آمنت الحضارتان الإغريقية والأمازيغية ب«بوسايدن» باعتباره إله البحر، وبحسب الأساطير اليونانية القديمة فهو ابن الجبار «كرونوس» و «غايا»، وشقيق كل من «زيوس» و«هيرا». وقد ذكر اسمه في ملحمة «الأوديسا»، بعد أن قام أوديسيوس ملك أثينا، بإغضابه بسبب إنكاره فضله عليه وانتصاره في حرب طروادة، وقد حكم عليه بوسيدون بألا يصل إلى أرضه أبدا، وأن يبقى تائها في البحر. اهتمت الحضارات بشكل عظيم بهذه الظاهرة الطبيعية، حيث شكّل البحر بالنسبة الى الكثير منها مصدر خوف واستغراب وباتت حقيقته أشبه بلغز غريب، كما ضمنت الديانات السماوية لاحقاً بين آياتها قصصاً وصوراً عن البحر وتحكّم الله في السيطرة عليه، مستعرضة بعض القصص التي تناقلت من التوراة حتى القرآن كقصة «يونان» في العهد القديم أي «يونس» في الاسلام الذي ابتلعه الحوت، وقصة موسى الذي شقّ البحر بعصاه فأغرق فرعون ومن معه فيه. وقد حفل الادب العربي بالمعجم البحري الغني وبنى عليه إرثاً واسعاً ظهرت ملامحه في قصائد ومعلقات الشعراء الجاهليين، لنشهد صوره مع امرىء القيس حين يقول: «وليل كموج البحر ارخى سدوله علي بأنواع الهموم ليبتلي»، ثم وجد البحر وصوره طريقه وبكثافة مع انتشار الأفكار الرومانسية في الادب الاوروبي التي لاقت صداها في الشعر العربي الحديث وبات البحر ملجأ وحجة لكل عاشق أو محب ومتفكر. ولم يكن اهتمام الحركة التشكيلية بالبحر بعيداً عن ريشة الفنانين أبداً، بل على العكس اهتموا بتصويره بغزارة مع قربهم من هذا «الكائن» العظيم بانعكاساته وجماله. ويبدو أن تأريخ الحركة الفنية ل«فن البحار» يجد طريقه مع بداية القرن السادس عشر وتحديداً مع الفنان الهولندي هاندريك فرووم، وإذ نستعرض اسم هذا الفنان كبداية لهذه المدرسة أو الفن فالقصد منه رسم مسار واضح لأكثر الفنانين الذين اهتموا بشكل جدي بالبحر كعنصر جمالي تواجد في أغلب أعمالهم وليس بشكل عابر فقط. ولد فرووم عام 1566 ويعتبر الرائد الاول في هذا الفن وتميزت لوحاته بشاعريتها ونقلها لمشاهد البحر ورحلات السفن الشراعية التي كانت تعكس مشهداً جمالياً بامتياز، كما صور مشاهد الحرب واحتراق السفن بشكل واقعي كلاسيكي لا يخلو من تعبيرية في استخدام الألوان كانت آنذاك ما تزال غير مألوفة. في العام 1576 ولد الفنان الهولندي كورنيليس فان وايرنغن وكان ابناً لبحار فتأثر بعالم البحار وشدته عظمتها فاختص في تصوير القوارب ورسم المخططات لها بشكل لا يخلو من الدرامية أحياناً خاصة في استخدامه للألوان الداكنة، كما صور أسطورة «هارلم» التي انتصر فيها أبناء شعبه على السور المقام في الدولة الاسلامية في «دمياط» في مصر. ظلت هذه المعالجة الفنية والاهتمام بالبحر حكراً على الهولنديين والفنلنديين كالفنان الفنلندي جان بورسيليس والفنان بونافانتورا بيترس، حتى تبناها في باريس كلود جوزيف فيرنيه وكان قوياً في بنائه الفني واعتمد على العنصر البشري الذي يأخذ حيزاً مهماً في اللوحة، وفيرنية الذي ولد في فرنسا العام 1714 وانتقل الى روما مقدماً الكثير من الاعمال التي احتوت سحراًَ خاصاً، مهتماً بما تعطيه الطبيعة الليلية من رومانسية وسوداوية