أ اختلافات جمعية، حول مباحث وظواهر وقواعد لغوية بذاتها. ومن أقوى تجلياتها، اختلافات البصريين والكوفيين. ب اختلاف في الحكم على بعض التقابلات الخلافية في اللغة، مثل الأصل والفرع، والأقوى والأضعف، هل الاسم أم الفعل، أو حول الأثقل والأخف(1). ج الاختلاف في الحكم على مؤتلف اللغة ومختلفها، كالمترادف والمشترك والمتواطئ ومقابلها، المتباين والمتضاد ...إلخ، أي ما سماه ابن فارس «أجناس الكلام في الاتفاق والافتراق»(2). ويعد نظام الائتلاف والاختلاف من أسس الأنظمة اللغوية، وعلامة على ديناميتها واتساعها المعجمي والدلالي في التعبير. ويمكن عد التقابل بين المؤتلف والمختلف من مبادئ تقابل آخر، هو الوحدة والتنوع في اللغة. ذلك أن اللغة وإن نظر إليها في نظام وحدتها، فقد كانت تتضمن أيضاً مظاهر عدة للتنوع، منها: أ تنوع كمي، ككثرة مفردات العربية وبدائلها في الترادف والمشترك اللغوي والنعوت التفصيلية للأشياء.. وهو ما مثل حافزاً لوضع معاجم المعاني مثل «المخصص» لابن سيده، و«فقه اللغة» للثعالبي. ب تنوع في ذخيرة المقدرة التعبيرية للغة أي ما ترجم عندهم بمصطلحي «خصائص العربية» و«سعة العربية». ج تنوع في أساليبها وأنواعها الأدبية. د تنوع في ما أضيف إلى أصلها المفترض، مثل المصنوع والمولد. ه تنوع يرجع إلى الأصل المفترض ذاته، أي إلى علاقة العربية باللهجات أو اللغات. وقد كان للعلاقة الأخيرة دون شك أثر واضح في التنوع الكمي والكيفي للعربية ومقدرتها التعبيرية، فضلاً عن قواعدها ومجاري خطابها. إن الائتلاف في هذا المعطى هو وحدة العربية، والاختلاف فيه هو تنوع روافدها اللهجية واللغوية.. وقد مثل التقابل بين الطرفين، أحد أهم العوامل التي تحكمت في كل ما ترتب على «كلام العربية» من أحكام قيمة وتقعيد أُسس، فضلاً عن عكسه لجدل تعدى حدود وصف وتقعيد اللغة، إلى الدفاع عن مفاهيم خارجة عن قواعدها، مثل الجنس، والدين، إضافة إلى امتدادات مفهومية أخرى مثل «الاحتجاج» و«الصحة» و«اللحن» و«الأعجمي» و«الشعوبي» و«الشاذ» و«الفاسد» و«المستقيم»، وغيرها من المفاهيم والأحكام التي ارتحلت في حركة مراوحة بين اللغويين والبلاغيين والنقاد. ويهمنا بدءاً أن نؤكد أن الوعي بمبدأ الائتلاف والاختلاف، والوحدة والتنوع، كان حاضراً عند القدماء، لكن كيفية إدارتهم لصراعه، وتصريفهم لخطابه، تما بإحكام مكنهم من استيعابه وتوجيهه لتدعيم أطروحتهم المركزية، وحدة العربية وتفوقها على ما عداها من اللغات. فقد عمل ابن جني مثلاً على استيعاب ذلك الخلاف والتقليل من أثره على التعدد اللغوي مقابل مركزية «كلام العرب» ممثلاً في «العربية» بوصفها اللغة الرسمية المركزية، فذكر أن الخلاف بين الحجازية والقرشية والتميمية محدود، وأنه «لقلته ونزارته، محتقر غير محتفل به، ولا معيج عليه، وإنما هو في شيء من الفروع يسير فأما الأصول وما عليه العامة والجمهور، فلا