عندما تمكنت قوات الثورة من إعادة فتح طريق الحديدة - صنعاء تأكد بجلاء أن الحرب قد انتقلت إلى طور آخر، وأن الأطراف المتحاربة تصنع فصلها الأخير, ومن الناحية العملية فإن ذلك التغيير الهام غدا إيذاناً بانتقال الطرف الملكي من وضعية التذبذب والمراوحة التي سادت المرحلة الثانية من حرب الحصار إلى مرحلة جديدة تماماً, أخذت خلالها معاركهم ضد الثورة طابعاً دفاعياً بحتاً كمقدمة للتقهقر غير المنظم ثم الهزيمة. ولاشك بأن القيادات الملكية ومقاتليها على السواء عجزوا عن استيعاب ذلك الانتصار الجمهوري المفاجئ، وفقدوا المقدرة على القيام بهجوم مضاد وفعال, وهو ما كان ممكناً من الناحية العسكرية, خصوصاً وأنهم يحاربون دولة قائمة تعيش إدارتها في مدينة محاصرة، وهي بهذا المعنى ستخسر الحرب بكاملها إذا لم تربح معركة العاصمة, بينما لا ينطبق هذا الوضع على القوات الملكية التي ظلت تشن حرباً تمتزج فيها حرب العصابات مع أشكال الحرب النظامية, على مدى سبع سنوات، ولديها مجال للمناورة والتراجع، ثم الهجوم بمرونة كافية دون أن تكون قد خسرت الحرب بمجرد فقدان موقع أو موقعين أو حتى محافظة بكاملها.. بيد أن الذي حصل - كما يبدو - أنه على إثر تأمين طريق الحديدةصنعاء, والسيطرة على جبل (عيبان) حدث نوع من التداعي السيكولوجي الشامل بين صفوف القيادات الملكية ومقاتليها. وتحول الغرور والتبجح المفرط الذي كان شائعاً بين الأوساط الملكية قبل يوم من معركة إعادة فتح الطريق, إلى حالة من اليأس المطلق ثم الشعور بالإحباط وما نجم عن ذلك من الانقسام والتمزق وتبادل الاتهامات عن مسؤولية الهزيمة. وهنا كانت تكمن الأهمية الحاسمة لمعركة طريق الحديدة - صنعاء في كونها أحدثت حرباً من نوع آخر بين صفوف الطرف الآخر. ويتجلى التعبير عن هذه الوضعية بأكبر قدر من الوضوح؛ كون المقاتلين الملكيين تخلوا عن العديد من المناطق على نحو غير متوقع، بل وبدون قتال في معظم الأحيان, ولعلي أشير هنا إلى حادثة صغيرة ولكنها مهمة.. كان المقدم (عبدالرحمن الحداد) مدير الأمن العام يومئذ شاهداً عليها أثناء تواجده ذات مساء معنا في زيارة لمواقع قوات الشرطة المتواجدة في المطار بعد انتصار(عيبان) و(الطريق) وملخصها أنه كان بحوزتنا جهاز اتصال صغير من صنع أمريكي, كان مستخدماً لدى القوات الملكية, تم الاستيلاء عليه منذ فترة وجيزة, وحين كان المقدم(الحداد) يحاول استعمال الجهاز بالضغط على أزراره نجح في تشغيله وعثر صدفة على الموجة التي كان قادة العدو يستخدمونها. وكان الملكيون ذلك المساء قد أخفقوا في محاولتهم الهجومية ضد المواقع الجمهورية باتجاه جبل (براش) وعلى المواقع المواجهة لجبل (الطويل), ولقد أنصتنا جميعاً وباهتمام إلى حديث ساخن ومنفعل كان يجري بين موقعين رئيسين من المواقع الملكية القريبة منا كما يبدو من وضوح الصوت, وتركز الحديث بكامله على نتائج الهجوم الأخير ومن يتحمل مسؤولية فشله, ولدى تجاذبنا لجهاز الاستماع الصغير قرعت آذاننا جملة كررها أحد عمال الأجهزة الملكية مراراً, وكان يرددها وكأنه اليوم (لقد هربوا كلهم ولم يبق سوى عدد قليل من بني سحام) وهي واحدة من قبائل خولان المهمة.. ومع أننا لم نعر ذلك الكلام اهتماماً كبيراً ونبلغ به قيادتنا, بل أهملناه في اليوم التالي كلياً, فقد كان كما برهنت الأحداث بالغ الدلالة وشهادة وفاة ذاتية وبداية العد التنازلي لحرب التدخل الاستعماري. فلم يكن فتح طريق الحديدة - صنعاء في البداية سوى ثغرة صغيرة ما لبثت أن اتسعت كل يوم لتغدو ثغرة كبيرة في جدار الحصار بأسره، وفي هذا يكمن الرد على سؤالي.. كيف ولماذا هزم الملكيون بسرعة؟!. وفي الوقت ذاته دحض عملي لكل المحاولات التي كانت ترمي إلى الحط من شأن انتصار الجمهوريين في حرب الحصار بتصويره كما لو أنه مجرد منحة تفضل بها العدو. وليس خافياً بهذا