في غاليري Laboratire dart- الواقع وسط درج الفن بمنطقة الجميزة الأثرية العريقة في بيروت . نصب الفنان اللبناني فؤاد جوهر . معرضه الشخصي التاسع عشر، وهو مجموعة من آخر نتاجاته الفنية المرتكزة أساساً على لوحة المنظر اللبناني، والمنفذة بمادة (الأكواريل) المائية، على ورق "الكونسون" الراقي الخاص بهذه الألوان . فؤاد جوهر فنان لبناني معاصر، ولد في مدينة صيدا، وكرّس نفسه لمحترفه الفني بعد أن حصل على الدكتوراه في الفنون، وهو الآن أستاذ جامعي يدرّس الفن ويعيش زمانه الفنّي المتوازن ضمن إطار هادئ بعيد عن الصخب والتجريبية المجانية . إنه يدرّس المنظر دراسة تشريحية ضوئية، بحيث يستخلص العديد من النتائج الحساسة في نهاية المطاف . مثلاً على الصعيد التأثيري النوراني، وهو الجانب الذي ركز عليه أغلب الانطباعيين، ضمن معادلة تقول: إن تجاور الألوان الأساسية سواء أكانت زيتية أو مائية، سوف يدفع بالعين المتلقية لأن تلعب اللون المكمل الثالث . فبمجرّد أن نضع ضربتنا الصفراء إلى جانب ضربتنا الزرقاء فإننا نكون قد دفعنا بالعين المتلقية لأن تنتج ضوئياً اللون الأخضر . وهو لون مكمّل نتج من تمازج افتراضي للونين الأزرق والأصفر . وقد أدى هذا النظام اللوني، إلى جعل النور، عنصراً أساسياً في التفاعل اللوني، لأن يكون العامل الجوهري في البناء اللوني العام . فيما سنرى فؤاد جوهر يمزج على ملوانته الألوان ويستحضر الأخضر الذي يؤثر في قوة الضوء، ويتلاعب به حين يتفاعل أساساً مع البياض الأرضي الذي يحفل به المسطح التصويري لذلك نرى شجرة الزيتون عند فؤاد جوهر كتلة من التألق النوراني القائم على نظام تفاعل الأخضر مع الضوء الذي يجب أن يكون وجوداً طبيعياً . المعادلة هنا أن الانطباعي التقليدي يخترع نورانيته الخاصة به، فيما فؤاد جوهر يعلن بأن الوجود النوراني في الطبيعة هو الحضور الذي وهبته هذه الطبيعة لنا، وما علينا إلا التعامل معه عقلياً وتقنياً . لذلك أردد دائماً بأن فؤاد جوهر اقتبس من الانطباعيين (تأثيريتهم) النورانية، لكنه اختلف عنهم مصدرياً . أي أن (تأثيرية) الفنان اللبناني جوهر جاءت من صلب شرقه النوراني . وتجوهرت عبر تفسيره التعبيري الذكي للمنظر القائم على المعادلة الانطباعية . المسألة الثانية في النظام التلويني عند هذا الفنان، أنه تعامل مع الحالة (التنقيطية) التي اشتغل عليها كثير من الانطباعيين، وربما أشهرهم "بيسارو" و"بول سيغناك" المولود سنة 1863 والمتوفى بباريس سنة 1935 لأنهما الفنانان اللذان أرادا أن يؤكدا أن المنظر أي منظر كان في الطبيعة خصوصاً، إنما هو مكوّن لونياً من (نثرات) متفاعلة لونياً . وهذه النثرات هي تلك الذرات التي لا ترى العين تفصيلاتها، بل نرى تفاعلها المدهش سوف تكشف لنا عن مجموعة من الحجيرات اللونية المتقاربة والمتباعدة، وإليها يمكن العودة وصياغة طبيعة متحركة جديدة . ذهب الفنان اللبناني فؤاد جوهر أبعد من ذلك . إذ ارتجل ضربات