خلاف فيه ولا مذهب للطاعن به. وأيضاً فإن أهل كل واحدة من اللغتين عدد كثير، وخلق من الله عظيم، وكل واحد منهم محافظ على لغته، لا يخالف شيئاً منها»(3). ومن المعروف أن ابن جني توفي عام 392 ه، وهذا يعني أنه إلى ذلك التاريخ، كان الواقع اللهجي سائداً بحدة في الاستخدام اليومي للكلام، وأن التميميين بصفة خاصة، لم يخضعوا لغوياً لكلام «العربية»، بل حافظوا على تنوعهم الكلامي.. ولما كان الخلاف كذلك، ألا يكون ابن جني وقع في تناقضات متتابعة، مردها إلى دفاعه عن المركزية اللغوية وسيادتها على غيرها؟ إذ كيف يكون الخلاف بين التميمية والحجازية يسيراً وقد شغل النحويين؟ وكيف يكون الائتلاف جارياً بين العامة والجمهور، وهؤلاء متمسكون، كل بلغته، محافظ عليها لا يرى عنها بديلاً؟(4).. ثم كيف تكون تلك الاختلافات يسيرة، ولها أوجه عديدة تتعدى حدود المعجم إلى اختلاف في بنية الكلمة وتركيبها والنطق بها؟ وقد ذكر ابن فارس ذلك في باب سماه «باب القول في اختلاف لغات العرب»، كما عقد باباً آخر سماه «باب انتهاء الخلاف في اللغات»(5). وقد حدد ابن فارس من أوجه اختلاف اللغات أو اللهجات: الاختلاف في الحركات، وإبدال الحروف، والهمز والتليين، والتقديم والتأخير، والحذف والإثبات، وإبدال الحرف الصحيح حرفاً معتلاً، والإمالة والتفخيم، والحرف الساكن يستقبله مثله، والتذكير والتأنيث، والإدغام، والإعراب، وصورة الجمع، والتحقيق والاختلاس، والوقف على هاء التأنيث، والزيادة، والتضاد. لكن بيْن ابن جني وابن فارس فرقاً في درجة احتواء التعدد اللغوي في كلام العرب، فابن جني بمحاولته التقليل بين فروق المركزي والهامشي، لفائدة المركزي، عبر في الوقت ذاته عن رأي لامع، هو قوله ب«اختلاف اللغات وكلها حجة»(6)، لكنه كغيره لم يستطع الإفلات من أسر الخطاب السائد وإن سعى للإقرار بالمسود، فأثبت له حجيته، مع إرشاد المتكلمين لما نعته ب«الخير»، أي «العربية» في صورتها التي رسمها النحو. أما ابن فارس فعقد للهامشي المتمثل في «كلام العرب» السابق ل«كلام العرب» المعاصر له باباً محملاً بأحكام قيمة سلبية هو «باب اللغات المذمومة»(7). ما الذي جعلها إذن مذمومة، إن لم يكن الخطاب المركزي للعربية الموسعة المعدلة؟ ولربما وجب أن نتساءل عن الفوارق بين «عربية قريش» مثلاً و«عربية النحويين» التي وضعوا قواعدها، وإلى أي حد تتسع أو تضيق؟ أما الخطاب السائد، فقد قرن بينهما ليُكسب العربية سنداً دينياً وقبلياً وتاريخياً(8). لقد ترجمت عملية صناعة العربية منذ بدايتها لعقدة لم يكتب لها أن تنحل، هي الخوف من الآخر، مقابل استهلاك الذات والانكفاء على شروطها، إذ تجلى ذلك في إخضاعهم عملية صناعة كلام العربية لما اعتبروه أصلاً نقياً لا تشوبه شائبة دخيلة.. يقول الفارابي عن تلك العملية محدداً المصادر التي أُخذ عنها اللسان العربي: «لم يؤخذ عن حضري قط، ولا عن سكان