خاصة، مستخدماً الالوان بطريقة متقنة تؤكد روحانيته وتفاعله مع عوالم البحار والسماء. أما من الفنانين الانجليز فقد ظهرت مجموعة كبيرة في القرن الثامن عشر اهتمت بتصوير البحر وانعكاساته والحياة البحرية بسفنها وشطآنها نذكر منهم: «شارلز بروكينغ (1723-1759)، وفرانسيس سوين( 1725-1782)، وتوماس وايتكومب (1760-1824)، حتى ظهور العملاق وسيد زمانه في هذه المدرسة التصويرية الفنان الانجليزي جوزيف ترنر، الذي ولد عام 1775 وتبنى الرومانسية كنهج تشكيلي قام بتطويره والاستفادة من مبادئه معالجاً النظريات التشكيلية بشكل خلاق حتى سمي ب «فنان الضوء» وأصبح واحدا من المبشرين بالانطباعية في القرن التاسع عشر. عالج ترنر لوحاته بالالوان المائية التي تميز فيها تميزاً منقطع النظير حتى أيامنا هذه، مقدماً أعمالاً أثبتت مدى حساسيته في التعامل مع الألوان والطبيعة على حد سواء، كما بشر بنمط فني جديد من خلال معالجته الطبيعة وتحولاتها مثل العواصف والرياح والضباب التي تتولد بالقرب من البحر والشاطئ، لقد كان مفتوناً بقوة لعنف هذه الحياة ومشدوداً لغرائبيتها التي تؤكد روحانيته وشاعريته التي تسمو بالعواطف الانسانية بعيداً عن حسية المشاهد الملموسة. لقد كان ترنر في بداية حياته الفنية وفياً لتقاليد المدرسة الانجليزية إلا أنه في أعماله اللاحقة التزم ببناء درامي بصري تخلقه شفافية ألوانه، حتى حين استخدم الالوان الزيتية. حتى توصل إلى أسلوبه النضر والنقي الذي أثر بفناني الانطباعية وأبرزهم كلود مونيه. توفي ترنر في العام 1851 تاركاً وراءه إرثاً فنياً ضخماً وجائزة باسمه مازالت حتى اليوم تمنح للطلاب الموهوبين وفناني الالوان المائية. بعد جوزيف ترنر لم يقدم فنان أوروبا ما هو بمثل أصالته وإبداعه، وقبل ظهور الانطباعية بوقت قصير كمذهب واضح وصريح مع مانية ومونيه، ظهرت لوحات البحر مع الفرنسي أوجين بودين الذي حمل لواء هذا المذهب التشكيلي مع جماعة الانطباعيين لكنه ظل مخلصاً للعالم الجميل الذي يولده البحر وقدم مجموعة كبيرة من اللوحات وأدرج تحت قائمة فناني البحار بامتياز. ولد بودين في العام 1824 وكان أول الفنانين الفرنسيين الذين رسموا الطبيعة خارج محترفاتهم وقد وصفة بودلير ب«سيد السماء»، ألوانه كانت تنبض بالحياة والقوة وتقميشه سطح اللوحة بشكل عفوي وجذاب، شارك الانطباعيين معرضهم الاول عام 1874 لكنه لم يعتبر نفسه يوماً راديكالياً أو ثورياً ملتزماً بهذا النهج الفني. توفي بودين عام 1898. في القرن العشرين يعتبر الفنان الاميركي جايمس تايلر من أشهر فناني عصره الذين صوروا البحر وقد ولد تايلر عام 1855 وتوفي في العام 1931، تأثر وهو ما يزال في الخامسة عشرة بالعالم البحري وافتتن به طيلة حياته فصور القوارب والشطآن والمياه ومنذ العام 1900 حتى العام 1930 كان يتنقل جايمس كل عام بين المرافئ الاميركية ويقوم بتصوير نمط الحياة هناك، وقد واظب على هذه المواضيع حتى اصبحت بصمة واضحة في أعماله. لايزال البحر حتى اللحظة عنصر جذب لكثير من الفنانين وبالرغم من تطور المذاهب والحركات الفنية يبقى ذاك العالم بسحره وغموضه بوصلة تتجه إليها ريشة الفنانين.