زيحية صغيرة، بمعنى أنه خرج من نظام النقطة إلى نظام الزيح الصغير . وكون عبر ترداده في نظامين أفقي وعمودي، إلى إنشاء حالة تصوير تسبق حالة التلوين . لذلك لو درسنا الحالة العشبية عندما يرسمها "جوهر" لوجدنا في هذه المساحات الأساسية نظام تصوير ينهض على عملية تكوين زيحي لوني صغيرة . بمعنى أن الضربة صغيرة وفعالة وذات قدرة على بناء نظامها التصويري والتكويني في آن معاً . إن هذه التقنية قد أغنت جوهر عن المساحات الواسعة في ضربة الفرشاة العريضة . ومنحته قدراً جيداً من السيطرة على كامل مفاصل مسطحه التصويري . الأمر الثالث الذي لا بدّ أن نتنبه إليه في لوحة الفنان فؤاد جوهر هو الروح المحلية في هوية المنظر، فلوحة هذا الفنان "شرق أوسطية" بامتياز . وهي مضمخة برائحة المدينة التأريخية التي انزرعت على الشاطئ الشرقي للبحر المتوسط . لأن صيدا التي رسمها كثيراً عبر بحرها وزوارق صياديها، أو عبر أزقّتها الأثرية القديمة، أو من خلال مزارعها المشهورة بالليمون والزيتون، هي واحدة من أقدم المدن الكنعانية والفينيقية، وقد لعبت دوراً كبيراً في التجارة التي غطّت مساحة البحر الأبيض المتوسط، كما كان لها دورها في الأسطورة والفكر "الميثالوجي" . من هنا يمكننا أن نرى تلك العين الراصدة للزوايا العتيقة والشبابيك الأثرية، والزوارق التي ترسو في مرافئ صياديها . فاللون هنا ليس مقتولاً بفعل هيمنة العمارة الحديثة، أو بفعل تحديث المدينة بل هو لم يزل يمتزج برائحة زهر الليمون وزرقة البحر، وبساطة البسطاء . للوحة المحلية نكهتها . لأن الروح التي يشتغل عليها الفنان هي الإشارة إلى أصالته، وربما ليس من باب المصادفة أن نرى في مدينة بيروت، أكثر اللوحات قرباً إلى روح المدينة هي لوحات الفنان الكبير الراحل "عمر الأنسي" حين يرسم شاطئ الرملة البيضاءالبيروتي، وهضبة تلّة الخياط في قلب العاصمة، أو تلك البيوت الأثرية المبنية بالحجارة الرملية . أما الأمر الرابع والأهم في فن فؤاد جوهر فهو سيطرته المميزة على ريشته عند الأداء "الإكواريللي" وهنا لا بدّ من التذكير بأن ألوان "الأكواريل" هي ألوان مائية شفافة وحساسة، ابتدأ بعض رسّامي الآحاد السويسريين استعمالها مطلع القرن العشرين، ثم تطورت الألوان ذاتها، حيث اشتغل التقنينون الألمان على إضافة المادة (الفيكساتيفية) اللاصقة إلى اللون وهي مستخلصة من العسل، بعد أن كانت بعض الشركات الفرنسية أو الإيطالية تجعل من زلال البيض مادة لاصقة للون "الأكواريللي" . وكان يتسبّب في ظهور نوع من العفن بعد فترة زمنية . هذه الألوان المائية المضيئة، تكشف رسّامها أو مستعملها . فإذا لم يكن قادراً على شفافية التلوين، وواعياً للضربة اللونية الأولى، فإن الخطأ الذي يسقط فيه أثناء التلوين غير قابل للتصحيح . لذلك فإن رسام الأكواريل الجيد هو فنان مسيطر وحاذق حتماً، وإنّ القلّة المميزة من فناني لوحة الأكواريل هم الذين يشكّل حضورهم مناسبة ذات نكهة خاصة .