البراري ممن كان يسكن أطراف بلادهم المجاورة لسائر الأمم الذين حولهم، فإنه لم يؤخذ عن لخم، ولا من جذام، لمجاورتهم أهل مصر والقبط، ولا من قضاعة وغسان وإياد، لمجاورتهم أهل الشام، وأكثرهم نصارى يقرأون بالعبرانية، ولا من تغلب واليمن، فإنهم كانوا بالجزيرة مجاورين لليونان، ولا من بكر، لمجاورتهم للنبط والفرس، ولا من أهل اليمن، لمخالطتهم للهند والحبشة، ولا من بني حنيفة وسكان اليمامة، ولا من ثقيف وأهل الطائف، لمخالطتهم تجار اليمن المقيمين عندهم، ولا من حاضرة الحجاز، لأن الذين نقلوا اللغة صادفوهم حين ابتدأوا ينقلون لغة العرب، قد خالطوا غيرهم من الأمم، وفسدت ألسنتهم»(9). وإذا تصورنا أن عدد سكان شبه الجزيرة العربية بكاملها كان عدداً محدوداً، وأن كل تلك القبائل والمناطق أقصيت منه، فكم يا ترى عدد من بقي منهم في بوادي الحجاز؟ لكن الذي حدث بالتأكيد هو أن «العربية» الجديدة، المختارة والمنتخبة، لم تكن هي عربية التكلم اليومي، وأنه تم تغليبها على لغات المسلمين من الأمم الأخرى كالهند والفرس والحبشة. أما متكلموها الأصليون المفترضون فتحولوا مع الزمن إلى مولدين. بل إن هؤلاء المتكلمين الذين يفترض أن «العربية» عربيتهم، واجهوا مشاكل في التكلم بها.. وهو ما تدل عليه إشارة القدماء بوجود اللحن في صدر الإسلام، مع الإشارة إلى أن اللحن يفيد في هذه الفترة، أن اللغة الأم لم تكن هي لهجة قريش. كما نتج عن الكيفية التي تمت بها صناعة العربية، ذلك الصراع الذي لم يحسم أبداً، بين قواعد النحويين وكلام العامة غير الخاضع لمعاييرهم، فضلاً عما واجهوه في امتدادات لهجات شبه الجزيرة العربية في الكلام البليغ، ما بين القبول بها أو رفضها بدعوى مخالفتها ل«سنن العربية».. يقول ابن جني في هذا الموضوع متبنياً رأياً معتدلاً: «إلا أن إنساناً لو استعملها لم يكن مخطئاً لكلام العرب، لكنه يكون مخطئاً لأجود اللغتين، فأما إن احتاج إلى ذلك في شعر أو سجع، فإنه مقبول منه غير منعي عليه.. فالناطق على قياس لغة من لغات العرب مصيب غير مخطئ، وإن كان غير ما جاء به خيراً منه»(10). ما ذكره ابن جني يعبر عن الصراع الذي كانت تواجهه العربية الرسمية مع العربيات غير الرسمية، صراع بين السائد والمسود في اللغات، حيث يتبين منه أن العربية الرسمية كانت حتى ذلك الوقت عاجزة عن الوفاء بكل ضرورات التعبير في الكلام البليغ.. وسبب ذلك العجز راجع بالتحديد للإطار المغلق الذي سعى اللغويون والنحويون لوضعها فيه، وتوجيهها بمقولات إلزامية يطالعنا منها في نص ابن جني السالف: الخطأ والصواب والجودة والمقبولية والقياس والمذهب والخير.. وهي مقولات ضمن مدونة قيمية أوسع، شملت مفاهيمهم لمجادلات العالي والمنحط، والخاصي والعامي، والمقبول والمردود، والمهمل والمستعمل، والمطرد والشاذ ...إلخ، كما انعكست في شروطهم لرواية اللغة ومصدرها ونوعية رواتها(11).