الصدد ما راج من شائعات عقب انتهاء الحرب وظلت متداولة في وسط معين مفادها بأن القادة العسكريين ومشائخ القبائل الموالين للملكيين رفضوا الانتصار حين امتنعوا عنوة عن اقتحام صنعاء بعد أن أمسوا منها قاب قوسين أو أدنى لأسباب غير معلومة, بيد أن الحقائق المتوفرة حتى الآن تسفه هذه الخرافة بصورة مطلقة.. وعلى سبيل المثال فقد التقينا بالصدفة (مجاهد القهالي) و(عبدالهادي البهلولي) وأنا, قبيل أشهر بالشيخ (يحيى محمد القاضي) الذي رافق الفريق (قاسم منصر) حتى دخوله صنعاء وإعلان ولائه للجمهورية, وفي سياق شرح الشيخ المذكور للأسباب التي حدت بقاسم منصر إلى إعلان ذلك الموقف قال بما معناه(لقد نجحت في إقناع قاسم منصر حينما كان ذات يوم في لحظة يأس, بتحديد موقفنا إلى جانب الجمهورية، بعد أن أخبرته رأيي في سير الأحداث ضمن حديث طويل وقلت له: إننا سوف نجمهر بكل تأكيد سواء اليوم أو الغد ويجب على الفريق (قاسم) أن يقرر فيما إذا كان يتعين علينا أن نعلن ذلك اليوم ونحن أقوياء أو بعد فوات الأوان حينما نكون في مركز ضعف.. فرد الفريق (قاسم) قائلاً: (يجب جمع القبائل وإقناعهم، وعليك الرد على رسائل(سنان) والشيخ(عبدالله). وبعد هذا ألا يتضح بجلاء أن جمهرة (قاسم منصر) ودخوله صنعاء أتت بعد أن عز النصر على الملكيين؟, وهل يبقى بعد ذلك من المنطق أن يشبه دخوله صنعاء بإسلام (خالد بن الوليد) ودخوله المدينة مثلما قيل في خطاب الترحيب به, وأحسب أن جمهرة (قاسم منصر) والذين أتوا من بعده - إذا كان لابد من التشبيه - أن يشبه بإسلام أبي سفيان والطلقاء من بعده. ولقد وضح بما فيه الكفاية أن النظام الجمهوري لم ينتصر بهم في شيء، بل إن ذلك أسهم ضمن عوامل أخرى في إفراغه من محتواه وجعل (ديفيد سيمبلي) يعلن بعد ذلك مزهواً أن جهوده وزميله (هكلين) لم تذهب أدراج الرياح. وثمة واقعة أخرى تؤكد الاستخلاص القائل بأن فتح الطريق كان بداية النهاية بالنسبة للملكيين وتتمثل في الانقلاب الشامل الذي طرأ على مواقف القبائل في المناطق المختلفة بعد هذا الحدث غير العادي.. فبينما كنا نرابط في مطار الرحبة صدرت إلينا تعليمات من صنعاء في بداية شهر مارس باختيار وتكليف عدد صغير من الضباط القياديين في مواقع المطار والتحرك إلى منطقة “بني الحارث” مع حراسة صغيرة من الجنود للقاء بأبناء قبيلة (حاشد) الذين سيكونون في”بئر خيران” ومرافقتهم إلى صنعاء بهدف إعلان ولائهم النهائي للجمهورية, وكنت واحداً من الضباط الذين رافقوا النقيب”محمد محرم” قائد مواقع مدفعية المطار وبجانبه بعض الضباط الذين لم أعد أتذكر أسماءهم وحوالي خمسة جنود مسلحين على متن سيارة عسكرية صغيرة كانت هي السيارة الأولى التي افتتحت الطريق رسمياً من المطار حتى”بني الحارث” وبرغم توجسنا من الألغام التي كان متوقعاً وجودها في الطريق فقد صغرت المخاطر أمام فرحة الانتصار وإن كانت الحياة قد أضحت في أعيننا أرفع قيمة من السابق ونود لو نعيش المستقبل الذي كنا نحلم بأن يكون باسماً إثر هزيمة المتدخلين ضد الثورة. وتفادياً لوقوع أي مكروه أمر سائق السيارة بالسير على حافة الطريق, أو الخروج منها كلياً وبسرعة كبيرة, وخلال ساعات وصلنا قرية “بئر خيران” مكان التجمع, حيث التقينا بالمئات من أبناء قبائل حاشد و”بني الحارث” الذي حلوا ضيوفاً على القرى المجاورة, وقبيل الغروب عدنا مبتهجين إلى مواقعنا السابقة بعد أن حضرنا لقاءات الشيخ “الأحمر” وبقية مشايخ وعقال حاشد مع أبناء قبائل المنطقة. وأخبرنا بما تم الوصول إليه من اتفاق على موعد محدد لدخول مواطني بني الحارث وبعض من “أرحب” و”همدان” إلى صنعاء. وكانت رحلتنا تلك الحلقة الأخيرة في مهمتنا في مطار الرحبة, لم نلبث بعدها سوى أقل من أسبوع وتلقينا أمراً بالعودة إلى العاصمة بعد أن وضعت الحرب المسلحة أوزارها لتبدأ حرب أخرى بوسائل مختلفة.