ambiguity وهذا لن يصل بنا إلى المعنى الدلالي إذ يستأثر المقام? وظروف إنتاج الكلام بدور كبير في القدرة على فهم وتأويل خطاب ما وللبرهنة على ذلك نقدم المثال الآتي?: (مرحباً بالمجتهد) هذه الجملة صحيحة صوتياً وصرفياً ونحوياً (وظيفياً) كما أنها صحيحة معجمياً ولكن قابليتها للدخول في سياقات اجتماعية موسومة بالتعدد تجعل العنصرين السابقين قاصرين عن إيراد المعنى الدلالي المقامي ذلك أنه إذا قلنا لتلميذ حصل على نقطة مشرفة في الامتحان (مرحباً بالمجتهد) فإن المقام الاجتماعي لاشك سيكون محدداً إذ نفهم مباشرة أن مقام الخطاب هو التعظيم والتمجيد أما إذا كان الأمر يتعلق بتلميذ رسب في الامتحان فإن الأمر في هذه الحال يكون متعلقاً بمقام التحقير والاستهزاء ذلك ما نفهمه من المعطى التداولي. رأينا كيف أن المعنى كما فهمه نحاة الصناعة لا يكشف لنا عن عمق الجملة بقدر ما هو معنى سطحي شكلي. أما المعنى الشمولي الكلي الذي يراعي التمظهرات التي وقفنا عليها آنفاً، فيمكن القول معه إنه كان حاضراً في أذهانهم وفكرهم فقط، لأن الهم الذي كان يحمله النحاة هو تعليم النحو بأبوابه المختلفة: باب الفاعل والمفعول والفعل، حتى تضبط اللغة العربية لكي تصبح لغة معياراً تستفيد من تقنيات التقعيد، الأمر الذي سيختلف تماماً مع نحاة ما بعد التأسيس، ونحن نرى أنه من الضروري الوقوف على هذا التقسيم حتى يتسنى لنا معرفة حجم الاهتمام الذي أولاه علماؤنا الأوائل لدراسة المعنى. والدارس المتصفح للكتب النحوية السابر لأغوارها وكنوزها العلمية، لا يمكن أن يغفل بحال من الأحوال عن أب النحاة العرب، إنه سيبويه الذي يعد كتابه مرجعاً هاماً لا مناص منه بالنسبة إلى الباحث في حقل اللغويات العربية العامة والنحو خاصة بما هو إعراب ومعنى «فقد كان رحمه الله يحرص الحرص كله على أن يصحح الإعراب وعنايته به قبل عنايته باللفظ ولو أنه تعارض أكثر الرأيين إعراباً مع المعنى الذي يقتضيه الحال، رجع إلى الأقوى ما دام المعنى يأتلف به ويضطرد معه»(11). فسيبويه من النحاة الذين تفطنوا إلى العلاقة الجدلية الجوهرية بين المعنى والإعراب، فلم يكن يتقاعس عن استحضار المعنى إن في واقعه وإن في ذهنه اعتباراً لكون الإعراب فرع المعنى فهو تمييز للمعاني «فأما الإعراب فبه تميز المعاني ويوقف على أغراض المتكلمين، وذلك لو أن قائلاً قال (ما أحسن زيد) غير معرب لم يوقف على مراده، فإذا قال (ما أحسن زيداً!) و(ما أحسن زيدٍ؟) و(ما أحسن زيدٌ) أبان بالإعراب عن المعنى الذي أراده وللعرب في ذلك ما ليس لغيرهم، فهم يفرقون بالحركات وغيرها بين المعاني، يقولون مفتح للآلة التي يفتحون بها ومفتح لموضع الفتح.... »(12). إن ظاهر النص يثبت ما للإعراب من دور رئيسي داخل الجملة الواحدة، إذ به يظهر المعنى ويخرج عن لبسه كاللبس الذي رأيناه مع الجملة السابقة، ف ( ما أحسن زيداً!) الأولى تدل على التعجب والذي أجاز ذلك هو الفتحة والثانية تدل على الاستفهام لأن الكسرة أجازت ذلك والثالثة تدل على النفي لأنها حملت ضمة في آخرها..